أ. د. محمد كريم الساعدي - جماليات أصالة الوجود في الفكر الفلسفي

قدَم الفلاسفة في العالم الإسلامي نظرة عن الوجود والماهية ، وهي تختلف عن النظرة الغربية ، ولاسيما في المرحلة التي تزامنت مع نشوء الإسلام وقيام أركان دولته وما بعدها، إذ اتجه الفلاسفة في العالمين العربي والإسلامي الى مسألة الوجود وربطها بالإله الواحد ، وبدأت مرحلة البحث عن الوجود على وفق هذه المسّلمة ، ولكن بطرق وأساليب مختلفة بحسب نوع النظرة الفلسفية والفكر الفلسفي في المدارس الإسلامية المختلفة ،علماً بان هذه الطرق الفلسفية استندت في اغلبها الى المصادر الفلسفية اليونانية ،ولاسيما ما عرف بالاتجاهين الرئيسين في الفلسفة اليونانية (الأفلاطوني، أو ما أطلق عليه في العالم الإسلامي بالفلسفة الإشراقية )، والثاني (الأرسطي أو ما نسميه بالفلسفة المشائية) ، حتى انقسم فلاسفة في العالم الاسلامي الى إشراقي و مشائي ، ومن ثم أصبحت النظرة الى الوجود تأخذ احد الاتجاهين .

إن القول بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهية توزعت بين الفريقين مثلما توزعت المرجعيات الفلسفة اليونانية فيها ايضاً ،حتى أصبحت بلاد الغرب الإسلامي ترجع الى فلسفة (أرسطو) ، ولاسيما عند (أبن رشد) من خلال ترجمته (لأرســـطو) ومؤلفاته ، إذ إنَّ بلاد الشــرق ترجــــع الى فلـــــسفة ( أفلاطـون ) ولاسيما مع تبني شيخ الإشراق (السهروردي) لمقولات (أفلاطون) الفلسفية في إثبات أصالة الماهية.

انطلقت فلسفة الأصالة والاعتبار بين الوجود والماهية من أراء كل من (أفلاطون وأرسطو ) ، فقد سعى (أفلاطون) الى حل إشكالية المعرفة بتقرير عالم المثل وصرف العلم الى الماهية الثابتة ،الأصيلة، وعلى الرغم من ذلك ،فأن (أرسطو) ، هو أول من وضع (الأرغون) في محاولة لضبط عملية التفكير ،واستقراء قوانين الفكر الإنساني ، يحاول عبر آلته المنطقية ،إنزال فلسفة الى العيان ، وجعل القياس سبيلاً من العام الى الخاص ، ومن الكلي الذهني الى الجزئي الواقعي ،وهكذا كان انتساب (أرسطو) لأصالة الوجود ،بل عَدّ من المؤسسين الرئيسيين له .

إن نظرية أصالة الوجود في الفلسفة الإسلامية لم تطلق بشكل صريح وواضح، بل كانت هناك أراء تنادي بها ،لكن دون التنظير لها على العكس من أصالة الماهية التي وضع أسسها في الفلسفة الإسلامية ونظر لها بشكل صريح شيخ (الإشراق السهروردي )، مما دعا ذلك الى ظهور فيلسوف آخر في الشرق عمل على إيجاد نظرية فلسفية تقوم على أصالة الوجود ،وأسس لها بشكل جلي الفيلسوف (صدر الدين محمد) وموقفه هذا يعد موقفاً نقيضاً لما دأبت علية الفلسفة الإسلامية في الشرق التي كانت تنادي بأصالة الماهية .

إن المصادر التي استقى منها (صدر الدين ) فلسفته في الوجود هي: (الفلسفة المشـائية ، وتراث المتــكلمين المرتبطة بالمصادر العقائدية ، والعرفاء المتصوفة ) والمصدر الأخير (العرفاء والمتصوفة) الذين طرحوا فكرة وحدة الوجـــود، إذ طرحت وحدة الوجـــــود وبحثت للمرة الأولى وتمت صياغة أصولها النظرية بشكل تام في تراث الشيخ (محي الدين بن عربي) ، ثم أضحت هذه المسألة محوراً لأفكار (جلال الدين الرومي)في كتابه الشهير (المثنوي)،وبعد ذلك من خلال تراث العرفاء عبرت هذه الى البحث الفلسفي عند (صدر الدين ) .

تقوم نظرية أصالة الوجود في الفكر العربي والاسلامي على ثلاث مراتب للوجود ، سعى الفلاسفة المسلمون الى إثباتها وهذه المراتب الثلاثة هي :

  • أولا:- الوجود الحق : هو الوجود المجرد عن جميع الألقاب والأوصاف حتى عن هذا الوصف . وهو أعلى درجة الوجود التي لا يمكن وصفها إلا بأنها أعلى الدرجات ولا حد لها إلا أنها لا حد لها. وهذا الوجود متفق عليه في الفلسفات الإسلامية حتى أن القرآن نص عليه في قوله تعالى :"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
  • الوجود المطلق : وهو عبارة عما لا يكون محصوراً في امر معين محدوداً بحد خاص .وهذا الوجود يقع خارج المحسوسات كما هو الأول ، ويختص هذا الوجود بخصوصيات مراتبية غير خارج عن المراتب نفسها.
  • الوجود المقيد : وهو خلاف الوجود المطلق كالإنسان والفلك والنفس والعقل وجود الأعيان والماهيات والإمكانية التي احتاجت الى الحيثية التقييدية والواسطة في العرض، كما احتاجت الى الحيثية التعليلية في حمل الوجود عليها .
وهذا الوجود هو الذي يقع في عالم الإمكان، وهو الموضوع الذي سنركز عليه ، وهذا النوع الثالث من الوجود ، هو المتمثل في عالم الطبيعة والمحسوسات ، ويسمى بالوجود الممكن لإمكان حواس الإنسان من إدركه والتعامل مع معطياته العينية بطرق مباشرة ، و يقوم على الحقيقة العينية التي يقابلها العدم ، والتي يتألف منها الواقع الخارجي ، ويحكي عن تلك الحقيقة العينـية والواقعية الخارجية بمفـهوم الوجود العام البديهي ، الذي يعد من المفاهيم الفلسفية. وتكون أصالة هذا الوجود نابعة من وجوده بحد ذاته في الحضور العياني الخارجي، وليس من ماهيته ،أو ما يراد من الألفاظ المقرونة به ، أي أن الأصالة المقصودة في هذا النوع الثالث من الوجود هي الأصالة الحقيقة العينية ، وهي الخارجية التي يترتب عليها الآثار ، وليس بأصالة الوجود أصالة المفهوم ، ولا أصالة المعنى الحرفي للوجود ، لأن المعنى الحرفي ،سيكون مرتبطاً بماهيته المرسومة في ذهن المتلقي للشكل الوجودي للموجود.

إن الآثار المترتبة على التكوين الأنطولوجي للموجود ،هي التي تعطي الصور الخارجية له ،وتشكل هيأته التي تنتقل بالمشاهدة الى صورة ذهنية الى عقل المتلقي، ولذلك يكون لهذه الحقيقة الوجودية ثبوتاً وتحققاً بنفسه ، بل الوجود عين الثبوت والتحقق ، وان للماهيات – وهي التي يقال في جواب ما هو ، وتوجد تارة بوجود خارجي فتظهر آثارها، وتارة بوجود ذهني فلا يترتب عليها الآثار – ثبوتاً وتحققاً بالوجود ، لا بنفس ذاتها ، وأن كانا متحدين في الخارج، أن المفاهيم الاعتبارية العقلية - وهي التي تنتزع من الخارج ، وإنما اعتبرها العقل بنوع من التّعمل لضرورة تضطره الى ذلك ، كمفاهيم الوجود والوحدة والعلية ونحو ذلك – أيضا لها ثبوت بثبوت مصاديقها المحكية.

إن للوجود حقيقة عيانية مستقلة بذاتها ، وأن الماهية هي أمر يرجع ليس لجوهر الموجود ، بل لما يسمى الأمر العارض ،وهي مختلفة باختلاف العارض الذي يحمل على وجود الموجود ،أي أن أصالة الوجود الممكن حقيقة مستقلة، وأن الماهية هي ليست أصله بل هي مضاف اليه ، أو هو زائد عليها ، على اعتبار أن لكل موجود أصيل ماهية عارضه على وجوده ،وهذا الأخير زائد عليها ، فكل وجود ذو ماهية ، هو ممكن ، وكل ممكن هو زائد الماهية ، ومن ثم فالماهية هي من خصائص الوجود الإمكاني لا الواجب.

يقسم الفكر الاسلامي الوجود الممكن الى قسمين رئيسين هما (جوهر وعرض)، أما الجوهر فيقسم الى خمسة أقسام هي المادة والصورة والجسم والنفس والعقل .مستند هذا التقسيم في الحقيقة إستقراء ما قام على وجود البرهان من الجواهر . فالعقل هو: الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً وفعلاً . والنفس هي : الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً والمتعلق بها فعلاً . والمادة هي : الجوهر الحامل للقوة . والصورة الجسمية هي : الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاثة . والجسم هو : الجوهر الممتد في جهاته الثلاث.

أما (العرض) فقد قسمه الى تسع مقولات وهي (الكم والكيف وألاين ومتى والوضع والجدة و الإضافة وان يفعل وان ينفعل )، وهذا ما تفق عليه المشاؤون مستندين في ذلك على إستقراء الأعراض . ويقسم الكم في أقسامه الأولية : الى الكم المتصل : وهو ما يمكن أن يفرض فيه أجزاء بينهما حد مشترك ، والكم المنفصل : وهو ما كان بخلاف المتصل. أما الكيف فقد قسمها الى أربعة أقسام ، الأولى : الكيفيات النفسانية ، مثال ذلك كـ(العلم والإرادة والجبن والشجاعة )وغيرها . والكيفيات المختصة بالكميات ، مثال (الاستقامة والانحناء والشكل ). والكيفيات الاستعدادية، مثال (الانفعال واللين) . والكيفيات المحسوسة المختصة بالحواس الخمسة .أما (الأعراض) المتبقية في : الأين : هيأة حاصلة من نسبة الشيء الى المكان .ومتى : هيأة حاصلة من نسبة الشيء الى الزمان . والوضع : هيأة حاصلة من أجزاء الشيء بعضها الى بعض والمجموع الى الخارج . والجدة : يقال لها(الملك )وهي هيأة حاصــلة من إحــاطة شيء بشيء بحيث ينتقل المحيط بأنتقال المحاط . والإضافة : هيأة حاصلة من تكرر النسبة بين شيئين . والفعل : هيأة حاصلة من تأثـير المــؤثر ما دام يؤثر . والأنفعال : هيأة حاصلة من تأثير المــتأثر ما دام يتأثر .

ويرى الباحثون في الفكر الاسلامي بأن للوجود مفهوماً عاماً ينتزع من الوجود العيني ولهذا يضع ثلاث مقدمات لهذا الانتزاع وهي كالآتي :

  • عند مواجهة الشيء الواقعي فأننا نكون ،أما مفهومين الأول هو الوجود وهو مشترك بين المشاهدين والثاني ،وهو مختص وهو الماهية .
  • ان المفهوم المشترك بين المشاهدين للشيء هو الوجود ، والمختص هو الماهية ، ومن ثم يقع هذا التصور تحت بحث زيادة الوجود على الماهية على أعتبار أن تكرر الوجود عند المشاهدين يكون أكثر من مفهوم الماهية المشكلة ذهنياً عند كل مشاهد ، وبحسب ثقافته ومعرفته بذلك الشيء .
  • إن انتزاع أي مفهوم حاكي عن الشيء (المشاهد)،يتوقف على مدى تحقق الأمر المنتزع عنه خارجاً، وإذا لم تتحقق المعرفة بالشيء ،أو المطابقة في الافهامية بين الشيء والمشاهد فلا تحقق محاكاة الشيء ذهنياً ، ومن ثم لا يكون التواصل المعرفي موجود .
ويضع المفكر الاسلامي للوجود مراتب يجعلها موزعه ليس فقط بين الداخل والخارج ،أو بين الوجود والماهية بل تأخذ صيغاً أخرى وهي كالآتي:

  • الوجود الكتبي :- وهو عبارة عن مجموعة من النقوش الخطية المجعولة والموضوعة من لدن الواضع وهو الإنسان ، وفائدتها الحكاية عن الألفاظ بدلاً من النطق بها ، فالكتابة وجود جعلي اعتباري حاك عن الوجود اللفظي للأشياء.
  • الوجود اللفظي : وهو عبارة عن أصوات مشتملة على تقاطيع الحروف موضوعة من قبل الواضع ،وفائدتها الحكاية عن المفاهيم الذهنية ، وهي حكاية قائمة على أساس العلاقة الوضعية بين اللفظ وبين المفهوم في الذهن.
  • الوجود الذهني :- وهو عبارة عن مجموع المفاهيم الذهنية الحاكية عن مصاديقها في عالم نفس الأمر ،فكل مفهوم حاك عن مصداقه النفس الأمري وان كان مفهوماً عدمياً ، إذ إن مفهوم العدم يحكي مصداقه في نفس الأمر، وإن لم يكن له مصداق في الواقع الخارجي.
إذن، فأن نظرية أصالة الوجود تعطينا التصورات التي يمكن ان نبني على وفقها التكوين المسرحي وكما يأتي:

  • الوجود هو وجود الأعيان والماهيات التي تحتاج الى حيثية تقييدية وواسطة في العرض ، وكذلك تحتاج الى حيثية تعليلية في حمل الوجود عليها ،ويكون أما بالحمل الذاتي أو بالحمل التركيبي .
  • ان للموجود آثاراً تترتب عليه صور خارجية وصور داخلية ذهنية ، وبذلك يتحول هذا الوجود الى وجودين خارجي يترتب عليه أثار ووجود ذهني لا يترتب عليه آثار في داخل الذهن .
  • ان الوجود الذهني لا يأخذ شكله في داخل الذهن دون وجود ماهية للوجود الخارجي ، هذه الماهية تكون مضافة الى الوجود الخارجي ،وكذلك زائدة عليه وتكون رابطة بين الوجودين الخارجي والذهني.
  • ان الماهية هي صورة وشكل لا تعود الى جوهر الوجود بل الى العرض الناتج عن الوجود الخارجي .
  • الوجود يقسم الى جوهر وعرض ولكل واحد منهما له تقسيمات تكون الوجود وأصالته واستقلاليته عن الماهية ، بل ان الماهية تأخذ أعتباراتها الثلاثة (المجردة والمطلقة والمخلوطة) من الوجودات الثلاثة (الحق ، المطلق ، المقيد ).
  • للوجود ثلاث مراتب (كتبي، ولفظي ، وذهني ) هذه المراتب تعطي للوجود أمكانية منة خلال ووسائل للتعبير عن الوجود لتحقيق صوره أو إقرانها بمدلولات أخرى .
  • ان للموجود مفهومين عند المشاهد، الأول مفهوم مشترك بين المشاهدين ، ويسمى الوجود ،والثاني مفهوم خاص هو الماهية , ويكون الوجود أكثر زيادة وعدد من مفهوم الماهية، وذلك بسبب اشتراك المفهوم الأول بين المشاهدين ،في حين يبقى مفهوم الماهية خاص بحسب كل شخص يشاهد الموجود وبحسب خلفيته الفكرية والثقافية .
  • يكون الارتباط بين الوجودين الخارجي والذهني من خلال الحمل الذي يقع بين الموضوع والمحمول ، ويكون أما حمل ذاتي من ذات الموضوع ، أو حمل تركيبي من خارج ذات الموضوع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى