لؤي حمزة عباس - قنديل بحر يلازمني

لم أعد أذكر المرّة الأولي التي أنتبهت فيها لوجوده محلّقاً فوق رأسي،يقترب أحياناً من أذني ثم ينقطع عن الحركة كأنه يهمس بشيء ما يخص قناديل البحر،ولم يعد بإمكاني التصديق بأنني كنت حراً ذات يوم، بلا قنديل بحر.في المساء بعد عودتي إلي المنزل يبتعد قليلاً من دون أن يتركني أغيب عنه، يستقر أعلي الثلاجة أو علي رف الصحون أو يحافظ علي تحليقه في فضاء المطبخ، يواجهني بهيئته الجرسية الشفافة وقبعته الهلامية مواصلاً اندفاعاته القصيرة كما لو كان ما يزال يعوم في البحر، أحاول تجاهله وأشغل نفسي بتناول العشاء وغسل الصحون ثم أجلس أمام التليفزيون إمعاناً في تجاهله، أمرّ علي القنوات باحثاً عمايشدّ انتباهي فلست ممن تستهويهم برامجه، حتي متابعة الأخبار أقلعت عنها منذ بدأوا يضعون تحذيراً قبل النشرة يذكّربأن المواد الإخبارية تحتوي مشاهد عنف لا تناسب بعض المشاهدين، أنتقل من قناة إلي أخري وقد خفضت الصوت حتي أحسّ بالنعاس مع تتابع الوجوه الخرساء في مشاهد سريعة غير مترابطة،أنهض بعدها متوجهاً إلي غرفة النوم، يترك القنديل مكانه ويمضي معي، أستلقي علي السرير وأراه يواصل حركته المعتادة فوق رأسي، “ألا تنام أنت أيضاً؟”، أسأله وأعلم أنه لن يردَّ هذه المرّة أيضاً فلم يسبق له أن ردّ علي أسئلتي،أطفيء المصباح وأتصوّر حركته القصيرة في الظلام مثل حشرة لها أكثر من ذيل أو طائر صامت صغير.لم يحدث أن تنبّه أحد للأمر علي الرغم من اصرار القنديل علي ملاحقتي في كل مكان، وغالباً ما أشعر بالضيق منه عندما أكون محشوراً بين الناس في مصعد أو باص أو أحد الأسواق القديمة الضيقة، أتابعه بطرف عيني وأتساءل مع نفسي ماذا لو انتبه له أحدهم، مشهد لا يخلو من غرابة، سيمدّ يده من بين كتلة الأجساد ولو علي سبيل التسلية محاولاً الإمساك به، لكن اليد تخطئ هدفها ولا يعود للقنديل وجود، يتراءي لي المشهد بالتفصيل بطيئاً وبلا صوت، كل مرة أفكر برجل يحاول الامساك به وغالباً ما ينتهي تفكيري باختفاء القنديل، لكنني أراه يندفع بعد دقائق محلّقاً فوق رأسي فور أن أنزل من الباص أو أخطو خارج المصعد أو أسحب نفسي خارج السوق.حاولت التخلص منه مرّات بنشّه كما يُنشّ الذباب وبمراوغته والزوغان منه عندما أكون خارج المنزل، يغيب قليلاً ثم سرعان ما يعاود التحليق فوق رأسي.
فتحت جهازي المحمول وكتبت علي صفحة البحث (قنديل البحر) بانتظار أية معلومة تعينني في الخلاص منه، لكن ما قرأته محيّر حقاً، فبعد تصنيفه وصفاته وأماكن تواجده استوقفتني فقرة بعنوان (الخلود) لا تخص عمره الطويل علي الأرض، بل تبدأ بجملة عجيبة رسخت في ذهني”هذا النوع من قناديل البحر لايموت”، أخذت بعدهابشرح الكيفية التي يديم بها حياته كلما بلغ الكهولة بالعودة إلي مرحلة سابقة، وكلما أحسَّ بالخطر أو أصابه جوع شديد، ليلتها لم أطفيء المصباح ولم أغمض عيني، بقيت محدّقاً فيه أفكر في الخلود الذي يسجن كائناً ضئيلاً يشبه الجرس يلمس الأبدية مع كل إندفاعة من اندفاعاته التي لا تنقطع، وفي معني أن أقضي ما تبقي من حياتي بصحبة قنديل بحر لا يموت.



عن اخبار الادب المصرية



لؤي حمزة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى