جعفر الديري - الحَيّ العتيق.. قصة قصيرة

طرق الباب بهدوء يناسب بيت أرملة مسنّة. ولم يلبث طويلا حين أطلّت امرأة، سارعت إلى إخفاء وجهها بطرف ثوبها.

ابتسم، وقد تخايلت لعينيه تلك الأيّام البهيجة من طفولته:

- السلام عليكم.

ردّت المرأة، متطلّعة إليه بعينين كليلتين:

- وعليكم السلام.

- ألست الحاجة أم علي؟

- نعم.. ومن تكون؟

- أنا عيسى بن الحاجة خديجة.. كنا نسكن قريبا من هنا.. ألا تذكرين أمّي أم أحمد؟!

وكأنّما استيقظ زمان عزيز على نفس المرأة، دفع حدقتيها إلى الانفتاح، وشفتيها إلى الإنفراج بابتسامة طيبة.

- أهلا بك يا ولدي.. كيف أنت وكيف هي أمّك؟!

- بخير ولله الحمد.. كانت تتمنّى زيارتكم لولا الروماتيزم اللعين.

- ساعدها الله.. وأيّ منا لم يصبه الضعف والوهن.

- هل الحاجة أمّ محمود بالداخل؟

- نعم.. إنّها على فراشها.

- أرجو أن تستئذني لي بعيادتها.

- انتظر ريثما أخبرها.

وغابت في الداخل لدقائق. كانت كافية ليجول بعينيه في المكان الذي لم يتغيّر فيه شيء. حتّى البيوت، احتفظت بطابعها القديم. بيت سيد محمد. حيث التراب يشغل نصف مساحة البيت. كان ملتقى الأطفال.

وبيت الحاج جواد. حيث يجتمع أبوه ككُلّ رجال الحَيّ في المجلس العامر. وحيث "بياعة" الحاجة زهرة، المليئة بأكياس المينو وآيسكريم الحليب المصبوب في كؤوس من النحاس، والبالونات مختلفات الأشكال.

ومجلس النسوة في بيت الحاج إبراهيم، ترتفع فيه عقائرهن عصرا بالبكاء والنحيب. والمسجد الكبير، حين يؤذن المؤذن فلا يتخلّف أحد عن الصلاة فيه.

ذكريات أشعرته بالأسف لفراق الحَيّ العتيق، والانتقال إلى آخر لا حياة فيه. يغلق الناس فيه أبوابهم، ويتجنّبون بعضهم!.

وعادت المرأة، داعية إيّاه للدخول. وما ان وطئت قدماه أرض البيت، حتّى غمره شعور بأنّه ذلك الطفل ذو السبعة أعوام. من كان يقضّي جزءا من يومه مع عادل ابن صاحب هذا البيت. من اختطفه البحر طفلا في مثل سنه!.

وعجب لتصاريف الأيام. فإنّ الصورة التي حفظتها ذاكرته للبيت، ظلّت كما هي. فهو دون سقف. معرّض للمطر والغبار والرياح. وفي صدره، غرفة مفتوحة الباب، على يمينها المطبخ. وقام حمّام على يمين الداخل. يقابله درج يفضي إلى السطح.

واقترب من باب الغرفة. فطالعه وجه امرأة مستلقية على سريرها. ميّزها على رغم الظلام.

وتوجّه لها وطبع قبلة على رأسها الأشيب..

- أجلس هنا.. أودّ أن أراك جيدا.

جلس على الكرسي، فيما توجّهت الحاجة أم علي إلى المطبخ.

- فيك الخير أنّك تذكّرتني يا ولدي.

- أنا لم أنسكم لحظة يا خالة.

- أنت أفضل من ذلك الولد العاق.

وأدرك أنّها تعني ولدها محمود. من آثر أن يضاعف حزنها، حين اختار أن يبتعد عنها وعن أخواته. وأن يعيش في بلد شقيق، مع زوجة تختلف اختلافا كليّا عنها وعن بناتها. على رغم جرحها الذي لم يندمل بموت عادل!.

كان يكبره بخمسة أعوام. والحق أنّه لم يتفاجأ حين علم أنّه استقرّ بعيدا عن أمّه؛ لقد كان شديد الطموح!.

وأضافت في صوت غلبه التأثر:

- تصوّر!. مضى عام كامل منذ شاهدته آخر مرّة.

وشعر بحزن صادق يغزو قلبه. وحمد الله تعالى أنّه بارّ بوالدته. ولو كان محمود شخصا آخر، لقال إنها تبالغ بشأنه. لكنّه كان يعرفه جيدا. ويدرك أنه شاب سيء.

- إنّه يكتفي بالتحدّث إلي هاتفيا، وكلّما أبديت له اشتياقي، وعدني ثم لم يف بوعده.

- لعّله مشغول بالفعل.

- إنّه لم يحضر جنازة أبيه حتّى!.

وأضافت بصوت ضعيف:

- لو كان عادل حيا يرزق لهوّن علي كل شيء.

وآمن في دخيلة نفسه بكل كلمة نطقتها المسكينة. لو كان عادل حيا يرزق لرعاها وقام بحقّها على أكمل وجه.

وقال محاولا أن يزيل شيئا من تعاستها:

- لقد أنجبت ولدي البكر وأسميته عادل.

فاضت عينيها بالدمع، على رغم أنه أراد التخفيف عنها:

- فارعه إذن يا بني، ولا تتركه يغيب عن ناظريك.

وعلى رغمه غلبته الدموع، فجرت من عينيه.

كان عادل إلفه الذي يلازمه. كان معه لآخر لحظات حياته.

عادل الطفل الضحوك، كان يمرح معه ومع لداته سعيدا في البحر. حين أقبلت موجة بغيضة، أخذته بعيدا. ظلوا ينادون عليه، لكنهم كانوا أطفالا لا حول لهم ولا قوّة!.

جاءت أمّ علي بالفاكهة. فشكر لها أنّها أنقذته من هذا الموقف. تناول منها قطعة من تفاحة. راح يمضغها فيما عيناه لا تغادران الأرملة المريضة.

وكان يتمنّى أن يمكث وقتا أطول، لولا أن لحظ تعبها، وحاجتها للنوم. فاستأذن، واعدا بزيارة أخرى.

غير أنه ما إن اقترب من باب الخروج، حتّى شعر بعينين تلاحظانه!. التفت للخلف بسرعة، فوجد عادل يبتسم له.

شبح لا شك!. ارتعش له جسمه. لكنه كان عادل بالفعل. بثوبه الأبيض، وابتسامته الرائعة.

بادله الابتسام، فتوارى. وأدرك أنّ عادل لم يكن ليفوّت فرصة إلقاء التحيّة على صديق الطفولة، بعد كلّ هذه السنوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى