أمل الكردفاني- العالم الخلفي- قصة

"عندما تعتريني نشوة الفنانين، أفكر بجدية في المال، وأن اكون رأسمالياً.. بعبث طفولي تدور تلك الرغبات العابرة فوق بعضها كما لو كانت جمجمتي خلاط. أن اكون ثرياً..ثرياً جداً، وافكر بجدية في تحطيم ألوان الباستيل ودهس الزيتية بعقب حذائي. ثم الخروج شاهراً صدري لأنشئ شركة استيراد وتصدير...هل مررت بلوثات الفنانين هذي؟ إن لم تمر بها فأنت لست فناناً، لأن الفنان الذي لا يعبر بمرحلة الإحباطات المتواصلة، حيث يُلقي بأوراقه في القمامة، ثم يعود بعد يومين للبحث عنها بين أكوام الأوساخ العفنة ليس فناناً. لماذا ليس فناناً، ألا يوجد فنانون محظوظون ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب؟ نعم يوجد، ولكن أين لذة المعاناة..لذة الإحباطات والخوازيق المتواصلة وكآبة الإحساس باللا جدوى واللا معنى، وشعورنا بعبثية ما نقوم به من أنشطة فنية داخل انفاقنا المظلمة..أنفاق تبدوا كما لو كانت بلا نهاية..وهي كذلك بالفعل..ففي تلك اللحظة التي تنال اهتمام العالم تفقد كل تلك المتعة، متعة ملاحقة الألم..تصفو السماء بعد فوات الأوان..هؤلاء هم الفنانون من أصحاب الانتصارات المهزومة..لكنها انتصارات مستمرة وهزائم مستمرة.. نبدو محرجين كراقصة باليه سقطت على المسرح..لأننا نبدو أمام العالم بلا نفع حقيقي وكأننا لا نفعل شيئاً.. نبدو بأننا قابلين للاستبعاد دون أن يتأثر العالم باختفائنا من الوجود..أليس كذلك..لذلك يا رفيق فني لا تبتئس..فأنا لا أفكر في الانتحار مثلك، فإن السعادة في قمة الألم.. نحن كفنانين مغمورين أكثر الناس سعادة إذ نملك حلماً وأملاً وغداً لا يأتي أبداً"..
كان ينظر لعينيه مرتخيتي الأجفان، وجسده المتكاسل على مقعد خشبي..كان جامداً تماماً...
"لا أعرف بماذا قتلت نفسك؟ لكنها طريقة مهيبة للموت،..لا يفعل السم ذلك..أبداً..لا يموت المرء منتحراً هكذاً على كرسيه بمثل كل هذا البهاء إلا إن كنت قد أوقفت نبضات قلبك بإرادتك..وهذا مستحيل علمياً..ولكنه ليس بمستحيلٍ فنياً..فنحن أبناء كون موازٍ كما يقول الفيزيائيون..نحن فورميونات قصيرة العمر ولكنها تمنح العالم تاريخه..وداعا يا رفيق الفن..سأتركك الآن في عالمك الخلفي"..
نهض ثم أغلق باب المرسم وظلت جثة رفيقه داخل ظلام المرسم متكاسلة فوق كرسيها..بعينين تحيطهما أجفان خائرة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى