ماجد سليمان - آلاتُ المـغيب (1)

1 ـــ رُسُومٌ على الخارطة العربية

ما الذي يرسمه الموت على الخارطة العربية؟! غير الأشلاء، وبقايا الأحشاء!! فكما هُوَ الموتُ، يتجوّل في السكك وأمام الأسوار ومن خلفها، يمشي الهوينى على قَدَرٍ مرسومٍ ليلتقط الأرواح المأمور بها، ويحملها مسافراً، يأتي من بعده تائهون يطوون الظلمات خلف قَبسٍ في يد شيخٍ يطرّز الأرض بغنائه المنبعث من صوته المريض، يغرف من ذاكرته القصيّة خبر الأوطان، إلى أن ينبسط على مدى بعيد.
عالمٌ يفيضُ جوعاً، على أكف ساكنيه تتعاقبُ حبّات النّمش كطوابير متداخلة، لذا سيتدبّرُ أمره بأن يموت كمداً، فعلى مدّ الأعوام الطوال، نرى في رُقع أسمال المتعفّفين قيمة العفّة وسموّ الصبر، أتأملهم يتفرّجون على أطفال البهجة والمطر يغسل ثيابهم وهم يركضون تحته يُغنون بجنونٍ عميق، الغناء الغناء، الغناء ليس ما يطرأ على ذهن البعض، إنه رتبة عالية في سلّم الكلام الساحر، والصوت النقي الندي، فالبوح أحدها، وإنشاد الشعر أرفعها، يُدركه المتفائلون من الآدميين، يستقبلون حصاد ما زَرَعهُ طموحهم كلهفة أرملةٍ تستقبل ابنها الغائب بعد سنوات الحرمان الطويلة.
يطلّ هلال العيد إثر العيد إثر العيد، وما برحت أرضنا العربية تئن تحت لسان طويل من النيران، ودخان قاتم السواد يكاد يبتلعها صحراء صحراء، جبلاً جبل، وادٍ واد، ولو لخصت ذلك سأقول: بلاداً بلادا.
هناك أُدباء في المنفى، كتبوا عن ألم أوطانـهم، هم أينما ذهبوا حملوها في قلوبهم، ومضوا بها كعشّاقٍ اختطفوا العشيقات، ألمعهم شاعرٌ يُنشد قصائده للغسق، عاش عاشقاً فمات من وطأة الشوق، مرميُّ ديوانه على دفّتيه، تُقلّب صفحاته رياح الصيف، وتترصّده ممحاة الدهر، إلى أن فارق الحياة بصمت، وبـموت الشاعر الحقيقي، يسقط من فم الكون مزمارٌ ذهبيّ، وتنشرم شفة الهواء، وتـهرم الأطيار، الشاعر الحقيقي أغنية الحياة، ووترٌ دقيقٌ في قيثارها الطويل، قصائده تُسْكرُ القلوب، تماماً كعصفور الحديقة، فلا معنى لحديقة لا تشدوا عصافيرها.

2 ـــ ظِلالُنا الـمَائِلَة

وما ناهدات الصدر إلا خواتلٌ يتبعن ظلالنا المائلة إلى الغياب الرماديّ، فعلام تعلكنا أضراس الشوق بشأنهنّ؟! وعلام يغسل القلق رؤوسنا بشلالاتٍ لا تقف ولا ترعوي ولا تجف ولا تهدأ لحظة؟! وكأنّي أراهنّ الآن، يجئن من وراء الأقاصي يـحدين أمامهنّ قطيعاً عريضاً من الإبل الـمنحدرات من سلالة الأسطورة، ماضياتٍ يُرسلن أغاني الصحراء إلى مسامع الإبل فتسرع أخفافهنّ على نعومة الرمل الذّهبي، ليستحيل إلى شذورٍ صغارٍ من ذهبٍ مبثوثٍ على الخدّ الأجرد.
يقبلن، فيطوين قلبي مثلما تطوي رواحلهنَّ الدَّرب إليَّ، حتى تستفيق كل جوارحي على نغمٍ دافئٍ يتدفّق كالسِّحر من حناجرهنّ القرينات لحناجر الطير، غاسلاتٍ براثن الجفاء عن أجفانهن الناعسات، ذاهباتٍ يُنشدنَ بزهو عميقٍ.
من بعدهنَّ، صار لي وجهٌ شاردٌ في صورٍ معلّقةٍ بعشوائية على جدار الزمن، وقد ألفتُ داعي الأمس حتى أسكنته صوتي، وكأنَّ زاجرات الطير أسقطن القدح من يدي، فما تزال الأطياف تقتلع الذكريات من قلبي اقتلاعاً، قبل أن أطأ الأرض حاسر الرأس، لاطفت أنفاسي هبوب باردةٌ عذبة، امتزجت بضحكِ فاتناتٍ يتهامسن غير بعدي منّي، قهقهة الصور العتيقة لا تفارقني، فإذا بحظّي يقف خلف ملكٍ يُنادي جلَّاديه وزبانيته: "قربوا النطع والسيف" فيقتادوني حيث يقف حظي، ليخطفني كما تخطف مناقير الطير سمين الفرائس، وتسافر بها إلى أعمق سماء.

3 ـــ قبضةٌ من أثر الـمدلـجين

أقبض قبضة من أثر المدلجين على تراب نجد، وأشتمّ فيها غناء النجديين السالفين، بعد أن فتق الأسى في روحي، خلتهم سيرفعون أصواتهم بالحداء، قِفَارٌ بمد البصر، تعوي ذئابها، وقرب أحجارها تتلوّى جوعاً دوابّها، في انتظار مريضٍ يسقط فيستحيل عشاءً لها، أو تائهٍ ظلّ طريقه، فتدفعه يد العطش إلى أفواهها الغارقة في لعاب الجوع اللزج.
وكأني أرى جملين عظيمين، على سنامهما نُصِبَ هودجين أحمرين، صُنعا من لحاء متين، وكُسيا بحياكةٍ سميكة القماش، شُدت بخيوط غلاظ، فيهما امرأتان ابنتا عم، يسوقُ الجملين عبدٌ خصيّ أُسِرَ في ليلةٍ ليلاء.
هناك غير بعيد، فارسان مصابان، محمولان على حصانين أشقرين، وشمسٌ تُريقُ على المغيب حمرةً داكنة، رمالٌ ذهبية مُشوَّهة بالدم، هضاب من خلف أخرى، والفارسان متحاملان على إصابتيهما حتى سقطا ميتين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى