فلاح العيساوي - أشواق وأشواك

لوعة الفراق تزيد في حرارة الاشتياق، تضطرب أحوال المرء عندما يدق الحب أبواب الروح، لا أعرف سبيلا لتحقيق الاستقرار في نفسي، قبل غروب شمس بغداد، أصعد إلى سطح دارنا في حي (البتاويين)، على الرغم من اعتدال الطقس والمناخ الجميل في سبتمبر، إلا أنني كنت اتصبب عرقا؛ وأنا أركض خلف سراب الأحلام الناقصة، بنت العشرين ذات الجسد الرائع والقوام الرشيق، ما زلتُ مستمرة في دراستي الجامعية في كلية الفنون الجميلة/ قسم الرسم. في الغرفة الواقعة على السطح كنت أضع أدوات الرسم، حملت اللوحة والمسند إلى خارج الغرفة، وضعتها عكس مغيب الشمس، وقفت اخلط الألوان الزاهية بريشتي الناعمة، بدأت اصبغ القماش الأبيض، مع كل حركة يخالجني شعور غريب وكأن هذه اللوحة البيضاء هي روحي النقية التي بدأت تفقد نقاءها بعد ذلك الموقف الجنوني الذي حصل في حديقة الكلية بين الأشجار الكثيفة مع زميلي الوسيم، لم أكن أتوقع أن تصل الجرأة به إلى هذا الحد غير المتوقع، ذلك البهلوان كما أطلق عليه، استثمر وقت الغفلة الممزوج باللاشعور؛ طبع قبلة بشفاهه الحارة فوق سطح خدي المرمري، قبلة غادرة أشعلت نيران قلبي الصغير الذي صار يعزف موسيقى وأغانٍ لم أكن أعرفها من قبل، في حينها وقفت مذهولة لبضع ثوان، ثم أخذت ألتفت يمينا ويسارا والذعر حليفي خوفا من العيون التي كانت تسترق النظر، حاول سامر زرع الاطمئنان في قلبي المرتجف كالمرجل المغلي، فقط اطمأن قلبي فعلا؛ عندما تيقنت من خلو المكان من أعين العذال، على الرغم من أن شعوري كان مزيجا بين المعقول واللامعقول وبين الرفض والقبول، إلا أنني كنت متأكدة من مشاعر واحاسيس حبيبي، لكن وجدت في تأنيبه راحة لضميري الذي بدأ يؤنبني على عمل لم اقترفه، حدثتني نفسي:

- وما ذنبي أنا فيما فعل سامر؟.

- أنت من فسح المجال أمامه يا بنت، لا تدعيه يكرر فعلته من جديد.

غروري وأنوثتي ترغب بالمزيد، نداء أمي من وسط حوش الدار طوى صفحة الشرود مع ذكرى بطعم العسل، أطللت الحوش واعلمت أمي بمكان تواجدي، رجعت إلى لوحتي فوجدت فيها أشياء لم أتوقعها، أشجارا وشمسا، ساقية يجري فيها الماء، قلبين متقابلين أخترقهما سهم أسود، ينزفان دما.

ابتسمت فرحا على موسيقى لوحتي المجنونة التي تكونت في لحظة من اللاشعور، حيث كان للعقل الباطن سطوة على الواقع، توجست في نفسي خيفة من رؤية أمي لها؛ أخذت اللون الأبيض واخفيت القلبين والسهم والنزف الأحمر، جمال الطبيعة الخلابة في لوحتي أشرق بأمل وتفاءل لقادم أيامي.

***

تصفيق ناعم خفيف، جاء من خلفي، ألتفت؛ فوجدت أمي التي أخذتني بالأحضان مع قبلات شفافة زادت من نسبة الفرح المختلط بالخجل والذي ذكرني بلحظة يوم مضى مع الحبيب.

- ماما شكو، خو ماكو شي؟

- ماما ما كو شي، بنتي الغالية وأحب اشبكها وابوسه.

أخذت أمي تنظر إلى اللوحة، تذكرت ممانعة والدي الحبيب في دخول كلية الفنون الجميلة، عندما ظهرت نتيجة امتحان مرحلة الإعدادية، كانت درجاتي عالية تؤهلني لدخول كلية الآداب، هو يعشق اللغة العربية ويعشق الأدب والشعر والسرد والنقد الأدبي، كان يرغب أن يرى في أشواق شاعرة وكاتبة وروائية لها أسمها الكبير وحضورها في الساحة الأدبية العراقية والعربية، هذه الرغبة لم تكن تأتي لولا معرفته بقدراتي؛ فقد كتبت الشعر والقصة والخاطرة بموهبة منقطعة النظير، أنا أملك خيالا واسعا وخصبا، لكن على الرغم من هذه القدرات الذهنية؛ كنت اميل إلى فن الرسم والنحت أكثر، وهو ما قوى رغبتي بدراسة فن الرسم والفنون الشبيهة، وبالأخير تحققت رغبتي بفضل أمي التي أقنعت والدي.

قبل نزول أمي من سطح الدار طلبت مني النزول قبل أن يجن الليل وتختفي الشمس في تخوم الأرض، هي تخاف علي من البقاء في مكان مظلم دامس، مع نزول أمي هطلت دموعي بسرعة مثل حبات مطر مصدرها سحابة صيف، على الرغم من ممانعته لرغبتي في الدراسة إلا أنه بقي يشجعني بقوة على التفوق في دراستي، وكان يفتخر عند حصولي على أعلى المستويات وخطط معي لإكمال الماجستير والدكتوراه بعد التخرج من الجامعة، ذلك الأب الحنون؛ خطفته يد الإرهاب الأعمى، لا زلت أتذكر ذلك اليوم الأسود، في عطلتي الصيفية الأولى وبعد ظهور نتيجتي وفرحة الجميع بها، على عادتي كنت أهيئ وجبة الإفطار مع أمي في المطبخ، وضعت (الصينية) وجلست مع أبي وأمي، كنت أحاول أن يكون أخي الوحيد والأكبر معنا على تلك المائدة المستديرة، باسم يستيقظ يوميا بعد آذان الظهر، فهو يتولى إدارة مطعمنا الصغير في ساحة الأندلس القريبة من مبنى اتحاد أدباء العراق، بعد عودة أبي ظهرا من العمل للراحة.

أخذت أضرب فخذيّ بدون شعور: (كم تمنيت لو كنت أعلم بحدوث الانفجار الانتحاري في ذلك اليوم، لما ايقظت أبي من نومه، تبا لذلك الجسد العفن الذي قاد السيارة واوقفها أمام مطعم أبي، أيها الحاقد ما ذنبي وذنب أمي حتى جعلتني يتيمة الأب وجعلت أمي أرملة بلا رفيق وحبيب، أقسم أن لا قلب ينبض بالحب لديك، ولا عقل ينير دربك الأسود ولا دين يمنعك من انتهاك حرمة إزهاق الأرواح، أيها الجرذ الجبان، أذهب ومزق جسدك القذر في جحوركم بعيدا عن أزهار بلدي)، لم أكن أعلم أن صوتي ارتفع عاليا حتى وصل إلى أمي التي صعدت بسرعة وعانقتني وأخذت تبكي معي إلى حد التعب.

***

باسم يقضي أغلب النهار والليل في المطعم الذي تحول إلى خراب بعد الانفجار الهائل الذي أودى بحياة أبي واثنين من العاملين معه وحياة عشرات الضحايا من الناس الأبرياء، ساحة الأندلس التي ابتليت بأكثر من عمل ارهابي بسبب موقعها المهم في مدينة بغداد وتواجد بعض المستشفيات الكبيرة في محيطها، بعد مدة قصيرة من الانفجار استعاد فيها باسم زمام نفسه، فأصلح المطعم وعاد إلى سابق عهده يستقبل الزبائن من جديد، رغم الوجع والحزن؛ يفرح عندما يزوره بعض أدباء العراق، ويتحدثون عن أبي بكل خير وحب، أبي يعرف أكثر أدباء بغداد فهم يرتادون مطعمه ويعرفون اهتمامه بالأدب... أغلبهم اهدوا إليه أعمالهم الأدبية من شعر وقصة ورواية.

لاحظت عودة أخي اليوم على غير العادة، ما تزال الساعة الثامنة مساء، بقيت أراقب تحركاته، شاهدته يصعد السلم، انتظرت ثلاث دقائق، ثم تبعته خلسة... صعدت السلم دون أن أحدث صوتا، وقفت عند باب السطح أبحث عنه، شاهدته وهو يقف بجانب الحائط المطل على سطح بيت جيراننا أبو (سعاد)، بعد لحظات ظهرت سعاد؛ وقفت أمام باسم واضعة يديها بين يديه، عرفت سره فقررت النزول دون أن يحس بي أحد.

في الصباح انطلقت إلى كليتي والشوق يحدو بي نحو سامر الذي وقف أمام باب الجامعة مبكرا حتى يكون أول من يحتضن حبيبته، -هذا ما كان يفكر فيه لولا خوفه من المجتمع كما أخبرني سابقا- استقبلني بدل الاحضان بابتسامة شفيفة وأمسك يدي مثل كل مرة -كما كنت أحلم- دخلنا سوية وانقضى الوقت ما بين المحاضرات وبين اللقاء أثناء فترة الاستراحة، وعند الخروج من الجامعة اتفقنا على اللقاء في متنزه الزوراء عصرا هذا اليوم.

كنت أعرف أن عصر هذا اليوم تذهب أمي إلى الدكتور في شارع السعدون مع جارتنا أم سعاد، لذا أكملت استعداداتي للخروج من البيت، ارتديت (البوشية) وضعت العباءة فوق رأسي وخرجت مباشرة بعد خروج أمي، وجدت سامر يقف في المكان المتفق عليه، ومضينا إلى الزوراء، في مكان بعيد عن الأنظار جلست أمامه ورفعت الغطاء عن وجهي، كنت ارتجف من الخوف والخجل، يرى سامر في ملامحي المضطربة رعبا أضاع لحظات الرومانسية، حاول أن يخفف عني، أمسك يديّ:

- لماذا أنت خائفة؟.

- هذه المرة الأولى التي أخرج فيها معك خارج الكلية.

- ألم أطلب منك عدم لبس الخمار والعباءة، فأنهما يثيران الشبهة في مثل هذه الأماكن؟.

- أوضحت لك من قبل، أنني أخاف أن يرانا أحد يعرفنا، فلست مستعدة لأية فضيحة.

- لا تخافي لن يحصل هذا الشيء.

من بعيد كانت عيون أمن المتنزه تراقبنا في غفلة تامة منا، سامر لم يكن يصبر على سرقة قبلة من خدودي المتوردة، على عادته الفنية، أخذ يمثل علي مشهد درامي في سبيل تنفيذ مخططه، فأنا لا اسمح له بالقبلة أبدا، هو ممثل حاذق ينجح في كل مرة، في لحظة مناسبة سرق من خدي قبلة أثارة غضب حارس أمن المتنزه؛ فهجم علينا، حركة أقدامه نبهتنا، سامر استطاع الهروب بتشجيع مني، لكني لم أتمكن من الهروب، أمسك بي الحارس واقتادني إلى مركز شرطة المتنزه، دخلنا إلى غرفة الضابط مع مجموعة من الشرطة، سأل الضابط قائلا:

- عريف حازم منو هذي وشمسويه؟.

- سيدي الحرس شافوها وي وأحد شرد جان يبوسه!.

ألتفت الضابط إلي قائلا:

- بنتي انتي منين ومنو أهلج ومنو الولد اللي جان وياج؟.

تمالكت نفسي وأشرت إلى الضابط أن يقترب مني، عندما أقترب همست في أذنه:

- أستاذ أرجوك أخرج الجميع من هنا حتى أتحدث معك بصراحة.

استجاب الضابط فأمر الجميع بالخروج، أُغلق الباب علينا، رفعت الخمار عن وجهي وقلت:

- أستاذ أرجوك لا تخذلني ولا تفضحني أنا أخطأت بالخروج مع زميلي، هو يحبني وسيطلبني للزواج من أهلي قريبا، وأقسم لك لن أكررها ولن أخرج معه إلا وأنا زوجة له.

الضابط إنسان شريف، يعرف معنى الفضيحة ويعرف ماذا تفعل الأعراف في مجتمعنا في مثل هذه الحالات، التي تزهق فيها أرواح محبة بريئة، نظر إلي وقال:

- بنتي ارجو ان لا تكرري مثل هذه الفعلة بالأيام القادمة.

تحرك الضابط نحو الباب، طلب مني أتباعه، سرت خلفه إلى أن وصلنا إلى باب المتنزه الرئيس، نصحني مرة أخرى وودعني بكل أدب.

مشيت ودموعي كانت تنزل بغزارة، تجربة كانت ثقيلة على نفسي، دقائق سمعت صوت سامر من خلفي يقول:

- أشواق لا تخافي أنا معك.

اوصلني إلى مكان قريب من الدار وظل يشيعني بنظره حتى ولجت من الباب، أمي ما زالت عند الطبيب، وأخي في المطعم، دخلت إلى الحمام أغسل رذاذ المحنة عن جسدي المتعب، خرجت وما تزال روحي مثقلة بالحدث، أردت الحصول على فرصة للترويح عنها، فكرت بسعاد، صعدت إلى السطح وناديت عليها، بعد السلام أخذت أحدثها عن نفسي وطموحي وعن الحب الذي أنتظر زيارته، شاهدت في وجهها احمرارا، فقلت لها يظهر عليك أنك تحبين، أنكرت في البداية، لكنها اعترفت بعد أن واجهتها بمعرفتي عن علاقتها بأخي واللقاء معه في نفس هذا المكان، رأيت خوفي ذاته في عينيها، طمأنتها ووعدتها بأني سأكون سببا في زواجها من باسم قريبا.

***

في جلسة خاصة مع أمي رتبت معها موضوع زواج أخي، أمي كانت تنتظر هذا اليوم بشوق باذخ، كلنا بحاجة إلى الفرح والسرور، رغم جراحنا وجراحات بغداد العميقة، بغداد دوما تنتصر بوجه الإرهاب الذي يريد قتلها، كم هذا الإرهاب أعمى وغبي؟ متى يدرك أن بغداد هي التأريخ وهي الحضارة وهي كل معاني الجمال والحياة، غبي من كان يظن أن بغداد ستموت.

باسم كان يخشى على مشاعر واحاسيس أمي، لذا بقي صامت يكتم حبه ورغبته بالزواج من سعاد، -هذا ما عرفته من سعاد في لقائي الأخير معها- على الرغم من مرور أكثر من عام على استشهاد أبي إلا أنه فضل الصمت على الكلام، بعد عودته ليلا من المطعم، فتحت معه موضوع الزواج بحضور أمي... أراد أن يطوي صفحة الموضوع، لكن بعد إلحاح أمي وحديثي معه وافق بمشروع الزواج وبناء أسرة جديدة في بيتنا البغدادي، عندما سألته: هل يوجد في بالك بنت معينة؟... عاد علي نفس سؤالي، فقلت له نعم، قال من هي؟!... قلت سعاد بنت جارنا، رحب دون أن يثير انتباهي وانتباه أمي إلى علاقته المسبقة مع سعاد... وأنا كتمت ما كنت أعرفه.

كم تمنيت أن يكون أبي معنا في مثل هذا اليوم السعيد، يوم زواج أبنه البكر، نفس هذا الشعور كنت أراه في ملامح وجه أمي وباسم، رغم السعادة التي تغمرنا اليوم إلا أن مكان أبي لا يعوض.

في اليوم التالي وبعد عودتي من الكلية، خرجنا العصر أنا وأمي إلى بيت سعاد، عندما فتحت سعاد الباب لم تتفاجأ بنا، فليس غريب عليها زيارتنا لهم، وهذا دأب أغلب العوائل البغدادية التي لا تفضل الانطواء على نفسها، جلسنا مع سعاد وأمها، أمي فتحت الموضوع بالصلاة على النبي واله، وجه سعاد صار يتموج بألوان مختلفة، أما أمها فلم تتوان حتى وضعت يدها على فمها وأطلقت (هلهولة) دوت في وسط الدار.

بعد أقل من شهر تزوج أخي من سعاد وسط فرح الأقارب والجيران والأصدقاء، عرس باسم يوم جميل لن أنساه فهو الفرحة الوحيدة بعد الحزن والأسى الطويل على فقد أبي، باسم قرر أن لا يبتعد عن البيت وصمم أن تكون دخلته فيه، طبعا هذا القرار ارتحنا له كثيرا، فنحن لم نعتد على البقاء لوحدنا في البيت أنا وأمي.

وجود سعاد معنا في البيت زاد البيت بهجة وحياة، حتى باسم صار لا يتأخر خارج الدار ليلا.

علاقتي بسامر صارت تكبر على الرغم من قراري بعدم الخروج معه خارج الحرم الجامعي، يكفيني أن ألتقي به يوميا عدا يومي الجمعة والسبت، بقي يلح علي بشأن الخطوبة، كنت أرغب بما يريد لكن مخاوفي النفسية كانت بلا حدود، كنت أجيب على تساؤلاته: - دراستي حاليا أولى بالاهتمام، وما بقي على التخرج سوى بضعة أشهر.

(عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) كلمة كلما أتذكرها أحن إلى حضن أبي الذي كان يقولها لي على الدوام في أيام امتحانات أخر السنة، هذه المرة تذكرتها في كل يوم مضى علي وأنا أكتب سطور بحث التخرج، دموع الفرح تنزف من قلبي وأنا أقف بين زملائي زميلاتي في حفل التخرج، على الرغم من حضور أمي وباسم وسعاد، إلا أن قلبي كان يخفق بقوة لدفء حضن أبي وصدره، وفي ذات الوقت كان وجود سامر يسرني ويزيد علي سلوان مرارة فراقه.

بعد ستة أشهر من تخرجي، رزق باسم وسعاد بمولود جميل، حتى يبقى اسم أبي في بيتنا أسماه باسم (يوسف)، الدنيا لم تسع سعادة أمي التي باتت لا تستطيع مفارقة يوسف بضع ساعات، عن نفسي كنت أضع أخر سطور في روايتي الأولى، التي كتبت في اهدائها:

إلى ذلك الملاك البشري

اهدي سطور روايتي الأولى...

علني أوفيه بعض حقه...

واحقق له جزء من أحلامه...

إلى روح أبي في السماء.

أشواق.

فاجئني دخول باسم إلى غرفتي، وجهه كان يتلألأ ويشع والابتسامة زادت حيرتي فيما يخفي، جلس بقربي وقال دون مقدمات:

- أعترفِ يا بنت، هل تعرفين شاب اسمه سامر؟.

ما بين القلق والتوتر، حاولت السيطرة على زمام نفسي، والمبادرة مني أفضل، حتى أكون أقوى من الوشاية، فقد يكون هناك شخص قد وشي لباسم عن علاقتي بسامر، فقلت:

- نعم.

- ومن أين تعرفينه؟.

- هو زميلي في الجامعة.

- لكن هو في قسم التمثيل، وأنت في قسم الرسم؟.

- نحن في جامعة واحدة ويحصل فيها تعارف وهو ممثل موهوب نشاهده في عروض على مسرح الجامعة.

ضحكات باسم أثارت في نفسي القلق أكثر، صرت اتوسل إليه أن يخبرني السر وراء سؤاله عن سامر، فجأة سكت عن الضحك وقال:

- لا تخافي يا فنانة، أو أقول يا أديبة أفضل؟ سامر شاب طيب جاءني إلى المطعم قبل ثلاثة أيام وطلبك مني، واعطاني رقمه وعنوانه حتى أسأل عنه واتصل به بعد سؤالي عنه، وقد سألت عنه وعن أهله وعرفت أنه وأهله أناس طيبون، هل أنت موافقة.

على الرغم من المفاجئة، إلا أنني أحسست بالراحة عندما فهمت أن لا وشاية في الموضوع، بقيت ساكته وساكنه لا يتحرك لي طرف، ضحك باسم وخرج من الغرفة.

***

بعد اللقاء بأهل سامر؛ أحببت أمه وأخواته، كن طيبات وكلامهن اراح نفسي، كنت متخوفة من الخروج إلى عائلة لا تتوافق معي، لا أرغب في حياة تشوبها المشاكل، كلما أقترب موعد الزفاف؛ تضطرب نفسي على الرغم من حبي الكبير لسامر، لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أترك أمي والبيت الذي ولدت فيه وعشت طفولتي اترعرع في أحضان أمي وأبي، كل شبر وكل جزء ومكان في هذا البيت له ذكرى تفوح بعبق الحب والحنان، زواج باسم ووجود سعاد ويوسف وتغيير وضع أمي الصحي إلى الأفضل، هونت علي الاستقلال بحياة زوجية سعيدة في بيت أخر، سامر لم يكن يترك يوما يمر دون الاتصال بي، أما عبر الإنترنت أو عبر خط الموبايل، عالم الإنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي كان لها الفائدة العظمى في زيادة معرفتي بأسرار الإبداع السردي، كنت أطلب صداقة أدباء عراقيين وعرب كبار، عندما أعرض عليهم نص قصصي أو شعري لا يتوانون في ارشادي إلى مواطن الخلل والضعف، استفادتي من تعليماتهم فضل لن أنساه مدى الحياة.

***

عرسي كان احدوثة الجيران في حينا، فرحتي اكتملت عندما أغلقت الباب علي وسامر في فندق عشتار المطل على نهر دجلة، مرت الساعات مثل حلم وردي يترك ذكراه الجميلة محفورة بإزميل على جدار الذاكرة، حبي بعد الزواج بدأ يصل إلى العشق والهيام، البهلوان أخذ يشق طريقه نحو الابداع والتميز في أدواره التمثيلية، لم أكن أتركه وهو يؤدي دورا على خشبة المسرح، حتى كنت أحضر تصوير مشاهد مسندة إليه، كنت فرحة جدا لما يؤديه، لا أعرف لماذا كلما أرى نفسي أسير على طريق الإبداع، تخطر على بالي كلمة: (من رحم الوجع يولد الإبداع)، كلما انظر إلى الكتب التي تركها لي أبي دون رجعة، أجد نفسي الرابح الأكبر من هذه الإهداءات فقد جنيت ثمار المبدعين وازددت معرفة بفنون الأدب العراقي وجمالياته الإبداعية، وقد تمكنت من زمام خيالي حتى كتبت القصة القصيرة والشعر، وقبل زواجي من سامر انتهيت من كتابة روايتي الأولى، لم افرط بالكتب التي أجد فيها روح وريح أبي، حتى سامر يعرف كم تعني لي هذه الكتب، فخصص لها مكانا في غرفة نومنا.

سامر حتى بعد الزواج لم يترك عادته الأسبوعية في ارتياد شارع المتنبي، حيث يجد نفسه في صحبتي معه قمة السعادة، هناك يلتقي بأصدقائه الفنانين من خريجي كلية الفنون، وكلما تقع عيناه على رواية جديدة لكاتب أو كاتبة عراقية يتمنى أن يحقق لي ذلك الحلم الوردي، أخذ مني الرواية ووضعها بيد أديب متمرس، بعد أسبوع التقى به وكان رأيه مشجعا لطباعة الرواية، بعد فترة ليست بالبعيدة، أمسكت روايتي التي أصبحت حقيقة، بكيت على الرغم من السعادة التي غمرتني، كنت أتخيل منظر والدي وهو يضعها بين يديه، كنت أعرف كم سيكون فخورا بي.

في شارع المتنبي، شارع الأدب والفن والثقافة والعلوم وكل ما هو جميل وعطر، الشارع الذي يمثل العراق وبغداد الثقافة والفنون، جلست أمام دار النشر أوقع روايتي الأولى (حلم أبي) وسط جمهور جميل كان المشجع نحو الاستمرار على الطريق الذي عشقه والدي.




فلاح العيساوي



فلاح العيساوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى