د. سعد عزيز عبد الصاحب - في مئوية ميلاد المعلم

وقف مؤرخو المسرح ومنظروه بخشوع امام الحصيلة الفنية الثرة والمتنوعة التي قدمها ابراهيم جلال (1921 ـ 1991 ) مخرجا وممثلا وسينوغرافا والتي ضمت اشهى الافكار وأغرب وجهات النظر صارعها فنانا بشغف وجسدها على خشبات المسارح بفواعل سبقت زمنها ، واسست لواقعية تجريدية عراقية خالصة وظفت الموروث المسرحي العالمي لدى (شكسبير وبريشت وسارتر وتشيخوف ) لقراءة الوقائع العراقية الحاضرة ومن هنا فقط تجلت عبقرية ابراهيم جلال فهو كجواد سليم وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي في الحفر بعيدا في المثولوجيا العراقية واساطيرها وفلكلورها الشعبي للوصول الى تجسيد متناقضات واضداد وصراعات المجتمع في اللحظة الراهنة في ضوء انتاج شكل محلي تداولي، ففي الطوفان نص (عادل كاظم) أظهر طوفان الافكار وأكد انتصار الجماعة على انانية الفرد وفي فوانيس (طه سالم) ناقش مظاهر الاستغلال فهذا تاجر عقيم يستغل انسانا فقيرا ، والزوجة تستغل السائق وتطرده فجلال يرى ان البائسين انفسهم في ظروف معينة يستغل بعضهم البعض وهذا ما طرحه (بريشت) في (الانسان الطيب في ستزوان) اراد جلال من منظور استراتيجي ان يتبنى مؤلفا عراقيا لاعتقاده بأن لا حركة مسرحية مستمرة بدون انتاج مؤلف محلي يعرف اسرار وخبايا اللعبة المسرحية ويعكس المشكلات والعلل الاجتماعية والسياسية الراهنة فقدم المؤلف (عادل كاظم) في عروض (مقامات ابي الورد) التي اظهر فيها ايجابية الانسان العربي ومقاومته الاستبداد وقدمه قبلها في مسرحيات (الطوفان)و(عقدة حمار) واخيرا في المتنبي التي ناقشت هموم المثقف العربي وغربته ، لم يلتزم (ابراهيم جلال) بأسلوب واحد في اخراجه وحاول أن يعالج كل مسرحية يخرجها بالاسلوب المناسب لها فقد اخرج مسرحية (ست دراهم) لـ(يوسف العاني) واقعيا في حين اخرج (اغنية التم)لـ(تشيخوف) في ذات الوقت بالاسلوب التجريدي المؤسلب ، وفي دراسته بمعهد (جوود مان ثيتر) في شيكاغو بأمريكا تعرف على بريشت ومسرحه الملحمي وأراد ان يطبق مفاهيمه في (التغريب)و(التأرخة)و(الجست)و(كسر الايهام) من خلال النص المحلي وليس فقط على نصوص بريشت نفسه اما مسرحيات الاخير فذهب الى تعريقها واعطاءها شكلا ومزاجا عراقيا فكانت تجربة (البيك والسايق) عن (بونتيلا وتابعه ماتي) التي عرقها الشاعر صادق الصائغ مشكلة صدمة جمالية وفكرية للمثقف العربي انذاك حين عرضت في بغداد والقاهرة عام 1973 او في تعريق عادل كاظم الذكي وأعداده لمسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) بعنوان جديد (دائرة الفحم البغدادية) لسبر اغوار المجتمع ونقده في تصعيده لنكرة افاق كي يصبح قاضيا وأشعار المواطن بأن المواطنة ليست في المولد انما في العيش والتربية السليمة وتبادل الحقوق والواجبات ، منعت المسرحية بعد ليلة عرضها الاول اذ حضر افتتاحها وزير الاعلام آنذاك (طارق عزيز) مصطحبا بمعيته (ناصيف عواد) الذي كان يشغل عضو المكتب الثقافي حيث همس في أذن وزير الاعلام بعد أنتهاء العرض بأن هذه المسرحية يجب أن تتوقف عن العرض حالا لانها كما يزعم تسئ لقضية العرب الكبرى (فلسطين) السليبة وفيها مدح ضمني لدولة اسرائيل حيث ان الولد للام التي ربت وليس للتي ولدت برؤية شوفينيةدوغمائية أحادية نابعة من طريقة فهم جامدة وقصدية تم ألغاء واحد من اهم العروض التجريبية للمسرح الملحمي في العراق ، لم تفت هذه الحوادث المؤسية في عضد جلال أنما الهمته الايغال في بز السلطة وتعريتها فكانت مسرحية (رحلة في الصحون الطائرة) التي ادان فيها الانتهازيين والمنتفعين من السلطات المتعاقبة على حساب الناس حيث اظهر المختار بهيئة الجرذ ، ان من اهم مفردات اللغة الاخراجية لدى (ابراهيم جلال) هو (التكوين) ويتكرس في الجوقة تلك المجموعة البشرية التي ترمز لديه لشخص واحد وفكرة ضد تقابل نقيضها وأهتم بالقيم التشكيلية والضوء وانعكاساته على المنظر في عروضه المسرحية المنظر الذي بدأ لديه مزدحما بالديكورات الضخمة والمعقدة لينتهي مجردا الا من سعة الفضاء الخال وعمقه البصري كما يعبر (بيتر بروك) وأصبح الممثل لديه عنصرا تكوينيا أساسيا في المنظر يتحرك في الفضاء المسرحي ليتحكم بالزمكان والايقاع البصري للمشهد ، اهتم جلال بخيال الظل وشاشات السينما وظفهما بكولاج بصري سبق عصره ومهد لتكنولوجيا العرض المسرحي المعاصر فأستخدمه في (مكبث) ليدين أحلام مكبث المشوهة حيث ينتصر لـ(مكدف) لانه يعبر عن طموح جماعي بينما لم يكن (مكبث) الا طموحا ذاتيا مريضا ووظف السينما في (المتنبي) بحصان جامح يركض بغير هدى في صحراء مترامية في ترميز للمثقف العربي وهو يسير بغير بوصلة ولا بيئة سليمة تحتوي ابداعه ، قدم جلال عديد الممثلين ذكورا واناثا للمشهد المسرحي ، فأسس لثقافة الاكتشاف والرعاية من جوانب بيداغوجية وتربوية وابوية فقدم الممثلة (سعاد عبد الله ) في مسرحيتي (الطوفان)و(البيك والسايق) وبادوار جديدة على الوعي الجمعي للمتلقي العراقي بما حوته من اغراء وغنج وتعر له ضرورته الفنية وقدم ايضا الممثلة (سناء عبد الرحمن ) في مسرحية (مقامات ابي الورد) وجاء بالممثلة (ليلى محمد ) من فرقة الفنون الشعبية حيث تعمل كراقصة الى الفرقة القومية للتمثيل واسند اليها دور البطولة في مسرحية (دزدمونة ) لـ(يوسف الصائغ) وحازت فيها على جائزة التمثيل النسائي في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح في تونس عام 1987، لم يتوقف ابراهيم جلال عن العمل حتى في اللحظات الاخيرة من حياته على الرغم من وعكته الصحية المريرة فقدم مسرحية (الشيخ والغانية )لـ(سارتر) بتنويع جديد اخر انفتح فيه على رائد الفلسفة الوجودية والتي تعتبر نصوصه في اغلبها نصوص قراءة بامتياز الا ان جلال حاول ان يطوعها للعرض المسرحي بفواعل الخشبة وتجلياتها السمعية والبصرية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى