د. محمد سعيد شحاتة - سيدة الضوء بين خصوبة الماضي وأوجاع الحاضر.. قراءة في قصيدة (لسيدة الضوء)

(الجزء الثاني)


التشكيل البلاغي وإنتاج الدلالة
سوف نتوقف في هذا الجزء من الدراسة عند التشكيل البلاغي للنص، ومدى قدرته على تفكيك شفرة العنوان، والتوافق مع حركة المعنى التي رصدت تموجات الدلالة صعودا وهبوطا عبر تضاريس النص المختلفة، وسوف نحاول قدر جهدنا رصد شبكة العلاقات البلاغية التي تمتد عبر النص طولا وعرضا ناسجة ملامحه، ومشكِّلة أنسجة المعنى، فيصبح للنص بمقتضاها حقوله الدلالية، وسوف نتوقف في البداية عند الصورة وقدرتها على إنتاج الدلالة، فنتحدث عن مصادر الصورة في النص، كما نتحدث عن أنواع الصورة، ثم ننتقل بعد ذلك للحديث عن النص بين الخبرية والإنشائية، والتقديم والتأخير باعتباره أحد أوجه التشكيل البديعي للنص، وقدرة ذلك على استكناه عالمه، والبوح بما لم يبح به في التحليل السابق، فهذه الزاوية/التشكيل البلاغي من زوايا التحليل هي محاولة لاكتشاف جوانب أخرى لم تستطع زاوية التحليل السابقة الكشف عنها، أو لتأكيد ما رصدته زاوية التحليل السابقة؛ لتتجلى بذلك عوالم النص، وتنكشف الدلالة، وتصل الرسالة التي أرادتها الشاعرة.
أولا: مصادر الصورة وأنواعها:
احتلت الصورة الشعرية مكانة تقف دونها كل الوسائل التعبيرية الأخرى، وامتدت تلك المكانة عبر القرون المختلفة والثقافات المتباينة، واللغات المتعددة، ومن ثم وجدنا القول "إن الصورة الشعرية كيان يتعالى على التاريخ" (3) وقد ميَّزها أرسطو عن باقي الأساليب التعبيرية فقال: "ولكن أعظم هذه الأساليب حقا هو أسلوب الاستعارة؛ فإن هذا الأسلوب وحده هو الذي لا يمكن أن يستفيده المرء من غيره، وهو آية الموهبة، فإن إحكام الاستعارة معناه البصر بوجود التشابه". (4) واستمر الاهتمام بالصورة ودورها في إنتاج الدلالة، وتشكيل المعنى حتى العصر الحديث، فقد أشادت الحركة الرومانسية بالصورة، وارتفع شعار "الشعر تفكير بالصورة" ويرى س. د. لويس أن "المنبع الأساسي للشعر الخالص وهو الصورة" ويقول: "إن كلمة الصورة قد تم استخدامها خلال الخمسين سنة الماضية، أو نحو ذلك كقوة غامضة، وهذا ما فعله ييتس بها، ومع ذلك فإن الصورة ثابتة في كل تلك القصائد، وكل قصيدة هي بحد ذاتها صورة، فالاتجاهات تأتي وتذهب والأسلوب يتغير كما يتغير الوزن، حتى الموضوع الجوهري يمكن أن يتغير بدون إدراك، ولكن المجاز باق للحياة في القصيدة، وكمقياس رئيسي لمجد الشاعر" (5) ويبدو التشديد نفسه على أهمية الصورة لدى أصحاب النقد الجديد، فنجد جون كوين يرى أن الاستعارة "تشكل الخاصية الأساسية للغة الشعرية". (6) ولا ينقطع الحديث عن الصورة ودورها الفاعل عبر العصور والمناهج النقدية المتعددة والمختلفة.
أ – مصادر الصورة في القصيدة:
للصورة في القصيدة نوعان من المصادر تعتمد عليهما الشاعرة اعتمادا كبيرا، ويرتبطان ارتباطا وثيقا بموضوع القصيدة، ودلالاتها المضمونية: الأول المصادر الثقافية، والثاني المصادر التجريبية.
1 – أما المصادر الثقافية فتعدُّ منهلا كبيرًا للصورة الشعرية في القصيدة، ونعني بها "ما اختار الشاعر من صور وفَّرها له نظره في المعارف الإنسانية، أو ما لا يدرك ذهن الإنسان حقيقته إلا إذا سمت نفسه إلى عالم القيم الخالدة، بحكم مستوى في التكوُّن مرموق، وسعة في الثقافة بالغة".(7) وتتكون المصادر الثقافية في النص من ثلاثة عناصر تساعد في تشكيل الصورة، وإنتاج الدلالة، والكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية والعلاقات البلاغية:
أ – الأعلام، ونقصد بهم الشخصيات ذات الطابع الخاص في التاريخ سواء أكانوا أعلاما سياسيين، أم أعلاما أدبيين، أو غير ذلك من الأعلام، وقد دارت حول كل واحد منهم قصة معينة أو حدث من الأحداث، فيستغل الشاعر ذلك مستعيدًا تلك القصة أو ذلك الحدث ومستغلا له في الكشف عن معناه الذي يريد التعبير عنه. ومعنى ذلك أن الشاعرة في القصيدة تتكئ في بناء صورها على الموروث الثقافي لأمتها، تقول (لسيِّدةِ الضَّوءِ .. للألقِ السَّومَريِّ السَّنيِّ تضجُّ به مُقلتاهَا.. لسيِّدةِ الخصْبِ في أرضِ كنعانْ .. لسِرٍّ بروحِ ابنِهَـا "النَّاصريِّ".. و بالقُربِ منْ "طُورِها ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ) فالشاعرة تستحضر في هذا المقطع من القصيدة أربع ملامح ثقافية هي (الألق السومري – كنعان – الناصري – خير الأنام) وهي لا شك ملامح تاريخية، وإذا اعتبرنا السومري تجسيدا للشخصية السومرية بكل ما تمتاز به في الموروث الثقافي والتاريخي من إبداع وتحضر فإن ذلك يرسم صورة إيجابية لسيدة الضوء/الشآم ، ثم تأتي الشخصية الثانية وهي (كنعان) مضافة إلى لفظ (أرض) أما الشخصية الثالثة فهي (الناصري) وأما الشخصية الرابعة فهي (خير الأنام) وإذا تأملنا الشخصيات الأربعة، وما أضيف إليها سوف تتضح لنا الصورة المراد رسمها لسيدة الضوء/الشآم، فهي/الصورة مكونة من ثلاثة عناصرهي التحضر والمدنية/الألق السومري، والزراعة والخصب/أرض كنعان، والتدين/ابنها الناصري وخير الأنام، وبذلك تتشكل صورة سيدة الضوء/الشآم من خلال المصادر الثقافية الأربعة (السومري – كنعان – الناصري – خير الأنام) وهي ما أرادت الشاعرة جعلها ملامح مميزة لسيدة الضوء، وما سوف تستند عليها في إلحاحها الدائم عبر القصيدة بطلب السلام؛ فهي تتخذ من هذه الملامح لصورة سيدة الضوء متَّكأ لأحقية سيدة الضوء بالسلام، وأن السلام هو ما عاشت عبر تاريخها تدعو إليه وتتخذه شعارا لها؛ فالألق والتحضر والمدنية، وكذلك الزراعة والخصب والنماء، لا يمكن أن يزدهر كل ذلك إلا في أجواء السلام، ثم يأتي (ابنها الناصري – خير الأنام) تدعيما لهذه الدعوة/السلام؛ إذ إن الأديان تدعو إلى السلام، ومن ثم كانت الشاعرة على قدر كبير من الدقة والعمق في اختيار عناصر الصورة هنا؛ فقد احتلت الشخصيات التاريخية مكانا مركزيا في ذهنها، فاستخدمتها في بناء صورتها، والكشف عن معانيها الشعرية، وقد اكتفت باللمحة التي ينبغي على المتلقي أن يدركها، كما تعددت الشخصيات التاريخية، واختلفت أعصرها، وأحداثها، والمواقف المثارة حولها، لقد لاحظنا أن الأعلام كانت عنصرا أساسيا في تشكيل الصورة.
ب – الأحداث التاريخية، وقد كانت الشاعرة حريصة على استغلال علم التاريخ في التصوير، وهو استغلال يدل على كون الموروث الثقافي ماثلا حيًّا متفاعلا في ذهن الشاعرة في أثناء صياغة القصيدة تمتاح منه، وتتكئ عليه في تشكيل صورها، تقول (على قدميهَا جثا ألفُ غازٍ.. وصَلَّتْ لها القممُ الشامخاتُ .. وبالقُربِ منْ "طُورِها ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ.... وقيلَ قديماً بأنَّ "الفتى الأخضرَ" ال مرَّ فوق ثراهَا) فالصورة هنا تستند على الأحداث التاريخية، وبعض هذه الأحداث يأتي عاما غير محدد بزمن أو بحادثة معينة، ولكنه يشير إلى كثرة الأحداث التي مرت بها، فاستغلت الشاعرة هذه الأحداث في تشكيل صورتها وإنتاج الدلالة، وقد بدا هذا النوع من الأحداث التاريخية العامة في (على قدميهَا جثا ألفُ غازٍ.. وصَلَّتْ لها القممُ الشامخاتُ) فالشاعرة هنا أشارت إلى كثرة الغزاة الذين جثوا على قديْ سيدة الضوء من خلال استخدام اللفظ (ألف) الدالة على الكثرة، وليس على عدد محدد بهذا الرقم، ثم تأتي الأحداث التاريخية المحددة في قولها (وبالقُربِ منْ "طُورِها ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ) في إشارة إلى قصة الإسراء، وهو حدث تاريخي محدد ذو دلالات محددة، وقد تابعت الشاعرة رسم صورة سيدة الضوء من خلال الأحداث التاريخية؛ لتؤكد بذلك بعض الملامح السابقة التي استخدمت فيها الأعلام،وتضيف جانبا آخر للصورة، فنجد هنا ملمحين أساسيين في الصورة، الأول (وبالقُربِ منْ "طُورِها ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ) وهو ما يؤكد الجانب الديني الحريص على السلام والمحبة الذي ورد قبل ذلك في الصورة الأولى المستندة على الأعلام (ضوَّء الكون) والملمح الثاني القوة القادرة على دحر الأعداء (على قدميهَا جثا ألفُ غازٍ) وهذا الملمح يضيف للصورة السابقة، ويأتي في هذا الإطار أيضا قول الشاعرة (مضَى العامُ... سبعةُ أعوامَ .. سبعٌ شدادٌ... ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا .. بكى الياسَمينُ.. بَكَى شَجَرُ القَـلبِ) في إشارة إلى قصة رؤيا فرعون وتفسير سيدنا يوسف لها، وقد استخدمت الشاعرة (سبعةُ أعوام .. سبعٌ شدادٌ) مستدعية من خلال هذه الكلمات قصة السنين العجاف، وهي سبع سنين، ولكنها هنا تشير إلى أن السنين العجاف قد مرت على سيدة الضوء ولم تأت بعدها السنوات التي فيها يغاث الناس، وتعود الحياة إلى نمائها، فقد وجدنا الشاعرة تصف هذه السنين بقولها (ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا .. بكى الياسَمينُ.. بَكَى شَجَرُ القَـلبِ) وهي موازية تماما للسنين العجاف التي مرت على أهل مصر، لقد أجادت الشاعرة في استدعائها للأحداث التاريخية، وما تحيط بها من ظلال دلالية، ونجحت في نقل تلك الأحداث بمحمولاتها الدلالية؛ لتشكل من خلالها الصورة المراد التعبير عنها.
ج – الدين والقيم الأخلاقية، ويعدُّ الدين والقيم الأخلاقية من المقومات التي تعتمد عليها الشاعرة في بناء صورها، ولم تتوقف عند استخدام الدين الإسلامي وحده بل توقفت عند جميع الأديان، فوقفت عند أعلام الرسل، واستخدمت كل ما يشير إلى القيم الدينية سواء أكانت أعلاما أم حوادث، أو غير ذلك، وقد لاحظنا فيما سبق استخدامها للأعلام الدينية في تشكيل الصورة وإنتاج الدلالة، وتقول في موضع آخر من القصيدة (وعشاقُها الهائمُون بها مُذ ثَوَوا في التَّكايا .. فكانوا النَّبيِّين.. كانوا الدَّراويشَ.. ملحَ الزَّمَانْ) فعشاق سيدة الضوء/الشآم الذين ثووا في التكايا فكانوا النبيين، وكانوا الدراويش، وقد تستخدم الشاعرة بعض المصطلحات المرتبطة بالتدين في تشكيل صورتها، فتقول (وسأقنعُ الصُّوفيَّ قلبي كي يُناجي سرَّكِ المَخبُوءَ في قلبِ الإله) فاستخدام لفظ (الصوفي) وصفا للقلب يأتي في إطار استخدام المصطلحات المرتبطة بنمط من أنماط التدين، وهو التصوف.
2 – المصادر التجريبية، وهي المصادر التي كان "حلولها في ذهن الإنسان بفضل الطبيعة لا بفضل الثقافة" (8) وقد حرصت الشاعرة أيضا على استخدامها في تشكيل الصورة في القصيدة، وإنتاج الدلالة، فقد استخدمت الطبيعة في التصوير، واستلهمت منها معانيها، فكانت الطبيعة معينًا لا ينضب، إذ تجعلها معيارًا تقيس بها الأشياء وحقائقها، وتستمد منها عناصر صورها، تقول (تقول الرِّياحُ.. مضَى العامُ... سبعةُ أعوامَ .. سبعٌ شدادٌ...) واستخدام لفظ الرياح يشير إلى التغير والتبدُّل؛ فالرياح لا تستقر على حال، ومن ثم فإن أحوال سيدة الضوء غير مستقرة، وهي متنقلة بين أحوال متغيرة وأحيانا متناقضة، وقد عبرت الشاعرة عن ذلك بقولها (سبعة أعوام ... سبع شداد) على لسان الرياح، ثم تستمر في استخدام الطبيعة وعناصرها لاستكمال عناصر الصورة، ففي هذه الأعوام الشداد ذوت بسمة الورد وهي ما تزال في مهدها، كما بكى الياسمين، وبكى شجر القلب (ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا .. بكى الياسَمينُ.. بَكَى شَجَرُ القَـلبِ..) وانطفاء بسمة الورد وبكاء الياسمين إشارة إلى الجانب المادي من حياة سيدة الضوء، ثم يأتي بكاء شجر القلب إشارة إلى الجانب المعنوي، وبذلك تكون الطبيعة بعناصرها المختلفة والمتنوعة قد كشفت عن المعنى وساعدت في إنتاج الدلالة؛ فسيدة الضوء تعاني ماديا ومعنويا، فمن حيث المعاناة المادية وجدنا ذبول الطبيعة وعناصرها الدالة على الحياة، ومن حيث المعاناة المعنوية وجدنا بكاء شجر القلب، وفي ذلك إشارة إلى الآلام الشديدة والمتنوعة التي أحاطت بحياة سيدة الضوء وأثَّرت بشكل مباشر على كل جوانب الحياة، ثم تستكمل الشاعرة المشهد من خلال عناصر أخرى للطبيعة (كلُّ طُيُورِ المَدائنِ .. كلُّ الفراشَاتِ والقبَّرات ... كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها ... ) في إشارة إلى أن كل شيء في الحياة قد أصابه التغيُّر، وتحوَّل من حياة يانعة باسمة إلى حياة كئيبة تعاني، ويحاصرها الموت من كل مكان، وقد بدا ذلك من خلال استخدام لفظ (كل) الدال على الشمول، فكل القبَّرات، وكل الفراسات، وكل طيور المدائن قد بكت، وفي ذلك تصوير لما ألمَّ بالحياة بأسرها دون استثناء، وإذا كانت الشاعرة قد استخدمت عناصر الطبيعة في تصوير تلك الصورة القاتمة والألم الشديد، والتغير الكبير الذي أصاب الحياة فإنها استخدمت كذلك الطبيعة وعناصرها في تصوير المشهد المضيء في حياة سيدة الضوء؛ إذ تقول (هِيَ من ملكاتِ الزَّمانْ... تربَّت على شَجرِ الرُّوحِ حتَّى تفتَّح في صَدرهَا الياسمينُ ... تَوضَّأ في سِرِّها ألفُ نايٍ ... وهامتْ بها مُذْ رأتُهَا المَرايا) فالمشهد هنا مختلف تمام عن المشهد السابق، فهنا قد تفتَّح الياسمين على صدر سيدة الضوء، كما توضَّأ في سرها ألف ناي في إشارة إلى الكثرة من خلال استخدام لفظ (ألف) ثم تختم الشاعرة الصورة (وهامت بها مذ رأتها المرايا) لتدل على كثرة المعجبين بسيدة الضوء، وملامح الجمال والبهاء التي تتسم بها، فهو ليس حبا فقط، بل هو هيام، ومن المعروف الفروق بين الحب والعشق والهيام، فقد ورد في المعاجم العربية أن الحُبَّ في اللغةِ يعني الوِداد أو المَوَدَّة، وهو برأي الفلاسفة مَيْل شخص ما إلى شخص آخر أو إلى شيء جميل أو جَذَّاب، وهذا المَيْل يسمى برأيهم "حُبًّا" ويُمكن اعتبار كلمة "حُب" الكلمة العامة التي تشتمل على كل الكلمات التي تدلّ عليها، أما العشق فهو أحد معاني الحُب، ويعني في اللغة الحُب المُفرط، وهو مُشتَقَّ من عَشِقَ، يعشَقُ، عِشقاً فهوَ عاشِقٌ، وَعندما يُقال عَشِقَ فلانٌ فلاناً فهذا يعني أنه أحبَّهُ حُبَّاً شديداً وتعلَّق به، وتُطلَقُ هذه الكلمة على المرحلة السادسة من مراحل الحُب، وفيها يشتدُّ الحب في قلب المُحِب ويَكثُر، لكنه يبقى أضعف بقليل من درجة الهيام؛ فلفظ هُيام في اللغة مصدر مُشتق من الفعل هامَ يَهِيم، ومعناه الجنون من العشق، وتُطلَقُ هذه الكلمة على أعلى درجات الحُب وأشدّها، وهي تدل على المرحلة التي يصل فيها المُحب إلى الجنون من كثرة العشق، وكما تُطلق هذه الكلمة على واحدة من مراحل الحُب، وهي المرحلة النهائية منه، فتكون الأكثر اكتمالاً وقوةً في الحب، فإذا فهمنا هذه الفروق أدركنا دقة استخدام الشاعرة لفظ الهيام في قولها (وهامت بها مذ رأتها المرايا) تعبيرا عن الجانب المشرق في حياة سيدة الضوء، ويتوالي استخدام الشاعرة لعناصر الطبيعة في التصوير فتقول (كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها ... وفَتَى الشَّام راحَ يُملِي عَلَيهِ.. سُورَة المَجدِ من كتابِ المَعَالي ... والأغاني سمرٌ على شفتيهِ ... زرقةُ الصُّبحِ بعضُ بعضِ ضِياهُ...و سَنـا البرقِ من فُيُوضِ يَدَيهِ....) فالغيم يكتب نصَّه في مدى سيدة الضوء، ويملي عليه فتى الشام سورة المجد من كتاب الأعالي، ثم تستكمل الشاعرة المشهد من كافة جوانبه مستخدمة عناصر الطبيعة في إنتاج الدلالة المرادة، والكشف عن المعنى المقصود، ففي بقية المشهد نجد (سمرٌ على شفتيه) وزرقة البحر بعض ضياه، وسنا البرق من فيوض يديه؛ لتكتمل بذلك الصورة، وتأخذ مكانها في المشهد العام للقصيدة، كما استخدمت الشاعرة الإنسان بحسبانه أحد مكونات الطبيعة الحية في تشكيل الصورة، وقد مرَّ بنا ذلك في أثناء الحديث عن الأعلام واستخدامها في الصورة الشعرية، وليس يعنينا في هذه المرحلة من الدراسة التشخيص أوالتجسيم الذي نراه في الصورة، ولكن الذي يعنينا هنا هو استخدام مفردات الطبيعة في تشكيل الصورة، ومن ثم إنتاج الدلالة، كما أنه ليس من هدفنا تتبع كل جزئيات الطبيعة وأنواعها؛ لبيان مدى اتكاء الشاعرة عليها في بناء صورها، فقد تجلى ذلك من خلال ما سبق من الشواهد التي تدل دلالة واضحة على أنها اتخذت الطبيعة منهلا لصوغ صورها الشعرية، والكشف عن معانيها، وقد مثَّل ذلك اتجاهًا عامًا في القصيدة، وفي الديوان بأكمله.
2– أنواع الصورة في القصيدة:
للصورة أنواع كثيرة يلجأ إليها الشعراء للتعبير عن أفكارهم، ولكننا نستطيع رصد ثلاثة أنواع من الصورة في القصيدة اعتمدت عليها الشاعرة اعتمادا كبيرا.
1 – الصورة التشخيصية، وهي تلك الصورة التي تتحول فيها الطبيعة الصامتة والمتحركة إلى أشخاص يتحركون أمامنا، فالشاعرة في هذه الصورة تفيض على الطبيعة الجوانب العقلانية، فنجدها أشخاصًا متفاعلين متجاوبين، ونستشعر وجود الإنسان، تقول (هيَ كلُّ الجميلاتِ في الأرضِ .. كلُّ الأميراتِ فوقَ العُرُوشِ) فقد تحولت سيدة الضوء/الشآم إلى أميرة تجلس فوق عرشها، وفيه إشارة إلى التعظيم والإجلال الذي تتمتع به سيدة الضوء، ولكنه تشخيص لها؛ فقد تحولت إلى شخص/أميرة على العرش، وتقول في موضع آخر تعبيرا عن التعظيم أيضا (وصَلَّتْ لها القممُ الشامخاتُ) فقد جعلت القمم الشامخات/الجبال تصلي لها/لسيدة الضوء/الشآم، وفي ذلك تشخيص للقمم الشامخات، وتحويلها إلى أشخاص يصلون، ودلت إلى جانب على التعظيم لسيدة الضوء وحب وتقرُّب؛ لأن الصلاة تحمل معاني الحب والإجلال والتعظيم إلى جانب محاولة التقرب، وتقول أيضا (هِيَ من ملكاتِ الزَّمانْ...تربَّت على شَجرِ الرُّوحِ حتَّى تفتَّح في صَدرهَا الياسمينُ .. تَوضَّأ في سِرِّها ألفُ نايٍ .. وهامتْ بها مُذْ رأتُهَا المَرايا) فقد عادت الشاعرة إلى تشخيص الشآم وجعلها ملكة من ملكات الزمان، وفيها تعظيم لها، كما جعلت الياسمين يتفتح على صدرها، ثم جعلت المرايا، وهي الجماد تهيم بها/الشآم فشخَّصت المرايا وجعلتها إنسانا، ومنحتها كل الصفات الإنسانية والعقلانية من شعور وإحساس وحب وهيام؛ لتصل بذلك إلى صورة إيجابية بكل معنى الكلمة لسيدة الضوء/الشآم، وتقول الشاعرة تعبيرا عن المعنى نفسه/التعظيم (كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها ...وفَتَى الشَّام راحَ يُملِي عَلَيهِ.. سُورَة المَجدِ من كتابِ المَعَالي ...) فجعلت الغيم إنسانا يكتب ما يمليه عليه فتى الشام من كتاب المعالي، وهي أيضا صورة تشخيصية للغيم تعبيرا عن المجد والتعظيم/كتاب المعالي، وإذا كانت الشاعرة قد عبَّرت من خلال صورها التشخيصية عن التعظيم والإجلال لسيدة الضوء/الشآم فإنها استخدمت الصورة التشخيصية أيضا في التعبير عن آلامها ومعاناتها، وما مرَّ بها من أحداث تركت آثارها على جوانب الحياة فيها، تقول (ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا .. بكى الياسَمينُ.. بَكَى شَجَرُ القَـلبِ.. كلُّ طُيُورِ المَدائنِ .. كلُّ الفراشَاتِ والقبَّرات ...) فصورت الورد بإنسان تذوي ابتسامته، والياسمين إنسانا يبكي، وكذلك شجر القلب، وكل الطيور والفراشات والقبَّرات، لقد تحول كل ما في الكون إلى بشر، واكتسبوا الصفات الإنسانية من الإحساس والبكاء تعبيرا عن الحزن، أو تعبيرا عن الكآبة التي أصابت الحياة نتيجة الأحداث التي قلبت وجه الحياة من سعادة إلى كآبة وحزن، وفي هذا الإطار أيضا تقول الشاعرة مؤكدة المعانى السابقة (تقول الرِّياحُ.. مضَى العامُ...سبعةُ أعوامَ ..سبعٌ شدادٌ...) فقد شخَّصت الرياح وجعلتها إنسانا يتحدث ويحكي، وإعطاء الرياح هذه الصفة/الحكي الذي يقتضي المعرفة لأن الرياح تتميز بأنها متحركة في كل الجوانب، ومن ثم فإنها قد مرَّت بكل الأماكن والبلاد، وهذا يعطيها القدرة على الحكي؛ لأنها تمتلك المعرفة، فجعلتها الشاعرة إنسانا يحكي، لقد استطاعت الصورة التشخيصية في القصيدة الكشف عن المعاني والدلالات التي أرادتها الشاعرة، وتشخيص الجمادات يجعلها تكتسب صفة الحيوية والحركة والحياة مما يكسب القصيدة ديناميكية في التعبير، وقدرة على لفت انتباه المتلقي، والبحث خلف الصورة لمعرفة مكنونات الصورة، وما توحي به من دلالة.
2 – الصورة التجسيدية، وهي الصورة التي تحاول فيها الشاعرة أن تُجسِّدَ المعنويات، وتبرزها في قالب مادي محسوس، تخضع لمعطيات الحواس التي تشكِّلها تشكيلا مناسبًا، تقول (الآنَ أشهدُ ملءَ رُوحِي أنَّكِ الأرضُ التي شَرُفَتْ على كُلِّ المدائنِ.. والقصائد ... والكلام) فمن الواضح أنها جسَّدت الروح (ملء روحي) وهي كناية عن أن الشهادة تسيطر على كيانها كله، فجعلت الروح كأنه إناء يمتلئ، وتقول مجسِّدة الروح مرة أخرى (تربَّت على شَجرِ الرُّوحِ حتَّى تفتَّح في صَدرهَا الياسمينُ) فقد جسَّدت الروح (شجر الروح)، وهي صورة تجسيدية، وتقول (كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها ...وفَتَى الشَّام راحَ يُملِي عَلَيهِ.. سُورَة المَجدِ من كتابِ المَعَالي ...) فقد جسَّدت الشاعرة المدى وجعلته كتابا والغيم يكتب نصه فيه، ثم جعلت سورة المجد كلاما مكتوبا (يملي عليه سورة المجد) ثم جعلت للمعالي كتابا يقرأ منه فتى الشام لكي يملي على الغيم ما يكتبه في مداها/سيدة الضوء/الشآم، ومن ثم فإن الصور كلها صور تجسيدية، كما جسَّدت الشاعرة الشآم فشبهتها بالأيائل حين قالت (لأبهى الأيائل عند السهوب) فقد تجسَّدت الشآم/سيدة الضوء في صورة أبهى الأيائل، واستخدام لفظ (أبهى) دلالة على أنها تحتل مكانة عالية؛ فإن للأيائل ستين نوعا ولذلك لم تقل الشاعرة (للأيائل عند السهوب) ولكنها قالت (لأبهى الأيائل) ارتقاء بمكانة سيدة الضوء/الشآم، ومن ثم فإن الصورة التجسيدية ساعدت في إنتاج الدلالة، وكشفت عن المعنى المراد.
3 – الصورة الدرامية : وهي الصورة التي تمتلئ حركة وتوترًا ونموًّا، وتتتابع فيها المشاهد مجسِّمةً المعنى، ومتخذة من العناصر اللغوية وسيلة؛ لتعضيد الصورة الدرامية وإبرازها، فيتشكل في النهاية المعنى والموقف والمشهد بأكمله، وتعدُّ القصيدة بأكملها صورة درامية، كما تعدُّ كذلك مجموعة من الصور الدرامية الصغيرة المتداخلة، لتكوِّن الصورة الدرامية الكلية/القصيدة، ومن ذلك قولها (تقول الرِّياحُ.. مضَى العامُ...سبعةُ أعوامَ .. سبعٌ شدادٌ...ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا .. بكى الياسَمينُ.. بَكَى شَجَرُ القَـلبِ.. كلُّ طُيُورِ المَدائنِ ..كلُّ الفراشَاتِ والقبَّرات ... كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها ... وفَتَى الشَّام راحَ يُملِي عَلَيهِ.. سُورَة المَجدِ من كتابِ المَعَالي ... والأغاني سمرٌ على شفتيهِ .. زرقةُ الصُّبحِ بعضُ بعضِ ضِياهُ... وسَنـا البرقِ من فُيُوضِ يَدَيهِ) إن السطور الشعرية هنا تصوِّر التغير الذي أصاب الحياة بكل تفاصيلها، وقد لاحظنا ثلاثة مشاهد مختلفة في هذه الصورة، المشهد الأول يتكون من ورد تذوي بسمته وهي ما زالت في مهدها، والياسمين وهو يبكي، وشجر القلب وهو يبكي أيضا، وكذلك تبدو باكية كل طيور المدائن وكل الفراشات والقبَّرات، أما المشهد الثاني فنجد فتى الشام يملي من كتاب المعالي على الغيم سورة المجد؛ ليكتب ذلك في مداها/سيدة الضوء/الشآم، أما المشهد الثالث ففيه تبدو الأغاني على شفتي فتى الشام سمرًا، وزرقة الصبح بادية كأنها بعض ضيائه، ونور البرق من فيوض يديه، ومن الملاحظ أن المشاهد في الصورة تنتقل من الألم/بكاء الياسمين إلى التباهي/سورة المجد، وهي صورة متكاملة تتنقل بين حياة سيدة الضوء/الشآم؛ لتصورها في تقلباتها المختلفة، وقد نجحت الصورة في الكشف عن الحالات المتناقضة وتغير الأحوال وتبدلها، وإلى جانب ذلك فقد اشتملت القصيدة على صور درامية أخرى وإن كانت قصيرة في مكوناتها، وليس من هدفنا هنا استقصاء الصور، ولكننا نشير إليها فقط؛ لنبيِّن أنها تمثل نوعا من أنواع الصورة في القصيدة، ومن الملاحظ أن هذا النوع من الصور يسيطر عليه الأساليب الخبرية، ولكنها ليست تقريرية الطابع؛ إذ إنها توظف الأدوات اللغوية والموسيقية لإبراز الصراع الدرامي، وإنجاز المشهد الحي.
وإذا كانت الصورة لدى الشاعرة قد اتسمت بالحيوية والديناميكية، والقدرة على الانتقال بذهن المتلقي من حقل دلالي إلى حقل دلالي آخر منتجة بذلك المعنى المراد وظلاله الدلالية فإننا لم نجد في القصيدة أي نوع من أنواع الصور البلاستيكية، وهي التي تكون فيها الشاعرة حريصة على إدراك التماثل الخارجي بين الأشياء دون ارتباط تلك الصورة بالحالة النفسية للشاعرة، ويكون المقصود من تلك الصورة مطلق التجسيم، أو مطلق التشخيص دون النظر إلى الوجدان، ومدى ارتباط هذا التجسيم أو التشخيص به، وتصبح وظيفة الصورة هنا "كأنها مجرد أداة إيضاح"(9) فقد وجدنا الصور كلها في النص مرتبطة بالوجدان الشعري من ناحية، وقادرة على الدلالة من ناحية أخرى، ومن ثم قلنا إن الصورة في النص اتسمت بالحيوية والديناميكية، والقدرة على الانتقال بذهن المتلقي من حقل دلالي إلى حقل دلالي آخر منتجة بذلك المعنى المراد وظلاله الدلالية.
ثانيا: النص بين الخبرية والإنشائية
لقد هيمنت الأساليب الخبرية على النص؛ فلم يتضمن سوى ثلاثة أساليب إنشائية فقط (فيا ربِّ حوِّل سحائبها طلعَ قمحِ – ويا وجهَها الغضَّ مُرَّ بروحي – يا أنتِ... يا أرضَ الشَّآمْ) أما الأسلوب الأول فقد جاء مستخدما أداة النداء (يا) ودالا على التضرع والدعاء؛ إذ تتجه الشاعرة بقلبها إلى الله عز وجل أن يجعل السحائب االمارة بأرض الشام تمطر فتنشر الخصب فيها، وتنبت الأرض القمح الذي يمنحها الأمن الغذائي، وتخصب كل بساتين الغوطة، وقد حمل هذا الدعاء معنى الرجاء إلى جانب التضرع؛ لأن الأسلوب الإنشائي جاء بعد جملة دالة على ما مرَّ بأرض الشام من آلام (وأنَّ السِّنينَ توالتْ على أهلها .. وما من نبيٍّ يُؤوِّلُ رؤيا... فيا ربِّ حوِّل سحائبها طلعَ قمحِ فيُخصِبَ كلَّ بساتينِ غوطتها ..) فالسنوات قد توالت على أهلها في إشارة إلى ما مر بأهل الشام، ولم يكن هناك نبي يؤول رؤيا، بمعنى أن السنين كانت عجافا، ولم توجد رؤيا للتأويل كما حدث مع يوسف الذي أوَّل رؤيا فرعون بأن السنين المجدبة سوف تعقبها أخرى مخصبة، ولكن ذلك لم يحدث مع أهل الشام (وأنَّ السِّنينَ توالتْ على أهلها .. وما من نبيٍّ يُؤوِّلُ رؤيا) ومن ثم فإن الأسلوب يدل على التضرع والرجاء، أما الأسلوب الثاني (ويا وجهَها الغضَّ مُرَّ بروحي) فإنه يدل على الرجاء أيضا؛ إذ إنه قد جاء تاليا للأسلوب السابق مباشرة، ومعطوفا عليه مما منحه الدلالة نفسها/الرجاء، وأما الأسلوب الثالث (يا أنتِ... يا أرضَ الشَّآمْ) فمن الملاحظ أن الشاعرة قد ذكرت أولا المنادى (أنت) الدال على الذات/سيدة الضوء/الشآم، ثم أعادت النداء مرة أخرى، ولكن باستخدام كلمات أخرى، وإن كانت دالة على المعنى نفسه (يا أرض الشآم) تأكيدا للمعنى، وتلذذا بذكر المنادى عن طريق تكراره بصيغ مختلفة؛ لقربه من قلبها، ومكانته الكبيرة عندها.
أما الأساليب الخبرية فقد هيمنت تماما على النص، وهو ما يتناسب مع الطبيعة التشكيلية للقصيدة، وهي طبيعة حكائية، ونلاحظ أن الجمل الخبرية جاءت خالية في معظمها من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعرة اعتبرت المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي تسوقها، وكأنها اعتبرت هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد؛ فهي تعبر عن واقع معروف، وتاريخ معترف به لا يحتاج أدلة عليه، فالمخاطب إذا كان (خالي الذهن من الحكم على أحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه اسْتُغْنيَ عن مؤكدات الحكم ... وإن كان متصور الطرفين، مترددًا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبا له حَسُنَ تقويتُه بمؤكد ... وإن كان حاكمًا بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار، ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا، والثاني طلبيا، والثالث إنكاريا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجًا على مقتضى الظاهر"(10) على أننا نلاحظ بعض الجمل الخبرية قد جاءت مؤكدة بأداة توكيد؛ لتنزل المخاطب الخالي الذهن منزلة الشاكِّ أو المتردد، فتسوق التوكيد؛ لتؤكد المعنى في ذهن المتلقي، ومن ذلك قولها (أن السنين توالت على أهلها وما من نبي يؤول رؤيا – أنَّ ضياهَا توشَّى بهِ الحبرُ) وقد تنوَّعت دلالات وأغراض الجمل الخبرية في النص، فمنها ما يدل على التعظيم (لسيِّدةِ الضَّوءِ .. للألقِ السَّومَريِّ السَّنيِّ تضجُّ به مُقلتاهَا.. لسيِّدةِ الخصْبِ في أرضِ كنعانْ .. لسِرٍّ بروحِ ابنِهَـا "النَّاصريِّ"..لأبهى الأيائلِ عند السُّهوبِ..لأغلى الصَّبايا بسهلِ الجليلِ.. سلامٌ ... سلامْ) وقد اكتسب الأسلوب دلالة التعظيم غرضا للأسلوب الخبري من خلال مجموعة من الألفاظ (الألق – السنىّ – سيدة – أبهى – كنعان – الناصري) فكلها ألقاظ تحيل إلى مواقف عظيمة في التاريخ البشري، ومن ثم اكتسب الأسلوب الخبري دلالة التعظيم، ثم ختمت الشاعرة بقولها (سلام .. سلام) لتؤكد الدلالة/التعظيم، ومن الأساليب التي تحمل الدلالة نفسها/التعظيم قولها (الآنَ أشهدُ ملءَ رُوحِي أنَّكِ الأرضُ التي شَرُفَتْ على كُلِّ المدائنِ.. والقصَائدِ.. وَالكَلامْ) وقد اكتسب الخبر دلالة التعظيم من خلال مجموعة من الكلمات وردت في الأسلوب (ملء روحي – شرُفت – كل المدائن ...) ومن الأساليب الخبرية ما جاء في القصيدة دالا على المدح، ومن ذلك قولها (و لأنَّ ضياهَا توشَّى بهِ الحبرُ .. أمَّا بهاهَا فحدِّثْ و لا حرجٌ ..وأمَّا اصطفافُ اليَمامِ على ضِفَّتَي جُرحِهَا وَهديلُ ضفائرِها إذ يغنِّي نشيدَ السَّلامْ ..سأتلُو عليكُم إذاً ما تيسَّرَ لي من كتابِ الشَّآمْ) فمن الواضح أن الشاعرة تمدح سيدة الضوء/الشآم من خلال ما ساقتها من ملامح إيجابية تشيع البهجة (ضياها – توشَّى – اصطفاف اليمام – هديل – يغني – السلام – سأتلو) ويدخل ضمن هذا الغرض أيضا قولها (هيَ في خاطرِ الله أكملُ مِن خلقِهَـا .. و أجملُ من برقِهَـــا في ضمير الغَمَامْ.. هيَ كلُّ الجميلاتِ في الأرضِ .. كلُّ الأميراتِ فوقَ العُرُوشِ .. وأختُ الورودِ و أصلُ الخُزام) فكل الجمل وردت خبرية دالة على المديح لسيدة الضوء/الشآم، ومن الأساليب ما كان الغرض منه الأسى والحزن، تقول (تقول الرِّياحُ.. مضَى العامُ...سبعةُ أعوامَ ..سبعٌ شدادٌ...ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا ..بكى الياسَمينُ.. بَكَى شَجَرُ القَـلبِ..كلُّ طُيُورِ المَدائنِ .. كلُّ الفراشَاتِ والقبَّرات ...) فمن الملاحظ أن الأساليب كلها تشتمل على ألفاظ ذات دلالات سلبية (شداد – ذوت – بكى) وهي كلمات دالة على الحزن، ومن ثم فإن الأساليب الخبرية هنا دالة على الحزن والأسى على حال سيدة الضوء/الشآم.
لقد عبَّرت خبرية الجمل في النص وهيمنتها عليه عن فكر الشاعرة الذي تشكَّل في ذهنها قبل صياغة القصيدة، ثم تحرَّك منسربا بين ألفاظها وجملها، وشكَّل شبكة من العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية.
ثالثا: الجمل في النص بين الفعلية والاسمية
يلعب تنوُّع الجمل بين الفعلية والاسمية دورًا واضحا في توجيه دلالة النص، فقد تنوعت الجمل في النص، ولكننا نلاحظ طغيان الجمل الفعلية بحيث تمثل ملمحا واضحا؛ فقد اشتمل النص على العديد من الجمل الفعلية، وإذا كان الفعل يدل على الحركية والتجدد والاستمرار فإن ذلك يعطي الدلالة عمقا أكثر، ومن ذلك (للألقِ السَّومَريِّ السَّنيِّ تضجُّ به مُقلتاهَا – وَهديلُ ضفائرِها إذ يغنِّي نشيدَ السَّلامْ – سأتلُو عليكُم إذاً ما تيسَّرَ لي من كتابِ الشَّآمْ – يُخصِبَ كلَّ بساتينِ غوطتها – نُرتِّلْ أناشيدَ أهلِ الشآمْ – تصوغُ (يداها) من الحُسنِ أشهى جناها – تقول الرِّياحُ – يُنشدُ ما تبقَّى منْ أنيني – يُناجي سرَّكِ المَخبُوءَ في قلبِ الإله) وغيرها من الجمل الفعلية الواردة في النص، وهي تشتمل على أفعال مضارعة، وإذا كان الفعل المضارع يستخدم – من حيث التكييف النحوي – للدلالة على أن الحدث الذي يقع في الزمن الحاضر، ومن حيث التكييف البلاغي يدل على التجدد والاستمرار فإن الدلالة المضمونية للجمل الشعرية السابقة تدل على أن المعنى فيها متجدد ومستمر، كما أن هذا المعنى يقع في الحاضر، وإن كان الماضي مسرح أحداثه، وهي دلالة مرتبطة بالاستمرار الحاصلة في المعنى البلاغي للفعل، وهذا يعني أن استخدام الفعل المضارع في الجمل يحمل كل الوظائف المعنوية لهذا الفعل من حيث الحركية والحيوية واكتساب الحياة للحدث/دوام حالة صاحب الفعل والتوضيح والشرح والوصف، فمثلا عندما تقول الشاعرة (للألق السومري السنيِّ تضج به مقلتاها) فإن المعنى/الألق السومري رغم كونه حدث في الماضي فإن الدلالة مازالت مستمرة في الحاضر، ومتجددة؛ فالحضارة السومرية رغم أنها انتهت فعليا من حيث التاريخ فإن آثارها مازالت شاهدة على ذلك الألق، واستخدام الفعل (تضج) تصف على ذلك، فالضجيج صوت مرتفع يلفت الانتباه، ويحرم من متابعة أي شيء آخر غيره، وهو ما أرادته الشاعرة من خلال استخدام هذا الفعل أن الألق/الحضارة السومرية ما زالت تحظى بالاهتمام الكبير على مستوى العالم، وتحدث ضجيجا عالميا بالمفهوم الإيجابي للفظ (يضج) وقد ربطت الشاعرة بين الماضي/الألق السومري والحاضر/تضج به مقلتاها، وكذلك الألفاظ (نغني – نرتل – تصوغ) فهي ذات دلالة إيجابية، ومن ذلك أيضا استخدام الفعل (أتلو) في قولها (سأتلُو عليكُم إذاً ما تيسَّرَ لي من كتابِ الشَّآمْ) فالتلاوة إلى جانب دلالتها على الإيجابية فإنها تحمل معنى تزيين الصوت، وإذا كانت التلاوة تستخدم للقرآن عادة فإن ذلك يضفي على ما تقوله الشاعرة، وما تقرؤه من كتاب الشآم التقدير والاحترام، وقد يأتي الفعل المضارع بعد الفعل الماضي وهذا يؤدي إلى تصادم الأزمنة على مستوى البنية السطحية، ولكنه يدفع المتلقي للبحث في البنية العميقة؛ لأن البنية العميقة تستوجب توافق الأزمنة، أي أن "البنية العميقة تستوجب المطابقة في أزمنة الفعل في السياق اللغوي، والتحول عنها إلى البنية السطحية التي برزت على سطح النص تستدعي تحولاً في المعنى يرافق هذا التحول في المبنى"(11) ومن ذلك قولها (ولأنَّ ضياهَا توشَّى بهِ الحبرُ ........ سأتلُو عليكُم إذاً ما تيسَّرَ لي من كتابِ الشَّآمْ) فالفعل الماضي (توشَّى ) يستدعي كون الحدث انتهى من حيث التوصيف الزمني، والفعل المضارع (سأتلو) يستدعي كون الحدث حاضرا في الزمن الآني، ومن ثم تتولد هنا دلالتان في السياق ، الأولى نحوية مكتسبة من الفعل المضارع الذي يدل على الزمن الحاضر، والثانية دلالة سياقية بدت من خلال الإشارة إلى الزمن الماضي/الفعل الماضي من خلال مجيء الفعل المضارع بعد الفعل الماضي، فتجتمع الدلالتان فيصبح الماضي حاضرا في الحاضر، فالمستوى السطحي (توشَّى – أتلو) ماضٍ ثم مضارع، والمستوى العميق (توشَّى – تلوت) ماضٍ ثم ماضٍ، أي أن الذي جعل الشاعرة تلت ما تيسَّر من كتاب الشآم أن ضياها توشَّى به الحبر، ويمكن أن نقيس على ذلك كل الأفعال المضارعة الواردة بعد الأفعال الماضية في النص، على أن الأمر لم يقتصر على استخدام الفعل المضارع فقط، ولكن الشاعرة لجأت أيضا إلى استخدام الفعل الماضي (توشَّى (ضياها) بهِ الحبرُ – تيسَّرَ لي من كتابِ الشَّآمْ - جثا ألفُ غازٍ – وصَلَّتْ لها القممُ الشامخاتُ – ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ – فأمرعها خُضرةً حيثُ حَـلَّ – وأنَّ السِّنينَ توالتْ على أهلها – تربَّت على شَجرِ الرُّوحِ حتَّى تفتَّح في صَدرهَا الياسمينُ – تَوضَّأ في سِرِّها ألفُ نايٍ – وهامتْ بها مُذْ رأتُهَا المَرايا – و كانت ضفائرُها كلَّما ائتلقتْ تنشُرُ العطرَ فوق مداها – لا الوردُ جَفَّ – ولا نفَدَ الخَمرُ مِنْ دنِّهَا – ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا – بكى الياسَمينُ – بَكَى شَجَرُ القَـلبِ – كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها – شَرُفَتْ على كُلِّ المدائنِ) فالأفعال الماضية ذات حضور بارز في النص وهو يدل أيضا على الحركية والحيوية، وإن كان غير دال على الاستمرار كالفعل المضارع، وبذلك تكتسب القصيدة ديناميكية عالية وحيوية كبيرة من الحضور الواسع للأفعال سواء الأفعال الماضية أو الأفعال المضارعة، أما فعل الأمر فقد كان حضوره قليلا جدا، اقتصر على ثلاث نماذج (أمَّا بهاهَا فحدِّثْ و لا حرجٌ .. . فيا ربِّ حوِّل سحائبها طلعَ قمحِ ... ويا وجهَها الغضَّ مُرَّ بروحي) وبذلك تكون الجمل الفعلية ذات حضور بارز في النص مؤدية دورها في إنتاج الدلالة.
رابعا: التقديم والتأخير وإنتاج الدلالة
من الملاحظ أن النص منذ العنوان يعتمد آلية التقديم والتأخير بصورة كبيرة للكشف عن المعنى وإنتاج الدلالة، ومن ذلك (لسيِّدةِ الضَّوءِ .. للألقِ السَّومَريِّ السَّنيِّ تضجُّ به مُقلتاهَا.. لسيِّدةِ الخصْبِ في أرضِ كنعانْ .. لسِرٍّ بروحِ ابنِهَـا "النَّاصريِّ"..لأبهى الأيائلِ عند السُّهوبِ..لأغلى الصَّبايا بسهلِ الجليلِ.. سلامٌ ... سلامْ..) فمن الممكن اعتبار كل شبه جملة/الجار والمجرور في النماذج السابقة خبرا لمبتدأ محذوف (لسيدة الضوء سلام – للألق السومري ... سلام – لسرٍّ بروح ابنها الناصري سلام – لأبهى الأيائل عند السهوب سلام ....) وقد أشار البلاغيون وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني إلى أن ترتيب الألفاظ في الجملة ناشئ عن ترتيبها في الذهن، فالإنسان ينظق بما هو مهم أولا، ثم يأتي الأقل أهمية، وقد أشرنا عند حديثنا عن العنوان إلى أن تقديم (سيدة الضوء) يوحي بأنها سوف تكون مركز الرؤية وبؤرة الدلالة في النص، وهي التي سوف يتمحورحولها المعنى صعودا وهبوطا، وهي التي سوف تشكل تضاريس النص المختلفة، وقد تجلى ذلك واضحا في النص؛ غذ كان لسيدة الضوء/الشآم الحضور الفعلي في النص منذ البداية حتى الناية، فلم نجد حضورا كبير لعناصر تردد ذكرها في النص، مثل الغزاة الذين جثوا على قدميها، وكذلك كنعان والناصري، وغير ذلك، فلم يكن لهذه العناصر حضور إلا بمقدار ما يبرز حضور سيدة الضوء/الشآم، ومن ثم فإن التقديم هنا ضرورة إبداعية تقتضيها الرؤية الفكرية، ومن ذلك أيضا (على قدميها جثا ألف غاز – بالقرب منْ "طُورِها ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ) ففي الجملة الأولى كان التركيز على تعظيم سيدة الضوء/الشآم، ومن ثم فقد ذكرت الشاعرة ما يكشف عن هذا التعظيم من خلال تقديم (على قدميها) إشارة إلى تعظيم سيدة الضوء والتقليل من قيمة الغزاة الذين حاولوا الاعتداء على سيدة الضوء/الشآم فكان مصيرهم ركوعهم عند قدميها إذلالا لهم، وتعبيرا عن هزيمتهم، أما الجملة الثانية ففيها تقديم للمكان (بالقرب من طورها) ليكتسب هذا المكان القداسة والضوء من خير الأنام، ومن ذلك أيضا قولها (وصَلَّتْ لها القممُ الشامخاتُ) فقد وجدنا تقديم الجار والمجرور (لها) على الفاعل (القمم) وإذا تأملنا الجملة فإننا نجد أن الجار والمجرور مشتمل على الضمير العائد على سيدة الضوء/الشآم، فكان من الضروري تقديمه في المبنى؛ ليدل ذلك على تقدمها في الدلالة، فكما تقدمت في بداية النص (لسيدة الضوء .... سلام) تقدَّم كذلك كل ما يشير إليها أو يدل عليها؛ ليكون ذلك آلية متَّبعة في النص كله، ومن ذلك أيضا قولها (وهامتْ بها مُذْ رأتُهَا المَرايا) فقد تقدَّم الضمير الدال على سيدة الضوء (بها – رأتها) وتأخر الفاعل (المرايا) والترتيب الطبيعي للجملة (وهامت المرايا بها مذ رأتها) ولكن الشاعرة عدلت عن هذا التعبير إلى التعبير المختار في النص؛ لتكون سيدة الضوء وما يدل عليها متقدما دائما في إشارة إلى تقدمها في الواقع العملي.
وإذا كان للتقديم دور في إنتاج الدلالة كما لاحظنا في السطور السابقة، والكشف عن مكنون الرؤية الفكرية في النص فإن التأخير أو اتباع النظام المعتاد للجملة العربية قد ساعد كذلك في إنتاج الدلالة، ومن ذلك (هيَ في خاطرِ الله أكملُ مِن خلقِهَـا – هيَ كلُّ الجميلاتِ في الأرضِ – هِيَ من ملكاتِ الزَّمانْ) فمن الملاحظ أن المبتدأ (هي) في الجمل السابقة قد جاء في بداية الجملة، وهو الترتيب المعتاد للجملة الاسمية، وإذا تأملنا هذه الجمل فسوف نجد أن الضمير (هي) يعود على سيدة الضوء/الشآم، ومن ثم فإن تقديمه هنا يعدُّ اتباعا للآلية التي اختطتها الشاعرة في النص، وهي تقديم كل ما يدل على سيدة الضوء سواء كان حقه التقديم، أو كان حقه التأخير، ليتماشى ذلك مع دلالة العنوان التي أشرنا إليها في بداية الدراسة وهي تقديم (لسيدة الضوء) الذي يوحي بأنها سوف تكون مركز الرؤية وبؤرة الدلالة في النص، وهي التي سوف يتمحورحولها المعنى صعودا وهبوطا، وهي التي سوف تشكل تضاريس النص المختلفة، ومن ثم فإن التقديم هنا يتماشى مع هذه الدلالة. وبذلك يكون للتقديم والتأخير دور في إبراز المعنى وإنتاج الدلالة، والكشف عن ظلال الرؤية الفكرية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية.
وهنا تضع الدراسة عصا الترحال لتكتفي بهذه الإشارات موقنة أن النص يشتمل على الكثير الذي يمكن قوله، فمن الممكن الحديث عن الذكر والحذف، واستخدام أسلوب القصر، والجمل المنفية والجمل المثبتة، وغير ذلك كثير مما تضمنه النص، ويمكن أن يكون مادة خصبة للتحليل وإنتاج الدلالة؛ فإن النص ثريٌّ إلى حد بعيد، وقادر على توليد الدلالات، ولكن الإشارة تكفي المتلقي الذكيَّ الذي يستنتج مما أشير إليه سابقا كلَّ ما لم تشر إليه الدراسة.



لسيِّدةِ الضَّوء..
ليندا إبراهيم

لسيِّدةِ الضَّوءِ ..
للألقِ السَّومَريِّ السَّنيِّ تضجُّ به مُقلتاهَا..
لسيِّدةِ الخصْبِ في أرضِ كنعانْ ..
لسِرٍّ بروحِ ابنِهَـا "النَّاصريِّ"..
لأبهى الأيائلِ عند السُّهوبِ..
لأغلى الصَّبايا بسهلِ الجليلِ..
سلامٌ ... سلامْ..
و لأنَّ ضياهَا توشَّى بهِ الحبرُ ..
أمَّا بهاهَا فحدِّثْ و لا حرجٌ ..
وأمَّا اصطفافُ اليَمامِ على ضِفَّتَي جُرحِهَا
وَهديلُ ضفائرِها إذ يغنِّي نشيدَ السَّلامْ ..
سأتلُو عليكُم إذاً ما تيسَّرَ لي من كتابِ الشَّآمْ :
هيَ في خاطرِ الله أكملُ مِن خلقِهَـا ..
و أجملُ من برقِهَـــا في ضمير الغَمَامْ..
هيَ كلُّ الجميلاتِ في الأرضِ
كلُّ الأميراتِ فوقَ العُرُوشِ
وأختُ الورودِ و أصلُ الخُزام..
على قدميهَا جثا ألفُ غازٍ..
وصَلَّتْ لها القممُ الشامخاتُ
و بالقُربِ منْ "طُورِها ضَوَّءَ الكونَ خيرُ الأنامْ....
وقيلَ قديماً بأنَّ "الفتى الأخضرَ" ال مرَّ فوق ثراهَا..
فأمرعها خُضرةً حيثُ حَـلَّ..
وأنَّ السِّنينَ توالتْ على أهلها ..
وما من نبيٍّ يُؤوِّلُ رؤيا...
فيا ربِّ حوِّل سحائبها طلعَ قمحِ
فيُخصِبَ كلَّ بساتينِ غوطتها ..
ويا وجهَها الغضَّ مُرَّ بروحي
نُرتِّلْ أناشيدَ أهلِ الشآآآمْ...
سلامٌ عليهم... و ألفُ سلامْ..
هِيَ من ملكاتِ الزَّمانْ...
تربَّت على شَجرِ الرُّوحِ حتَّى تفتَّح في صَدرهَا الياسمينُ
تَوضَّأ في سِرِّها ألفُ نايٍ
وهامتْ بها مُذْ رأتُهَا المَرايا
و كانت ضفائرُها كلَّما ائتلقتْ تنشُرُ العطرَ فوق مداها ...
وأمَّا هواها فما مالَ يوماً عنِ المجدِ
لا الوردُ جَفَّ
ولا نفَدَ الخَمرُ مِنْ دنِّهَا
فيداها تصوغُ من الحُسنِ أشهى جناها ...
وعشاقُها الهائمُون بها مُذ ثَوَوا في التَّكايا
فكانوا النَّبيِّين..
كانوا الدَّراويشَ.. ملحَ الزَّمَانْ ..
سلامٌ عليهم ... و ألفُ سلامْ..
تقول الرِّياحُ..
مضَى العامُ...
سبعةُ أعوامَ ..
سبعٌ شدادٌ...
ذوَتْ بسمَةُ الوردِ في مَهدِهَا ..
بكى الياسَمينُ..
بَكَى شَجَرُ القَـلبِ..
كلُّ طُيُورِ المَدائنِ ..
كلُّ الفراشَاتِ والقبَّرات ...
كتبَ الغيمُ نصَّهُ في مداها ...
وفَتَى الشَّام راحَ يُملِي عَلَيهِ..
سُورَة المَجدِ من كتابِ المَعَالي ...
والأغاني سمرٌ على شفتيهِ
زرقةُ الصُّبحِ بعضُ بعضِ ضِياهُ...
وسَنـا البرقِ من فُيُوضِ يَدَيهِ....
الآنَ أختتمُ الكتابَ ...
فكلُّ جرحٍ غائرٍ في الرُّوحِ يُنشدُ ما تبقَّى منْ أنيني...
فالأنينُ اليومَ أقربُ للسِّمَاءِ منَ الصَّلاه ...
وسأقنعُ الصُّوفيَّ قلبي كي يُناجي سرَّكِ المَخبُوءَ في قلبِ الإله ...
الآنَ أشهدُ ملءَ رُوحِي أنَّكِ الأرضُ التي شَرُفَتْ على كُلِّ المدائنِ..
والقصَائدِ..
وَالكَلامْ ...
يا أنتِ... يا أرضَ الشَّآمْ ..

دمشق - الشام 2017





1 commentaire

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى