فؤاد التكرلي - الاختيار فؤاد التكرلي

ما كان لي أن أتصور عودتي إلى محلتنا القديمة (باب الشيخ) بعد أكثر من عشر سنوات, لكن تلك العودة تحققت حين فتحتُ لي مكتبا للمحاماة مطلا على شارع (الكفاح) فوق أحد المقاهي المجاورة لمخزن (عبد الله الشيخلي).

كانت في الأساس فكرة أبي, الذي ذكّرني بأن أهالي (باب الشيخ) هم أهلنا وهم الذين قد يلجأون إلينا في محنهم ومشاكلهم الحياتية, فاذهب إليهم وكن بجوارهم لتنفعهم وينفعوك.. وهكذا كان.

ولأجل اكتمال قيام المكتب وخدماته, فقد أرسلتُ بطلب (أبي مصطفى), أحد سكنة (باب الشيخ) الأقدمين والفراش الذي خدم والدي حين كان قاضيا في محاكم بغداد المدنية, فحضر. رجوته أن يقوم بالإشراف على مكتب المحاماة الجديد الذي سأمارس العمل فيه. كان الطريق إلى المكتب من دارنا في (الحارثية) طويلا بعض الشيء, غير أني لم أتضايق منه, فقد رتبتُ أموري بحيث أصل إلى المكتب حوالي الرابعة مساء لأبقى فيه حتى الثامنة. ولأني لم أكن في ضيق مادي ولا مسئولا عن إعالة أحد غيري, فقد أخذتُ افتتاح المكتب على أنه خطوة أولى للتعيين بعد ذلك في سلك القضاء مثل والدي وأخوته.

كنتُ ألقى (أبا مصطفى) حين وصولي, وقد نظف الغرفة وفتح نوافذها ورتّب الأوراق القليلة المرمية على المكتب وجلس ينتظرني. لم يكن قليل الكلام ولكنه كان يعرف حدوده بشكل حدسي, وخاصة عندما يرى انصرافي عنه وانشغالي بشيء آخر. كان يسكن على مبعدة مائتين أو ثلاثمائة متر عن المكتب, في منطقة شعبية من (باب الشيخ) تسمى محلة (شيخ رفيع). وبسبب وجود (مدرسة باب الشيخ الابتدائية للبنين) في تلك المنطقة, ولأني درستُ فيها أكثر من أربع سنوات, فقد كان يمتعني أحيانا أن أسمع منه عن وضع تلك المنطقة وما صارت إليه, هي وسكانها. كان يتنبأ - ليس دون أسباب - بأنها منطقة آيلة إلى الزوال, وأن أمور الزمان وتطلعات رجال السلطة تجعلها مكانا وقتيا لا مستقبل له. سألته, بغير فضول, عن بعض الشخصيات التي كنت على ألفة في الماضي بأسمائها.. (الحاج سبع) ومصلح الأحذية كريم القادري وابن البطاوية, فاستضاء وجهه بابتسامة سعيدة, وأجاب بأن أحدا منهم لم يبقَ في (باب الشيخ), حتى أحفاد (الحاج سبع) هاجروا حين أكملوا دراستهم ولم يعد يشوقهم أن يسمعوا أن جدهم كان صاحب دكان لبيع المواد المنزلية والخضر. تلك أمور مؤسفة ولكنها, من ناحية أخرى, طبيعية. وإذ لم يأخذ (أبو مصطفى) فتح المكتب هذا بصورة جدية, ظانا أني كنت أتسلى على طريقتي الخاصة, أو أني لا أنتظر من أحد أن يراجعني في قضية قانونية, فقد أهمل إخباري بأن (عباس الحداد) يروم مقابلتي في شأن من شئونه الشخصية, حتى تذكر ذلك ذات مساء فبدأ, على استحياء, يسرد لي حكاية (عباس الحداد). هو شاب يعيش, مع والدته, وحيدا, ويشتغل في الحدادة تبعا لعمل أبيه الذي توفاه الله منذ سنوات. أكمل الدراسة الابتدائية كما يقال وهو يملك, إضافة لدكان الحدادة, منزلا صغيرا مجاورا له. ورث ذلك عن أبيه, وكان لأمه حصة في الدار ضئيلة.

ما حدث (لعباس) خلال السنة الماضية هو أنه تعلق بإحدى الفتيات وسعى بجنون للزواج منها. كانت هي (حسنة) بائعة الخبز المتجولة. تقبل مع شروق الشمس حاملة على رأسها أقراص الخبز مرصوصة في صحن (الخيش) الواسع وهي, في سيرها مبدية حنايا جسدها الفتي, تنادي على خبزها الحار. كانت في العشرين من عمرها, ذات ملامح جذابة وجسم متناسق, والتفاتات ونظرات لا تخلو من المعاني والدعوات. وكان (عباس) في خلوته النفسية والمادية, إنسانا معتصرا, يتلهف إلى الدنيا ومسراتها وهو يراها تمر سريعا غير مبالية به. تبادلا التحيات والكلمات الساذجة والمبطنة, وأبدت له (حسنة) الجميلة منذ البدء أنها غير مهتمة به ولا طامعة بنيل حظوته.. هو الحداد المسكين الذي لا يكاد يحصل على رزقه إلا بمشقة. ثم إن هناك مما يزيد من مصيبة (عباس) سوءا, والدته ولسانها الطويل وتدخلها في كل شأن صغير أو كبير في حياة ابنها. وتابع (أبو مصطفى) أن (حسنة) كانت وردة المحلة ومطمح الشبان حواليها, وكانت أخبارها وتحركاتها مرصودة من الجميع, لذلك لم يخف على أحد غيابها عن بيت والدتها الخبازة أسبوعا بكامله دون سابق إنذار, وحينما عادت بعد ذلك لم يصدق أحد من سكان المحلة أنها كانت في بيت خالتها في (بغداد الجديدة), ولم تفت عليهم ملاحظة تغير غامض في ملامحها وتصرفاتها. وكان المهموم الأول والوحيد بين الجميع هو (عباس الحداد) الذي وقف موقفا مغايرا وأبدى لها من العواطف ما جذبها إليه. وهكذا تزوجا أخيرا. كان ذلك منذ أربعة شهور مضت. لم تكن شهورا عسلية بوجود (أم عباس) وبانشغال (حسنة) هي الأخرى بمساعدة أمها الخبازة ومعاودتها توزيع الخبز صباح مساء, وكان في صميم هذا الموقف المعقد, سرٌ أراد الحداد المرتبك أن يراني بشأنه. حالما دخلتُ المكتب ذلك المساء, ورأيت شخصا ذا وجه مألوف إليَّ حتى عرفت أن (عباس الحداد) كان أحد رفاقي في الصفوف الأخيرة في (مدرسة باب الشيخ للبنين). كانت سعادته بمعرفتي بالغة تفوق المعتاد, ولقد لاحظتُ تردده في احتضاني فأقبلت أنا على التربيت على كتفيه بمودة.

كان متغيرا بعد كل هذه السنوات, تبدو تقاطيع وجهه متضخمة بشكل غير طبيعي وشعره الكث خشنا في لون أسود دامس. غير أنه كان أليفا يميل إلى سذاجة في الأفكار تقارب الغباء. تذكرتُ, وأنا أحادثه, أنه لم يكن من التلاميذ النابهين, فسألته هل حصل أخيرا على شهادة البكالوريا للصف السادس فأجاب بالنفي.

كان جالسا إلى جوار المكتب, يراقب بقلق (أبا مصطفى) في رواحه ومجيئه, ثم انتهز فرصة غياب هذا الأخير لجلب الشاي فسألني بصوت خافت إن كان في الإمكان أن ينفرد بي, فأجبته بالإيجاب وصرفتُ (أبا مصطفى) بعد أن قام بتقديم الشاي لنا ثم أغلقتُ الباب.

كان واضحا أن (عباس الحداد) مشتبك في مأزق معقد بعض الشيء, وكنت أتوقع كل شيء منه.

- أستاذ, يمكن تعرف أني تزوجتُ حديثا فتاة من المحلة..

سكت فهززتُ رأسي:

- هي من عائلة فقيرة أستاذ..

- لماذا لا تترك لقب الأستاذ هذا, وتحدثني كصديق ورفيق قديم? اتفقنا?

- نعم. نعم. شكرا. قلت إنها من عائلة فقيرة.. مثلي أنا. عوائل فقيرة وشريفة. هذا هو المطلوب. وتزوجنا بحسن نية, وهذا مطلوب أيضا, غير أن الأمور تعثرت يا أخي الأستاذ.. لا أدري كيف ولا لماذا, سوى أن الدنيا انقلبت إلى جحيم بين ليلة وضحاها. هكذا هو الأمر. الوالدة - يرضى الله عنها - من جهة والزوجة (حسنة) من جهة أخرى, وأنت عليم بما يحدث بين الاثنتين. لا مناقشة في الأمور. لا مناقشة أبدا. كل جهة تقطع رأس الأخرى, وأنا بينهما مقطع الأوصال يا سيدي. حسنا, قلت في نفسي... ما العمل أخيرا?

ثم توقف (عباس) فجأة عن الكلام, فسألته:

- ما العمل لأجل الخلاص أو ماذا?

فبدت على وجهه دهشة واضحة:

- الخلاص?! ما معنى الخلاص? كلا. كلا. الخلاص ليس هو الكلمة.. ليس هو المطلوب. كيف يمكنني أن أتخلص?

- ماذا تعني? ألا تريد أن تلجأ إلى حل قانوني أساعدك عليه?

- لا أدري يا سيدي. لا أدري. لدي معضلة كبرى. ثم تلفت حواليه لحظات كأنه يريد التأكد مرة أخرى من خلو الغرفة. بدا عليه تردد غريب لم أفهمه. سألته:

- ألا ترى يا عباس أنه من المستحسن أن نتصارح.. وأن تحكي لي بوضوح عما تريد وكيف يمكنني أن أساعدك? أنت جئتَ تطلب مساعدتي, أليس كذلك? كصديق وكمحامٍ.. أليس كذلك?

- صحيح والله يا أستاذ.. صحيح والله.

- إذن?

تغيرت ملامح وجهه خلال ثوان, فصار كمن يعاني ألما داخليا يريد أن يتغلب عليه فلا يقدر. أبعد نظره عني ومضى بعد هنيهات يخاطبني هامسا:

- أنا لا أقدر على الانفصال.. على الخلاص من (حسنة).. زوجتي. لقد سلمت نفسها لي فعاهدتها ألا أخونها. قالت لي منذ البداية لماذا قبلتْ بي زوجا, فرضيت ولن أخونها. قالت لي إنها.. إنها ليست بكرا.. فرضيت. رضيت بها على علاتها ولن أخونها. إنها كل شيء جميل في حياتي وهي كل ما أملك, ولكنها لا تطيق أمي ولا تريدها ولا تريد أن تراها.. رباه, ما العمل?

صدمتني بعض الشيء أقواله ولم أصدقها. أتراه يهرف من أجل التغطية على أمر آخر? وما تراه يكون هذا الأمر الآخر?

- اسمع يا عباس, لا أحد طلب منك أن تتخلى عن زوجتك..

قاطعني:

- عمن يمكنني أن أتخلى إذن? قل لي بربك.

سكتُّ.

لبثنا ساكتين هنيهات, نتحاشى تبادل النظر. وإذ طال صمتنا حتى قطعه بعد حين دخول (أبي مصطفى) إلى الغرفة, فقد قام (عباس) مسترخصا بالانصراف متسائلا عما يمكن لرجل قانون مثلي أن يقترح, وما يمكن أن يطلبه هو مني قانونيا?

كانت تلك قضية قانونية شائكة بشكل خاص, فالقانون لا يختار للبشر ما يتوجب عليهم اختياره. ورغم ما بدا كأن الوضع يحتوي على سفسطة كلامية لا نفع فيها, إلا أن الأمر لم يكن كذلك.

زارني (عباس) مرتين أو ثلاثا بعد ذلك, يجلس على مبعدة من المكتب بأدب جم ولا يتفوه بالكثير من الكلام ولا يترك لي أن أحزر ما يريد أن يقول, أو ما يجول في خاطره. وكان (أبو مصطفى) في أغلب الأحيان, يبذل جهده لكي يصير الجو بيننا عاديا وغير مشحون بأمور غامضة, فيروح يسرد أخبار المحلة ومجريات الأمور فيها, وكان (عباس) يصغي بانتباه لأقواله كأنه غير مشغول الفكر بأي شيء آخر. أراد (عباس), مرة واحدة فقط, أن يكلمني على انفراد. سألني هامسا عما إذا كان القانون يعاقب بشدة على من يعتدي على أحد أبويه, فأجبته بالإيجاب, شارحا الأسباب لتلك القسوة في العقاب, فأيدني بحماس. كان, في جلسته, هادئا باردا. لم أود أن أتوسع معه في أمر خطير كهذا, متوجسا بإبهام أن أفكارا لا تمت إلى الخير بصلة تدور في ذهنه. ولسبب مازلتُ أجهله أضفتُ قائلا:

- الاعتداء على أحد الوالدين, من أسباب الإعدام في القانون العراقي. هذه جريمة خطيرة جدا.

فأجاب:

- هذا حكم عادل.

وكانت في نظراته إمارات هلع لم أجد لها مبررا. ثم, بعد أسبوع من ذلك الحديث أو حوالي ذلك, جاءني (عباس). جلس صامتا فترة طويلة, مثل تمثال من خشب, ينظر إلى الأرض أحيانا ثم يرفع بصره يتطلع إلى ما وراء النافذة أحيانا أخرى. كان في عالم آخر, وقد ازدادت وحشته وعزلته. انتهز, بعد أكثر من ساعة, خروج (أبي مصطفى), ليوجه إليَّ سؤالا غريبا بصوت متكسر:

- ألا يوجد في القانون مجال للرأفة بحق هذا.. هذا الذي يعتدي على أحد أبويه? أعني أستاذ.. مراعاة ظروفه.. أمور أخرى?

حدقت في وجهه, في تلك الملامح المتغضنة السمراء, فلاحظت ارتجافا بسيطا في شفته السفلى. كانت عيناه السوداوان تضجان بنظرات قلق وجزع وارتياب.

- ماذا تريد أن تقول يا عباس?

كان يفرك يديه ويعصر أحدهما بالأخرى. بدا وكأنه على وشك أن ينهار باكيا على أرض الغرفة. كلمته:

- إهدأ يا عباس وابعد عن ذهنك هذه الأفكار السوداء. لم يجبني, إلا أنني قرأتُ في عينيه جوابا آخر. جاء بصيغة سؤال.. كيف يمكنني ذلك?

وهكذا, كنتُ جالسا ذات مساء بمفردي بعد أيام, أشرب الشاي بهدوء في مكتبي, حينما ارتج الباب وانفتح بعنف ضاربا الحائط خلفه ثم دخل (أبو مصطفى) كالثور الهائج, محمر الوجه زائغ النظرات, فصرخ عاليا:

- أستاذ.. يا أستاذي.. فعلها (عباس). لعنة الله عليه.

ثم تهاوى على أقرب كرسي وراح يمسح العرق عن جبهته ورأسه ووجهه:

- هكذا البشر هذه الأيام. لعنة الله عليه



فؤاد التكرلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى