مجدي جعفر - قراءة في ديوان "شطرنج" للشاعرة نجلاء الشنواني

بهذا الديوان تنضم نجلاء الشنواني إلى قائمة الموهوبين من شعراء العامية ، وتفرض نفسها بقوة على الساحة الثقافية، واستطاعت بدأبها وإصرارها أن تجد لها موطئ قدم، لجودة إبداعها وتميزه، وتستحق في هذا الديوان الحفاوة، والتناول النقدي.
وجاء الإهداء كقصيدة قصيرة مكثفة، ترثي فيه العمر الذي راح سدى، وضاع هباء، ترثي جيلا لم يعش حياته كما يجب، فغاب عنه الحلم، كما أفلت عنه البسمة، وتخشى الشاعرة على الأجيال القادمة، فهي لا تريد لهم أن يعيشوا كما عاش أسلافهم في وجع، وتضيع أعمارهم بلا ثمن.
فتقول :
" إلى العُمر اللي راكب ..
قطرنا القشاش.
إلى اللحظة اللّي كانت ..
نفسها تتعاش.
إلى الحلم اللي غايب ..
دهر عن روحنا.
إلى البسمة اللي مشتاقة ..
لفرح ما جاش.
إلى كل اللي سابق ذكرُه..
في السالف.
أنا خايف.
يكون الآتي زي الماضي ..
تمنه بلاش
وجع متعاش. "
واختارت الشاعرة قصيدة " شطرنج " لتكون عنوانا لديوانها، والعنوان كما يقول السيميائيين هو عتبة النص، فهل كان لقصائد الديوان من هذه القصيدة / العنوان نصيبا، وهل يمكن أن تعبر قصيدة " شطرنج " عن الرؤية الموضوعية والفنية للشاعرة، وهل سنجد هذه الرؤى مبثوثة في كل قصائد الديوان بطريقة أو بأخرى أم أن العنوان اختارته الشاعرة عشوائيا، وجاء منبت الصلة عما تحمله قصائد الديوان من رؤى موضوعية وفنية؟!.
اختارت الشاعرة لعبة الشطرنج وهي لعبة معروفة لتنسج نصها، فأهم قطع الشطرنج : ملك واحد، ووزير واحد، حصانان، فيلان، وثمانية جنود، ..إلخ، والوزير هو أقوى القطع والعسكري أضعفها، والهدف من هذه اللعبة إماتة ملك الخصم بوضعه تحت التهديد المستمر بالأسر، ولهذا تستخدم قطع الشطرنج لمهاجمة وأسر قطع الخصم وفي نفس الوقت الدفاع عن بعضها البعض، وعن اللاعبين المتحاربين تقول الشاعرة :
" بيجمعهم لقب واحد
وبيت واحد
ووطن واحد "
ولكننا للأسف نراهم :
" ويتقابلوا كما الأعداء
ووش لوش
ملامح قسوة مرسومة ..
على وشوشهم
وحالة من عبوس .. "
واستخدمت الشاعرة في هذه القصيدة تقنيتي " المفارقة التصويرية " و " الرمز ".
والمفارقة التصويرية هي كما يعرفها الشاعر والناقد الدكتور حسين علي محمد : هي إحدى الوسائل الفنية التي يلجأ إليها الشاعر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين.
فهؤلاء أبناء الوطن الواحد الذي يضمهم بيت واحد ويتحدثون بلغة واحدة المفروض أن يعيشوا أخوة وفي وحدة وحب وسعادة، ولكننا للأسف نراهم في تشرذم وانقسام وشقاء!.
وتستثمر الشاعرة لعبة الشطرنج لتفضح حال الوطن المزري :
" بيتاكل عساكرها
مع خيلها
وفيل الأبرهة الظالم
وطابية والوزير هامان
عشان يفضل ملك واحد
من الاتنين
على عرش المكان جاثم "
والصراع هنا هو صراع على السلطة والحكم، وترى الشاعرة بأن الجميع خسران بمن فيهم المنتصر.
" لا بد ها يخسر الطرفين
سواء كسبان
سواء خاسر "
وتصف حال الأم / الوطن وهي تكاد أن تغرق :
" وقلب الأم بيعافر ..
في وسط الموج
بينزف حسرة موجوعة
كما المرجوج "
وتصرخ الأم / الوطن :
" في حرب غرورة كدابة
قابيل ابني قتل ابني
في لحظة غيرة غلابة "
وترفض الأم الثكلى الموجوعة الحاصل بين الأخوة :
" ورافضة كل شيء حاصل
ما بين الإخوات
آخرها ممات "
.....
استخدمت الشاعرة في هذه القصيدة بعض الرموز التراثية مثل : فيل أبرهة، الوزير هامان، قابيل، ونجدها في أكثر من قصيدة لجأت إلى الرمز، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قصائد : حلمك الموهوم، آلاعيب، حسرة، باتخيل.
والرمز كما ذهب النقاد هو وسيلة إيحائية من أبرز وسائل التعبير الشعرية التي ابتدعها الشاعر المعاصر، ويرى أستاذنا الشاعر والناقد الراحل الدكتور حسين علي محمد بأن الشاعر المعاصر عبر سعيه الدائب وراء اكتشاف وسائل تعبيرية لغوية يثري بها لغته الشعرية، ويجعلها قادرة على الإيحاء بما يستعصي على التحديد والوصف من مشاعره وأحاسيسه وأبعاد رؤيته الشعرية.
والشاعرة استخدمت في قصيدة شطرنج الرمز الإيحائي البسيط ، مثل الأم والتي ترمز إلى الوطن، كما استخدمت في نفس القصيدة الرمز التراثي، واستخدمته بكثرة في قصائد أخرى، ففي قصيدة " حلمك الموهوم " فقط استرفدت من تراثنا التاريخي والديني شخصيات مثل : المعتصم، سيف الدين قطز، السادات، الهرم، الهيكل المزعوم، الأقصى، المسيخ الدجال، المهدي المنتظر، وهذه الرموز التراثية الكثيرة جاءت في رأيي عبئا على النص، وشتت القارئ والقصيدة، ولكنها في قصيدة " آلاعيب " حالفها التوفيق في توظيفها للرمز الشعبي واستعادت لنا قصة ياسين وبهية برمزيتها الشفيفة، وبإسقاطها على الواقع، وخرجت لنا برؤى جديدة، وتأتي قصيدة " حسرة " من أجمل قصائد الديوان لأن القصيدة انتظمها رمز تراثي واحد، وعمقته، وكثقته، فأثرى القصيدة، والرمز التراثي جعلها أكثر رحابة وأوسع أفاقا، وأثار في نفس الوقت ذهن القارئ، ومس شغاف نفسه ولامس أشواق روحه، فتستعيد لنا نوح، وسفينته، والعُصاة، و .. و ..
" نعزف على وتر الوجع
وصلة طرب للنُوح
راكبين على جذع الذنوب
تاركين سفينة نوح
بتعافر الموج العفي
خدنا الطوفان ويّاه
ياحسرة الرّكب العُصاة
وقت انتزاع الروح "
وانتظم الرمز الكلي بعض قصائدها، فجاءت مكثفة ومحملة بالرمز الموحي والمعبأ بالدلالات، ووفقت الشاعرة فيها غاية التوفيق مثل قصيدة " محظور " والرمز المراوغ في قصيدة " باتخيل ".
......
حينما يوسد الأمر لغير أهله، ويتم بيع الوطن في المزاد كما جاء في قصيدة " ألاؤونا "، وحينما يُحاصر الإنسان بالظلم ، ويُكبل بالعجز، كما في قصيدة " عجز " ينسحب الإنسان، فالشاعرة في عدد غير قليل من قصائدها تعبر عن الإنسان المعاصر، المحاصر، والمطارد، المنسحق دائما، والمتشظي أبدا، والمغترب، الإنسان المغترب داخل وطنه، وهو أقسى أنواع الأغتراب، أحيانا يضطر إلى الانسحاب من المجتمع، وأحيانا ينافقه ويقبل ظلمه وقهره شكلا ويرفضه بينه وبين نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يستمر في نفاقه بدعوى التكيف، وهذه القصائد تعبر في جملتها عن القهر السياسي والقهرالاجتماعي، والشاعرة ترصدها كظاهرة، وتعمقها، وتكبرها، وتضخمها، وتضعها لنا في دائرة الضوء، ولا شك أن هذا من أدوار الشاعر، وهذه القصائد تشير إلى العزلة، العزلة التي جاءت بسبب أوضاع اجتماعية وأوضاع سياسية، تفضحها وتعريها في قصائد أخرى، ولكنها جاءت على النقيض تماما من القصائد السابقة، جاءت قصائد صاخبة متمردة، متمردة على الخنوع والخضوع والاستسلام، وسأكتفي بنص واحد من النصوص المتمردة، وهو نص " سور السكات "، والقصيدة موجهة إلى الرمز القريب " الفتاة " والرمز البعيد " الوطن "، وتدعو في ثناياها إلى التمرد على الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي أوصلتنا إلى الخضوع والخنوع والاستسلام، ومن أجواء القصيدة :
" خرجي الصرخة الأسيرة ..
بين ضلوعك
وبصداها املي الفضا
نفسي عنها بجرأة ..
في براح الفضفضة
عري روحك
وارفعي كل السواتر
حتى لو كل اللي شافك قال يا ساتر "
....
" كوني نفسك لو لمرة
ما تخافيش من لحظة مرة
كوني مهرة ..
جامحة في ربوع المكان
اخلعي وارمي اللجام
كوني حرة ..
واصهلي بكل المشاعر
غيري يومك لبكرة .. "
....
" كسري سور السكات
واقعدي على عرش حلمك
والبسي تاج الكرامة "
كم عدد أفعال الأمر التي استخدمتها؟ ومادلالة أفعال الأمر هنا؟.
...
يضم الديوان قصائد كثيرة بديعة وماتعة، ومنها :
1 – بدون ماكياج : لم تقف فيها الشاعرة عند حدود الجمع بين الأشياء المتباعدة، والمتناقضة، ولكنها تحاول صهرها في داخلها، وإعادة انتاجها في شكل جديد، ومنها :
أ – الضلمة والنور :
" واشوف الضلمة جوّاهم
بيغزوها شعاع من نور "
انظر إلى التوظيف الرقيق لكلمة "غزو"؟!.
ب – الكر والفر :
" وحالة عامة م الفوضى ف مشاعرهم
خناق وزعيق
ما بين ضدين من الأخلاق
وكر وفر "
ج – الخير والشر :
" وزحف الروح على استحياء
ساعات للخير
ساعات للشر "
وانظر أيضا إلى توظيف كلمة " زحف "؟.
القصيدة دينامية، فيها حركة دائبة، والشاعرة تبحر بعمق داخل النفس البشرية، لتعيد لنا اكتشاف الإنسان، وتقديمة بلا رتوش، وبدون ماكياج.
.....
2 – قصيدة " خلطة " :
تعي الشاعرة الطبيعة الإنسانية، فالإنسان لا هو ملك ولا هو شيطان، ولا هو خير مطلق ولا شر مطلق، لاهو نور ولا نار، هو خليط من كل هذا، هو إنسان يتأرجح بين الخطأ والصوب، بين اليقظة وبين الغفلة، هو كما تقول الشاعرة :
" وانا حد مخلوط من حاجات
فنجان عيوب
مع ربع حبة ذكريات
وتلات معالق طيبة من دنيا البشر
وتلاتة تسليم للقدر
واتنين جحود
مع نص حبة من العبر
ونضيف عليهم ركعتين ..
وقت السحر
وخشوع ندم وقت السجود
ورجاء مع دمعة وجل
وعزيمة على هجر الحرام
ودقيقة غفلة ترجعك
فتخاف عليك لتضيعك
على روحك تطيب
وتضيف على كل الخليط ..
بعض الأمل
وعشم في وجه المولى ..
يغفر زلتك
تظبط حرارة القلب على ..
درجة وسط
واحذر وقوعك ف الغلط
يخرج خليطك بعد مدة محددة
ناضج وسالم م العدا "
وتستمر الشاعرة على هذا النحو، ويتوالى سردها الشعري الماتع، وليت دعاة اليوم يقرأون هذه القصيدة، ليفيدوا منها، ويتعلمون.
....
3 – قصيدة " المشاهد ناقصة صورتك " :
تُساق أحداث هذه القصيدة على لسان طفل ماتت أمه، ويأتي الاحتفال بذكرى عيد الأم، ليثير شجونه، وتسيل دموعه، ويستعيد أمه التي رحلت عنه، وصاغت الشاعرة القصيدة بنبل وشفافية وبرهافة شديدة.
.........
.........
رهافة الأنثى تتجلى في كل قصائد الديوان، حتى عندما تتناول الشاعرة الحرب، تتناولها برهافة، ففي ميدان ملحمة العبور، حيث الصواريخ والطائرات والدبابات، صوت المدافع، وأزيز الطائرات، سقطة دانات المدافع وطلقات الرصاص، النيران، و.. و ...
في قصيدة " بانوراما " نجدها تتعامل مع هذه القوة الخشنة بنعومة وعذوبة ورقة.
" الرمل حس بيوم جديد / يوم منتظر "
والطيران : " طيران بيهتف ف السما "
والدبابات : " والدبابات أصواتها تعزف للخلود "
وأما البندقية :
" والبندقية رصاصها بيغني "
إنها الأنثى الفرحة بالنصر، والتي جعلت البندقية تغني، والدبابة تعزف، والطائرة تهتف، إنها الأنثى التي تنقل لنا أحاسيس الرمل، وهمسات بيادة الجندي، وهذه الرهافة لا تفارقها أبدا، فانظر إليها في قصيدة " باستعطفك "، بذكاء أنثوي تستهل قصيدتها بكلمتي، " مش هجبرك .. و لا هالزمك .. " وتقول " لكن انا باستعطفك "، الشاعرة تملك مفتاح الولوج إلى عقل وقلب الرجل، فهي لا تمارس معه الإجبار أو الإلزام، ولكنها تستعطفه ليشركها في آلامه وهمومه :
" مش هاجبرك
ترسم مشاعرك ع السطور
ولا هالزمك
تحكي وجع مداريه بسور
لكن أنا باستعطفك
ترميلي حفنة م الآلام .. "
فهي تريد له :
" ترجع تدوق طعم الفرح .. "
وأقصى أمانيها :
" وأكون وطن
ترتاح على أرضه الخضار ..
من بعد بور
وارويك سرور "
وفي قصيدة " وباحضن فيك تفاصيلي " حالة الحب التي تصل لحالة التوحد، فيصير هو هي وهي هو، بل يتوحدا بالكون ذاته، فهي حالة عشق صوفية، ذوبان الحبيبين في الكون، ومن أجواء القصيدة :
" لقيتك كون
وجامع فيك خيوط الروح "
" ونبض ايديك بيرقيني
من الحاسد
وشر الناس وم الحاقد "
فهي تراه :
" باشوفك بعض من كلي "
وترى نفسها من خلال عينيه :
" مراية نفسي نور عينك
باشوفني فيها ملهوفة "
فلا مهرب منه إلا إليه :
" بالف الكون وبارجعلك
ماهو انت الكون وتكويني "
والشاعرة تعي دور وواجبات البنت والمرأة والطفلة والحبيبة والأم والأخت، و .. و ..
ففي قصيدة " لعله الخير " تقول في نهايتها :
" وبتصحيه دموع قلبه وأوجاعه
فيبتسم بحسرة تهد فيه الحيل
ويلقى إيدي ممدودة بفنجان بن
وكلمة تواسي أوجاعه
لعله الخير"
وهنا هدهدة الجراح والمواساة من الزوجة أو الأم أو الأخت أو الحبيبة، وانظر إلى لفظة " لعله الخير " وهي تُقال دائما عند الابتلاء، ووقوع خطب أو مصيبة.
ومن الصعب مقاربة كل قصائد الديوان في هذه العجالة سواء من الناحية الموضوعية أو الفنية، وما يثيره من رؤى وقضايا، وأرجو أن نتوقف لاحقا على معالم التجربة الشعرية عند نجلاء الشنواني، وبقى أن ألفت انتباهها، إلى بعض التكرارات، فالتكرار إن لم يكن له ما يبرره فنيا، فلا داعي له، ويجب حذفه، والشاعرة قادرة على التجاوز والإضافة، وإثراء شعر العامية.
( ورقة نقدية ألقيت بقصر ثقافة بلبيس لمناقشة الديوان يوم الأربعاء الموافق 27/ 1 / 2021م. )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى