محمد بشكار - مِنْ نسِيجِ الفراشةِ حَاكُوا الكفنْ!

عُذْراً لِمنْ يقرأُني أو لا يقرأُني إلا محواً بحكمةٍ لا يُقدِّر قيمتها منْ تعوَّد المحو شِيكاً على بياض، عُذْراً للزَّمن الَّذي أعتقَلْتُه في أسْطُرٍ تُؤجِّل تواجُدي بينكُمْ خارج الوعي إلى ما بعد التاريخ، عُذْراً إذا عدتُ بما لا تنتظرونَهُ من فرحٍ فَكِمِّيةُ الحُزْنِ الَّتي تحْدُث في العالم صارت لا تحْدُث إلا في وطني، عُذْراً.. ولَيْتَ العُذْرُ يثْني قارئي خوفاً على صِحَّتِهِ النَّفسية عنْ مُتابعة ما أكْتُبه ويمزِّقُني!

عُذْراً فما عُدتُ إلا بفاجعة قَتْلَى مصنع النسيج بطنجة، أولئك المساكين الذين ذهبوا ضحايا كوارث البشر وليس المطر، ثمانيةٌ وعشرون غريقاً في البَرِّ وليس في البحر، أسفل قبوِ فيلا بطنجة العالية أغلبهم من النساء العاملات في مصنع سري للنسيج، ومَنْ يسمع مصنعاً سرياً يَحسبُه وكراً لتخصيب اليورانيوم وصناعة السلاح، ولكن اتَّضح بعد وقوع الكارثة أنَّه مكانٌ مُخَصَّصٌ لإزْهاق الأرواح !
نساء النَّسيج..هل خَطَرَ ببال أياديهنَّ الرقيقة أنْ تحُوك مناديل بكِمِّيات تكفي كل هذا النشيج الذي خَلَّفه مَصْرَعَهُنَّ في البلد، هل خَطَرَ ببالهن أن يَبْرِمْنَ من بعض الخُيوط حبلا يليق مشنقةً بالرقبة السَّمينة لِلَّذي دَفَنهُنَّ أحياءً في القبو، وما أكثر المُجْرمين في هذه القضيَّة الواحدة، ثمة المُشغِّل وأخطبوط السُّلطات التي استَتَرتْ على تجارة يُمارسها تحت غطاء غير مشروع، ما أكثر الأيادي التي تنتعش في السِّر بالسوق السوداء، لتنتشر مع أول قطرة مطر من السماء فضائحها في العلن، لا نكادُ ننسى إحدى مآسي المجتمع المُهْمَل على قارعة الطريق حتى يتجدَّدُ بتوالي الفواجع الشَّجن !
نساءُ النَّسيج هل أعتذر لأني لا أملك غير شِعْر لا يجدي دمعاً، هل تَعْلَمْنَ أنَّ المطر قبل أن يصل للأرض يكون نقِيَّ السريرة أصفى من البِلَّور، هل تُدْرِكْن وأنتُنَّ هناك بِقُرْبِه على وسادة الغيم، أنه لا يتَّسِخ إلا حين يُصبح تحت أرْجُل البشر مُخْتلطاً بالوحل، لذلك ربما شَعَر المطر بالغربة في الشارع المُحاذي للفيلا ونَزَل فرِحاً بسيول عارمة للقبو مُلْتمساً بعض الدفء من الأقمشة، لذلك ربَّما أرادتِ السماء أن تَبْعَث من خلال غَمْرِه الجامح بعدالتها لتفْضح حجم الاستغلال الذي تتعرَّض له الأيادي العاملة في هذا الوطن !
نساء النَّسيج اللواتي دُفِنَّ نهاراً بالماء وليلا بالتراب، إلى متى نبقى دائما على أُهْبة النشيج، لا يجِفُّ دمعٌ حتى ينهمر المطر، أعلم أنَّكن بأرواح موقَدَةٍ حارقة للأفئدة التي استغلَّتِ الفقر للإثراء السَّريع، أعلم أن جُنْحَ الظلام الذي اختير طقسا جنائزياً ويتَّخِذه الخفَّاش فرصة مواتية لامتصاص الدماء، لن يُواري الفضيحة مع جثامينِكنَّ في اللحد الأخير، أعلم أن صراخكنَّ حين دوهِمْتُنَّ بسيول الغرق في القبو الذي اتُّخِذ مصنعاً للخيط والإبرة، سيبقى مُدوِّياً يصُمُّ برُعْبه آذان من يُتْقنون السرعة لاستخراج أوراق الدَّفْن، ويُماطلون هرباً من الضرائب عن التَّصْريح بأسماء المُسْتَخدَمين في أوراق قانونية تؤمِّن بعض الحقوق آناء الموت والحياة، أعلم أنِّي جاهلٌ ما دُمتُ لا أُنْصِت لتعاليم اليأس في هذا البلد، وما دمتُ أثِق في الخُدَع السحرية للأمل، فالشمس لا تغيِّر موقعها لتُشرق من جوف الجَشع الرَّأسمالي للقُبَّعة !
نساء النَّسيج المغربيات اللواتي عِوض أن تُلَفَّ أياديهن بالحرير لفَّتْهُنَّ قبل الأوان الأكفان للمرقد الأخير، لا تأْسَفْنَ على حياة جعلها الأوغاد على مقاس قبو ضيق تحت الأرض، لا تأْسَفْنَ بعد أن تحرَّرتِ الرُّوح من عبودية الجسد، لا تأْسَفْنَ على اللُّقْمة الصغيرة التي كنتن تَنْتَزِعْنَها بشرفٍ في السِّر، فهي مَتْبوعةٌ في العلن بالخزي والعار والنقمة تلاحق من يتَّجر في ضعف البشر، لا تأْسَفْنَ على حياة ليستِ كالحياة بعد أن اتَّسَعت بالفوارق الاجتماعية الهوة في النُّفوس، فثمة من يعيش في أمان وثمة مَنْ يموتُ خشية إمْلاقٍ كل يوم يهدِّدهُ الخطر !
عُذراً لم يعُد الكلام يفي بغير البُكاء، فما كاد الجرح يلتئم من فاجعة انهيار المنازل على أُسرٍ كابدوا ليالي الشتاء على أرصفة الدار البيضاء، حتى انفجر النزيف من جديد حين قال المطر كلِمتهُ فاضحاً الفساد هذه المرة في طنجة، عُذراً لم نَعُدْ نعرف بعد توالي النَّكَبات هل نتضامن عالياً بشارة الأصْبُعين وهما لا يجديان مع الهزيمة نصراً، هل نتأخَّر عن كل المواعيد لائِذين بالصَّمت، وما جدوى مواعيد لا تُضْرَب إلا حين يُضرَبُ الدّفُّ أو لحضور قافلة الجنازات كالتي حملتْ نعوش نساء النَّسيج على الأكتاف تحت جُنْح الظلام، هل نُسجِّل الحضور ونحن نعلم مُسبقاً أنَّنا لن نُزامن إلا عقلياتٍ بأمراضٍ مُزمنة، هل نُحاكم.. هلْ نقاوم.. هل نَنْدُب لاطمين الوجوه بِالتُّراب أم نُطالبُ وأعيُنُنا على الميزانِ المائلِ بالعِقاب !
...........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 11 فبراير 2021.




1613800332081.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى