عبدالرحيم التدلاوي - ملامح الرواية البوليسية والجاسوسية في رواية "الساعاتي" لحسن إمامي.

تقع رواية "الساعاتي" لحسن إمامي في مفترق الالتقاء السردي الممتزج بين التصاعد الدرامتيكي والإشكال السيكولوجي الخاضع لفن الجريمة، اللذين يشكلان منعطفاً أساسياً في توجيه وتصعيد الحدث إلى ذروة الاحتقان حيث تتوارد الانفعالات والاضطرابات بين أبطال الرواية كافة، حتى الإفراج عن الحل أخيراً في النهاية.
المتن الروائي:
تبدو البداية مغلفة بأغشيةٍ كثيفة السواد، غزيرة التحليل، فالقصة تبدأ بجريمة محاولة قتلٍ تعرض لها السيد عمر في محل السي علي بودحان، وتظل الرواية محافظة على لغزها حيث يقوم مفتش الشرطة بتتبع الخيوط مفككا للغموض ملقيا مزيدا من الوضوح حول الفاعل وملابسات الجريمة وأسبابها، وقد تغيت الرواية؛ وهي تتخذ مسوح الرواية البوليسية؛ تقديم قراءة للواقع المغربي في اللحظة الراهنة، معتمدة التشويق وتقطير الأحداث؛ هي لعبة السرد التي تنوس بين الغموض والإفصاح، لا تقدم الرواية نفسها عارية منذ البداية، بل تبدأ بالتعري وإسقاط أوراقها مع توالي الفصول والأحداث، تكشف عن شخصياتها بتأن، وعلى دفعات، وتجعل القارئ يمسك بتلابيب الأحداث ويقدم الفرضيات، ويخمن في الفاعل، ويبحث من خلال ما قدم له عن تلك الشخصيات عن الأسباب التي قادتها إلى الجرم، لتتضح له مع توالي الفصول الخيوط؛ خيوط الجريمة وينصعق لهول ما سيكتشفه كما انصعق المفتش وهو يظن أن عبد الله سعى إلى تصفية أبيه طمعا في المال والعقارات، ومن ثم استنتاجه اهتزاز المجتمع المغربي الذي صار يعيش أزمة قيم. لكن الأحداث الموالية ستكشف أن ما هاله لم يكن كما تصوره، ولا كما قدمته له الكاميرا الراصدة؛ ولن يتمكن من تصحيح نظرته لأن الملف انتزع منه لصالح المخابرات التي اهتمت بالموضوع. ثم سيتم الكشف عن هوية عمر أو عن دوره المخابراتي؛ فقد كان يشتغل لهذا الجهاز، ويقدم معلومات عن المضاربين والمهربين والمتاجرين في المخدرات والحشيش والمتهربين من الضرائب والمتاجرين في العملة وغير ذلك من الملفات، وبفضل تلك المعلومات تم إحباط العديد من العمليات التي كانت ستضر بالاقتصاد الوطني ودخله الضريبي.
وتنتهي الرواية بعد أن تم تجنيد لطف الله بشكل رسمي ليحل محل عمر الذي صار ورقة محروقة، سعت المافيا إلى تصفيته، ومصابا بمرض السرطان الذي سينهي حياته، يزود المخابرات بالمعلومات الضرورية والمطلوبة بزواجه من حياة النفوس لتنفتح على آفاق أخرى قادمة.
الافتتان السردي:
من بين سمات الرواية افتتانها بالسرد والتلاعب بخيوطه حيث نجد السارد ينتقل من محطة لأخرى قبل أن ينهي الأولى التي يعود إليها مكملا؛ ويتعمد هذا التلاعب بغاية شد انتباه القارئ وجعله غير قادر على الانصراف بفعل التشويق وإثارة الفضول والسعي إلى إشباعه لمواصلة القراءة.
جدلية الإزاحة والاحلال:
النقطة الثانية ترتبط بالشخصيات والمتمثلة في جدلية الإزاحة والإحلال؛ فشخصية "حياة النفوس" تعمدت إبعاد "لطف الله" وإحلال عمر مكانه؛ ويرتبط هذا السلوك بنزعتها الاستهلاكية ورغبتها في الظهور الاجتماعي والترقي الطبقي؛ وتتعمد الجانب السطحي بدل العميق المتمثل في الثقافة والجوهر الإنساني. ويأخذ هذا السلوك ظهوره في المحطة الثانية حيث إن المحطة الأولى شغلها حدث الطعن وما ولده من تشويق. هذا المشهد سيعود إلى الظهور في المحطة الثالثة وهو ما يؤكد لعبة السرد والتلاعب بها. وتجدر الإشارة إلي أن المحطة الثانية قد أبرزت بعض الاختلالات الاجتماعية والسياسية. أما المحطة الأولى فتولت الحديث عن البعد القيمي الذي ميز أهل المغرب قبل نزعة الاستهلاك التي اكتسحت المشهد لاحقا.
جدلية الإبعاد والإحلال تمتد لتخترق الرواية بكاملها حتى إنها يمكن أن تكون التقنية التي تحمل بين طياتها خطابها المضمر. فقد أحل الجنرال الطباخ محل كاتم سره وأبعد عنه أفراد أسرته، وستقوم الجهات العليا بإحلال لطف الله محل عمر الذي أبعده المرض وصار معروفا في عمل يتطلب السرية.
السارد في الرواية:
يبدو أن الرواية اختارت لحكيها ساردا عالما، وقليلا ما يفسح المجال لشخصياته لتتحدث بلسانها، كما مع صالح الشخصية التي برزت على مسرح الأحداث في المراحل الأخيرة من أنفاس العمل. وحين يتوارى هذا السارد العالم مفسحا المجال لصوت الشخصيات، نجد هذه الأخيرة تمارس لعبة "الستريبتيز"، ليس بمعناه السطحي المرتبط بالعري المثير للغرائز، بل بمعنى التعري أمام القارئ، وكأنه أمام مرآة، يقدم نفسه أو يستعرضها كما هي من دون روتوش أو كابح، يقدمها بتفاصيلها، يعبر عن دواخلها وما اجترحته من أفعال، فالساعاتي سيستحضر تعففه وحرصه على رعاية الأمانة رغم كل الإغراءات، يقدم نفسه في بعدها الإنساني الذي لا يميل مع الهوى، ولا يسير وراء الإغراءات، فهي تستعصم بالدين، وتتمسك بحبل الله، حتى تتمكن من تغليب قيمة الوفاء على بيع النفس، أما لطف الله، فيقدم لنا جوانب من شخصيته ستبقى غائبة لو لم يقدمها بنفسه، فهو قد مارس الجنس مرات، رغم كونه يحب حياة النفوس، ويرسم معالم فتور علاقته بها وبصديقه، مبينا أسباب الفتور والتي ترتبط بالتفاوت الطبقي...
يحق للشخصيات ممارسة التعبير عن نفسها، وأن ترى نفسها كما هي، وتقدم صورتها من دون تجميل، تعبر عن ضعفها وقوتها، فهي ليست ملائكة معصومة من الخطأ، لكن ما يلفت الانتباه هو تلك الصورة الضدية بين الساعاتي ولطف الله، فالأولى شخصية قوية بإيمانها، وما تشبعت به من أخلاق، والثانية تضعف أمام مغريات الواقع حتى أنها فكرت في الانتحار خوفا من أن تكون حاملة لمرض منقول جنسيا.
وارتباطا بهذه الشخصية، يمكن القول إنها متذبذبة لا هي حداثية ولا هي تقليدية، هي بين ذلك، والأكثر إثارة للاهتمام أنها سلبية، فما قامت به من إنجازات بعد عطالة مزمنة، كان بإيعاز من شخصيات أخرى، ومنها حياة النفوس ومايا ثم المخابرات. لم تقم بأي نشاط من تلقاء ذاتها وباختيارها، بل كانت مدفوعة دفعا.
بعد الرواية البوليسية والتجسسية:
سبق أن قلت في قراءة في رواية حسن إمامي السابقة "صرخة المصابيح" إن العمل اعتمد تقنية الرواية البوليسية من خلال توظيف أهم ركيزة فيها، وهي التشويق. حيث يتعمد السارد تقديم الجريمة وتأخير ذكر الفاعل وأسباب الفعل بغرض الحفاظ علي خيط الوصل بينه وبين القارئ. هذا الأخير الذي ينهض بمهمة البحث وتقصي الأسباب لإشباع فضوله. والأمر نفسه في رواية "الساعاتي" التي افتتحت بجريمة مع ترك فجوة في ذهن القارئ. فجوة هي بمثابة سؤال الفاعل والسبب. ولن تفصح الرواية عن أسرارها إلا مع توالي الأحداث والفصول حيث يتم تقطير الأجوبة، فتأتي على دفعات لا تنجيما.
والحق أن بعد الرواية البوليسية حاضر بقوة وهو فرصة لقراءة الواقع الموشوم بالفساد واستغلال النفوذ وغير ذلك. فشخصية عمر هي اللغز وسيتكلف مفتش الشرطة بفكه وإجلاء غموضه بإدخال حياة النفوس طرفا في المعادلة وركنا من أركان التفسير وعاملا مساعدا في تجلية ظروف وملابسات الجريمة؛ وستشعر حياة النفوس وقد استدرجت بالحيرة والاضطراب والسعي إلي إعادة ترتيب أمورها وتجديد وصالها ببيئتها التي فارقتها بالسير خلف الوهم.
من الملاحظ أن بعض شخصيات الرواية لها إدراك ومعرفة بالعلامات التي تقف أمامها. مثلا؛ لطف الله يدرك حالة حياة النفوس من خلال وضع حذائها. لقد فهم أنها تعاني من مشاكل تنضح بها قسماتها وطريقة تصرفها وشكل وضع حذائها. وهو ما يندرج ضمن البعد السيميولوجي الذي ينبغي التنبه له. فليس اللباس والطعام والحركات أفعالا وتصرفات وسلوكات مجانية بل هي غنية بالمعاني والدلالات. وهكذا حين نتابع طريقة لباس حياة النفوس ووضع العطور وطريقة مشيها وتصرفاتها ندرك أنها تتعمد التشبه بالطبقة الراقية وتسعى إلى تقليدها والتنصل من وضعها رغم انه ليس بئيسا. والأمر ذاته بالنسبة للطف الله خاصة حين يتم تجنيده، ولعبد الله وللسيد علي...
تنبغي الإشارة إلى أمر ذي أهمية وله ارتباط بسيمياء اللباس؛ يتعلق الأمر بطبوغرافية المكان. فقد تبين أن السارد له دراية بجغرافية الرباط؛ ويعمل على رسم معالم المكان بما يخدم موضوعاته المطروحة. فقد قسم الجغرافية قسمين؛ قسم تاريخي غني بتراثه الضارب في القدم والمعبر عن روحه؛ وقسم حديث يرتبط بالتحولات التي شهدها المغرب بعامة والرباط بخاصة. فالمحيط دل في ما مضى علي الوجاهة ليفقدها بظهور حي جديد وبمعمار وهندسة مختلفة ألا وهو حي الرياض الذي ارتبط بظهور طبقة برجوازية ثرية. وهذا ما يفسر طريقة لباس حياة النفوس وسلوكها وتفكيرها حتي تنسجم مع الوسط الجديد مفارقة بذلك محيطها الأصلي. وهذا التحول لم يكن جوهريا وهو ما عبرت عنه عودتها بعد أن اكتشفت زيف الواقع الجديد ذي المظاهر الخداعة والتي تخفي وراء ماكياجها بشاعة السلوك والثراء.
وتتعمد الرواية تقطير الأحداث بهدف الحفاظ علي الغموض إلى آخر أنفاس العمل. فهي لا تقدم لنا الأجوبة جاهزة ودفعة واحدة بل تتعمد التقطير عبر تقنيات منها التذكر. هذا الاسترجاع الذي يمنحنا معرفة بالشخصيات ورسم علامة استفهام حولها؛ فعبد الله إنسان عرف تحولا من التبعية للجماعة إلي الفردانية وحب المال. وهو ما يجعله تحت اتهام القارئ. ولم تكن الرواية بوليسية بل وظفتها لقراءة تحولات مجتمعنا. ونحن نسير خلف توالي أحداث الجريمة نقرأ ما عرفه ويعرفه مغربنا الَعاصر. ومن هنا يمكن القول إن الرواية تدخل ضمن الواقعية النقدية التي تقرأ سلبيات المجتمع ونكوصه رغم مظاهر التحديث الفاقعة...
تنوع التقنيات
ويتمثل هذا التنوع في استخدام مختلف التقنيات: السرد، التقطيع، الوصف، الاسترجاع، تيار الشعور، التناوب، بغية إنارة العالم الذي تُحْكَى حكايته.
دور القارئ
وفي الوقت الذي تخلى فيه القاص عن بث صوته، تولى القارئ هذا الدور، وغدا شريكاً في إنتاج النص وتبين دلالته. وفي هذا الصدد تقول ناتالي ساروت: «دور الكاتب أن يقلق القارئ ويحثه على السؤال والبحث عن إجابة. ومن نماذج ما يثير البحث أن لا تُعْرَف النهاية وتُتْرَك مفتوحة، وأن يكثر المسكوت عنه/الغياب، ويترك للقارئ أن يعرف ذلك.
ولعل من الطريف القيام بعقد مقارنة بين شخصيات الرواية، وبخاصة بين أبي عبد الله وابنه، ولطف الله وحياة وفريد. هذه المقارنة التي تقودنا إلى التحول من الإيجابي إلى السلبي؛ فالأب يمثل القيم الأصيلة التي ميزت المغاربة قديما. وابنه وصديقه بداية الانسلاخ بتبني الشخصيتين صحبة حياة قيم حديثة. لنبلغ شخصية فريد الضائعة نتيجة التهميش وعدم القدرة علي خط سير حياة منسجمة. فقد ضيع قيمه الأصيلة ولم يستوعب القيم الحديثة. إنه رمز ضياع جيل لم بعد يراهن على السلطة ولا الثقة فيها، صار وحيدا وضائعا.
والمقارنة إياها تقود إلى الاستنتاج التالي:
إن المحافظة على القيم الموروثة ركن أساس لتحقيق السواء النفسي؛ والارتماء في أحضان القيم الغربية لن يقود إلا إلى أزمات نفسية قد تكون كارثية على الفرد والمجتمع، فهل يعني هذا ميل الرواية إلى تبني الرؤية التقليدية على الحداثية؟
ولأن الرواية اتخذت لنفسها بعد الرواية البوليسية واتخذتها جسرا لقراءة الواقع، فإنها سارت على نهجها في تقطير الحكاية؛ أقصد تقطير المعلومات المتعلقة بحادثة عمر، الشخصية المحورية التي تمتلك أسرارا عدة، من جملتها انتسابه إلى مافيا عالمية تتاجر في كل شيء ومن جملتها المتاجرة في العملة الصعبة. هكذا، نجد المفتش المكلف بالقضية يقدم لنا عبر شخصيات النص؛ حياة النفوس وعلي بودحان وأخيه، معلومات حول القضية، لكنه يقدم لكل طرف جزءا خاصا بها، فما قدمه لحياة النفوس ليس هو ما قدمه لعلي، وإن كان الموضوع واحدا. وفي الوقت نفسه، يدعو كل الأطراف، كلا على حدة، بإنجاز أفعال أو التكتم على ما تم إيراده. في هذه النقطة التي قدم فيها عمر معلومات ذات أهمية للشرطة بعد استيقاظه، نجد الرواية قد انحازت ولو قليلا باتجاه روايات الجريمة المنظمة والجاسوسية.
ولعل مرافعة المحامي، وهي تقنية أخرى من تقنيات الرواية كالاسترجاع والتذكر، ستكون فرصة لإلقاء الضوء على حياة عمر، أيام الطفولة وحياته صحبة أبيه فلاحا وعاملا، ليكون قدره الانتقال إلى الضفة الأخرى بشكل غير قانوني، ليجد نفسه يعمل لصالح مافيا منظمة، ومن خلال هذه المرافعة التي تبغي تليين موقف هيئة القضاء، نقرأ واقعنا البئيس..
من خلال الرواية يتبين تمكن المبدع الواضح في بناء الشخصيات، فهو لم يكتفِ بالتوقف عند الشكل البارز أو الظاهر منها، بل راح أعمق من ذلك بكثير، لتجده كاشفا عن الجانب الخفي من تلك الشخصيات أو لنقل ما بَطُنَ منها، وهنا لا أقصد أو أعني الضمير بل الذهاب إلى تناول أعماق شخصياته، حاثاً القارئ على الغوص والخوض فيها، جاعلا منه طرفا فاعلا ومشاركا في نصه، سعيا منه إلى اكتمال شروط سرده وأركانه. فضلا عن فتح يديه ومخزونه الفكري، ليضع المتلقي أمام جملة من المعارف التي سبق للكاتب أن اكتسبها وتعمَّقَ فيها، ودون أن يغيب عن باله مراعاته للبعدين الزماني والمكاني، وهذا ما يظهر وبشكل جلي، حين يأخذ بيد القارئ على سبيل المثال، ليطوف به أحياء الرباط وشوارعها وتوقفه الطويل عند أبرز معالمها، ليبدو كمن قرأ تأريخ بلاده بحرفة واقتدار.
المسارة والإخفاء:
‎من بين التقنيات التي توظفها الرواية وتدخل في صميم البحث والتقصي جدلية المسارة والإخفاء؛ فإذا كان مفتش الشرطة يقدم بعض المعلومات يوزعها على الشخصيات المرتبطة بالحدث؛ فأن ذلك يدخل ضمن شغله وفي جوهر وظيفته لأنه يسعى إلى جمع أكبر قدر من المعلومات المفيدة له؛ فهو لا يقدم كل المعلومات بل فقط تلك التي تخدم قضيته. إنه يسر ويخفي؛ يعلن ويبطن؛ ويترك القارئ متشوقا وإن كان قد جمع عددا من المعلومات تفوق الشخصيات المستهدفة.
لكن لطف الله وحياة يتساران بتقديم المهم وإخفاء غيره حفاظا على العلاقة بينهما؛ فما كل معرفة ينبغي البوح بها؛ إنها خطة مدروسة من كلا الطرفين. فلو عمل لطف الله مثلا على إخبار حياة بمغامراته الجنسية هل كانت ستستأمنه علي المعلومات التي وفرها لها مفتش الشرطة؟ وهل كان لطف الله سيبقي على علاقته بحياة لو أخبرته بتعمد ابتعادها عنه وسعيها إلي ربط علاقة مع عمر حتى تحقق طموحها في الرقي الاجتماعي والوجاهة الاجتماعية؟ إن تلك الجدلية تحمل في طياتها أبعادا ودلالات؛ وهي ضرورية في البحث كما في توطيد العلاقات.‎
ويمكن رصد هذه الجدلية أيضا ولو على مستوى التمني من خلال الحوار الداخلي لعبد الله، فهو كان يرغب في بقاء لطف الله وإزاحة ماريا حتى يجد لديه السند أو النصيحة للخروج من أزمته النفسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، لكن إحلاله مكان ماريا لم يتحقق لانصراف لطف الله السريع استجابة لمكالمة حياة بخصوص مسائل خطيرة ذات ارتباط بعبد الله. كما يمكن القول إن الصداقة هي إزاحة للروابط العائلية ذات المنبع القبلي والحلول مكانها لأنها وليدة تحقق ذاتية الفرد المعتمد على نفسه لا على عائلته أو قبيلته، فعبد الله، كما تم إظهاره، شخصية متمردة على تلك القيم الجماعية المذيبة للفرد ولحريته، لكنه لم يجد الأرضية الصلبة لتحقيق الذات، فانزاح عن الحداثة إلى كل ما هو سلبي وإن بدا احتجاجا وتمردا.
تنظيم الأحداث:
فيما يتعلق بترتيب الأحداث؛ فقد سارت الرواية باتجاه تكسير التعاقب والتسلسل من خلال تركيب اعتمد التسبيق والتأخير. فحدث الطعن كان لاحقا عن أحداث ارتباط حياة بلطف الله، وبشغلها في البنك أولا ثم مع عمر الشخصية المتشابكة المسالك والاهتمامات. ثم إن القارئ سيتلمس هذا الخرق لتسلسل الأحداث من خلال قصة عبد الله التي ظهرت في البداية لارتباط أبيه بعمر؛ إذ الحدث المركزي وقع بمحله، ثم بعد ذلك تمت الإشارة إلى حياته العاطفية والدراسية ليتم الانتقال إلى حياة تمرده، وتعود الرواية بعد أن توقفت في هذه النقطة مفسحة المجال لأحداث أخرى إلى الحديث وبشكل مفصل لا مجمل عن حياة الرجل وسهرتاه، وارتباطه بسماسرة يبغون جره لبيع ما ائتمن عليه أبوه، ثم ارتباطه بشبكة إجرامية لها علاقة بالعقار والمضاربات...
بعض قضايا الرواية؛ قضية الفكر الذكوري:
من القضايا المهمة والتي تعبر النص بكامله؛ نجد قضية الفكر الذكوري الذي يتغلغل في الطبقات السفلية للشخصيات بالرغم من محاولة تحررها من كل مكنوناتها. فلطف الله وبلاوعي تساءل عن العذرية رغم أن لقضيبه في محبرة حياة النفوس نصيب. وما اعتذاره إلا دليل وعي بخضوعه اللا إرادي لهذه الثقافة الممجدة للرجل؛ وتقوم أم عبد الله بدور النموذج للمرأة المغيبة لشخصيتها بخلاف ماريا المتحررة والتي تعيش أزمة نفسية تعبر عن عدم القدرة على تجاوز تناقضات الواقع فضلا عن الحياة السهلة والاستهلاكية.
والرواية كما يبدو مقسمة قسمين؛ الأول أطول من الثاني الذي يحمل العنوان الأصلي؛ وفيه تبدأ خيوط الجريمة تتفكك. إذ تقدم لنا من خلال ساردها الأكبر سبب وجود تلك الساعة بمتجر السي علي بودحان؛ إنه الابن الأصغر عبد الله صحبة البلغاري. وكان الهدف الظاهر قتل الأب للاستيلاء على ما ائتمن عليه. تنبغي الإشارة إلى أن حي حسان هو المكان الذي شهد تشابك مصالح الشخصيات. وهنا تجدر الإشارة إلي الجانب التاريخي في العمل الروائي حيث تتم الإشارة ولو باقتضاب إلى تاريخ التأسيس ومن قام به.
اللغة التاريخية تحضر إلى جانب اللغة الصحفية والبوليسية والقانونية وجميعها تقريرية بخلاف اللغة الشاعرية حين الحديث عن المشاعر وحين الاستبطان. فضلا عن الشعر والأغاني المعبرة عن المشاعر والأحاسيس.

تسير الرواية بشكل متسارع حيث تتوالى الأحداث بوتيرة غير وتيرة البداية الموشومة بالبطء. فقد قام لطف الله بإنجاز المشاريع المطلوبة دون الإشارة إلى الجهد المبذول والوقت المصروف؛ وهو ما يدخل ضمن الحذف الزمني الذي يسرع الأحداث. وسنعلم أسباب الطعنة التي تعرض لها عمر والحكم المخفف الذي صدر في حقه. ولأن القضية كبيرة وتدخل فيها أطراف عدة داخلية وخارجية؛ فقد سحب الملف من المفتش الذي قام بتلخيص الأحداث بشكل مركز وهو يسعى إلي فك خيوط القصة وإزالة الغموض المحيط بها. فمن خلال لعبة الميكادو تعرفنا علي شخصيات الحدث وأدوارها. ثم بعد ذلك، وفي لقاء لطف الله بماريا، سندرك لم تم إبعاد المفتش حيث تولت المخابرات الداخلية والخارجية لمعرفة طريقة اشتغال مافيا العقار وكيفية نصبهم فخاخا لراغبي شراء شقة. لقد كانت ماريا من هذه الهيئة وهي التي وظفت لطف الله في الودادية لكشف اللعبة. كما سنعلم أن عبد الله لم يكن متورطا بل تم استغلال سذاجته لإنجاح المخطط الرامي إلي تصفية عمر بدوي. ولابد من الإشارة إلي أن الرواية تتعمد تقديم الشخصيات قبل أن تقدم معلومات عنها جسديا ونفسيا وثقافيا ووظيفيا.
في النهاية تبقى شخصيات الرواية معلقة في فضاء التأويل حيث تم تغييبها بعد حضور مؤقت وكأنها ما جاءت إلا لأداء دور محدد لتتوارى إلى الخلف، ولتبقى ثلاث شخصيات هي المحورية: لطف الله، وحياة النفوس ومايا. أما الباقي فلم يكن سوى ثانوي رغم مساحة حضوره كعبد الله وأبيه علي. فقصتهما تعد خلفية الرواية حيث الصراع بين القديم والحديث؛ القديم الثابت والمتوازن، والحديث المضطرب والحائر.
كما أن مفتش الشرطة انتهى دوره بمجرد سحب الملف من بين يديه معبرا عن سلبية محيرة. وغيابه القسري يعوض بظهور شخصية جديدة ستتولى دفة السرد ولو قليلا؛ إنها شخصية صالح أو طباخ الرئيس؛ هذه الشخصية التي ستلعب أدوارا مهمة في إسقاط مافيات، وفي كشف أوراق شخصيات، ولها دور مهم في حيازة الجنرال لأراض شاسعة، اشتراها بثمن بخس من فلاحين بسطاء نتيجة الجفاف الذي ضرب المغرب ففرض عليهم ترك الأرض والبحث عن الرزق بالمدن.


**

1_الساعاتي لحسن إمامي، مطبعة ووراقة بلال. الطبعة الاولى سنة 2020.
إشارة لابد منها:
تم الاستفادة قليلا من مقالة نسي عنوانها.


1613839932568.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى