حاميد اليوسفي - بنت الشعب.. قصة قصيرة

عندما كبرت فاطمة وانتقلت إلى التعليم الثانوي ، كان الوالد يحكي لها بأنها ولدت في نهاية شهر دجنبر من سنة 1979 في عز الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عرفها المغرب ، قبل ثلاثة أشهر من الإضراب البطولي ليومي 10 و11 أبريل في قطاعي الصحة والتعليم ، وعلى بعد حوالي سنة ونصف من إضراب 20 جوان 1980 الذي حصدت فيه آلة القمع أرواح مئات المحتجين .
قبل دخولها المدرسة بأشهر معدودة ، اشتعلت مظاهرات 1984 في أغلب المدن المغربية .
بعد حصولها على شهادة التعليم الابتدائي اندلعت شرارة الإضراب العام ( 14 دجنبر 1990 ) مرة أخرى في البيضاء وفاس ووجدة والناضور . وتحركت آلة القمع من جديد ، واعتقلت وقتلت المئات من الارواح البريئة .
عندما انتقلت الى التعليم الثانوي كان الاضراب العام في صيف 1996 قويا ، وتراجعت خلاله الأجهزة القمعية إلى الخلف ، وتركته يمر بسلام .
عقد والدها كباقي المغاربة آمالا كبرى على حكومة الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي . رغم صبر الرجل وحنكته وحكمته وقلة خروجه الإعلامي ووزنه لكلماته ، كان يدرك مع الناس حجم الإكراهات والعراقيل التي واجهها من الأصدقاء قبل الخصوم .
توفي والدها في نفس السنة التي اجتازت فيها امتحان الباكالوريا . لسوء حظها لم يحالفها النجاح .
بكته كما لم تبك من قبل . كانت تحبه وتعزه أكثر من نفسها . كل سكان الحي يحبونه ويقدرونه ، لأنه رغم فقره ظل بيته قبلة للجيران . يصلح بينهم في الخصومات ، يتدخل في الأزمات ، ويساعد حسب الإمكانيات . والدتها أم فاطمة ، كما يحلو لأبيها مناداتها على طريقة أهل الشرق ، واجهت صعوبات كبيرة في تربية الابناء بعد موته . المعاش وحده غير كاف . اضطرت فاطمة للتخلي عن دراستها ، والاشتغال في رياض مع إحدى الفرنسيات اللواتي يستثمرن في السياحة . ظلت صورة والدها ، وذكراه تطاردها وتحرسها كلما حاولت أن تنزلق رجلاها في مستنقع الانحراف بالرغم من الإغراءات الكبيرة التي تعرضت لها . ليلة حمراء أو ثلاث ، وتجد نفسها في أوروبا أو الخليج .
عملت نادلة لمدة سنة ، تعرضت خلالها لكل أنواع التحرش ، بدءا من صاحب المحل إلى أفقر زبون في المقهى .
حدث مرة وهي عائدة من العمل إلى البيت في العاشرة ليلا ، والجو بارد وممطر ، أن اعترض طريقها أحد المنحرفين . نزلت من (الباص) ، سارت بضع خطوات ، مالت يمينا ، لم تشعر حتى أحست بذراع غليظة تلتف حول عنقها مثل أفعى من غابات الأمازون . صرخت بقوة ، نصف صرخة فقط . النصف الثاني حبسه سكين في الأعماق ، رأته يلمع أمام عينيها . بدأ اللعين يجرها بقوة إلى ركن مظلم ، ورائحة الخمر الكريهة تلسع من فمه مثل لهيب النار . كادت تقيء في وجهه . وقف القدر و رضا الوالدين بجانبها . احميدة ولد الجيران كان قريبا من المكان ، خرج لشراء السجائر بالتقسيط . سمع نصف الصرخة . استدار يسارا . جسدان أمامه لا يرى سوى ظهر المعتدي . لم يشعر حتى طار على اليد التي تحمل السكين ، وضغط عليها . انبعثت رائحة الكحول من فم الشاب . وبمجرد ما أطلق الفتاة محررا يده الثانية ، حتى باشره بلكمة قوية أفقدته توازنه . فتح قبضته . تراخى وترك السكين تسقط . دفعه احميدة بقوة أمامه . سقط . ثم نهض . وأطلق ساقيه للريح . يجري ويترنح الى أن اختفى عن أنظارهما .
حاول تهدئة فاطمة ، وهي تجهش بالبكاء ، وترتعش من شدة الخوف . بعد أن اطمأن عليها سألها ان كانت ترغب في أن يصطحبها إلى البيت . شكرت له ما فعل من أجلها ، وطلبت منه أن يسلم على أخته ووالدته .
شكل هذا الحادث الشرارة الأولى التي جعلت فاطمة وحميدة يعيشان قصة حب دامت أربع سنوات . بعدها تقدم لطلب يدها للزواج .
عندما يعود الموسم السياحي لذروته ترجع إلى العمل في (الرياضات) . أخوها الذي ولد بعدها بسنتين ، أنهى دراسته دون أن يحصل على شهادة الباك . اشتغل بأحد الفنادق بعد أن توسط له أحد أصدقاء والده ، فخفف عنها بعض الأعباء في مساعدة والدتها .
تزوجت احميدة في عز أزمة الربيع العربي . علقت آمالا كبيرة على حركة 20 فبراير . شاركت في المظاهرات والمسيرات . رفعت الصوت عاليا ضد الفساد . أغرتها شعارات مساواة ، حرية ، شغل ، كرامة .
أصيبت بخيبة أمل كبيرة . حدث عكس ما كانت تتمناه . رهط جديد دخل الساحة السياسية ، ظهر على أنه منظم بشكل جيد ، ونسج علاقات خارجية مع دول كانت لها اليد الطولى في تخريب مجتمعات ، وسرقة ثرواتها باسم الربيع العربي .
رهط شارك في الاحتجاجات ، وتوقف في بداية الطريق بعد أن سرق حركة 20 فبراير ، ووقع مع رموز الفساد على صفقة من تحت الطاولة ، وصعد إلى السلطة .
في البداية زادوا في الماء والكهرباء ، وارتفعت أسعار الخضر . تعقدت حياة فاطمة بعد زواجها باحميدة . وتراجعت السياحة ، وتقلصت فرص الشغل . يعملان يوما ويتعرضان للبطالة ثلاثة أيام . ثم يبحثان عن عمل جديد ، قد لا يدوم أسبوعا أو أسبوعين .
الحياة الزوجية تحتاج إلى استقرار ، والاستقرار يحتاج إلى عمل دائم . أداء ثمن الكراء وفواتير الماء والكهرباء والبقال والخضار ، بدا لها أشبه بتلك السلسة المجنونة التي تدور في فيلم (الأزمنة الحديثة) لشارلي شابلن .
بعد زواجها بسنة . ألْغَت حكومة الإخوان المسلمين صندوق المقاصة ، ثم حررت البنزين . طارت الأسعار مرة أخرى إلى السماء . السلسلة تدور ، والأوضاع تزداد تدهورا ، وبطون الفقراء تغرغر من شدة الجوع . المجتمع بكامله تراجع الى الخلف . هددوا الجميع سلطة وأحزابا ونقابات ومواطنين : إما أن تتركونا نحكم ، أو نطلق عليكم دواعشنا . ذئاب شرسة وجائعة مستعدة لافتراس البشر والحجر . جزء منها أرسلوه الى العراق وسوريا وليبيا وتونس .
دخلت فاطمة في صراع يومي مع سلسلة الغذاء والكهرباء والماء والكراء والطبيب والدواء . أحيانا تتحول الى دولة في حالة حرب مع هذه السلسلة الملعونة .
عندما سمعت رئيس الحكومة ينفي وجود الفقر في المغرب وهو يتحدث في البرلمان
قال لها أحميدة :
ـ كلما ازداد أصحاب اللّحي غنى وثروة ، نزداد فقرا . يريدون استعبادنا بعشرين درهما .
ردت عليه بحدة :
ـ والله معهم (لا تْفَكّينا)* . بيننا وبينهم لينين وأولاد سبعة رجال .

المعجم :
ـ لا تفاكينا : نفي قبول المصالحة معهم .

مراكش 25 يوليوز 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى