محمد أحمد مخلوف - أحلام متقاطعة لنبيهة العيسي أو البحث عن طريق الوجود

هي آخر اصدارات الكاتبة نبيهة العيسي ، صادرة عن دار زينب للنشر و التوزيع في طبعة اولى سنة 2021 ، وهي رواية من الحجم المتوسط تضم 214 صفحة و ذلك في طبعة انيقة . أول ما يشدنا في هذه الرواية غلافها و تصميمه الجميل لأسماء بن حميدة الذي يتماشى مع العنوان المحيل على الخيال و الأحلام و الأيدي التي تحاول الامساك بهذا الحلم .
تقوم الرواية على شخصيتين رئيسيتين هما زهرة بالعيد و جمال السايحي ، الاولى طالبة بكلية الحقوق و أصيلة مدينة سوسة الساحلية ، و الثاني أكمل دراسته الجامعية و يعمل سائق تاكسي بسوسة وهو اصيل منطقة تالة التابعة اداريا لولاية القصرين بالوسط الغربي التونسي ، و بينهما عدة شخصيات و ان كانت ثانوية ألا انها تلعب جملة من الادوار في دفع نسق الأحداث المتعددة في الرواية.
هذه الرواية التي تنطلق احداثها في خريف 2040 برسالة توجهها زهرة "« إلى كل الذين لم يهتموا يوما لأمري ، إلى كل من تعطلت حياتي معهم و فسدت رغما عني . إلى كل من رحلوا قبل ان يسمعوا صوتي » ، لتكون انذارا للقارئ و ميثاقا يختلط فيه السير-ذاتي بالروائي ، « أعرف انها ليست حكاية عادية ... فالحكاية التي سأرويها ليست من اختراعي ، بل هي حكايتي أنا « زهرة بالعيد » مع « جمال السايحي » .
و لعل أهم ما نلاحظه في تركيبة هذه الرواية قيامها على فصول منفصلة شكلا متقاطعة أحداثا و أحلاما . تسعة فصول تتقاسمها الشخصيتان الرئيسيتان زهرة و جمال في أسلوب قوامه التداعي الحرّ ، كلّ يحدّثنا عمّا يختلج ذاته من أفكار و تجارب حياتية يكتنفها الغموض احيانا و الوضوح أخرى . انه الواقع الذي تصوره نبيهة العيسي عبر السرد القائم في معظمه على اللواحق في تقاطع سردي مع الحاضر المعيش ، هذا الحاضر المأزوم ، حيث تصارع " زهرة" جميع المعيقات الثقافية و الاجتماعية بدءا بعائلتها المصغّرة أين نجد عمّتها " علية " تشدد الخناق عليها مكمّلة ما بدأته " حورية " زوجة الأب التي كانت تعتقد انها امها ، لتجد بعض الهدوء النفسي مع جدتها المقعدة و احيانا مع عمتها " عائشة" رغم كون زوجها قد حطمها فأضحت زهرة ذابلة و منكسرة . هذه الصراعات ستتراوح بين الشدة و الانفراج حين يدخل حياتها " جمال السايحي" عبر صدفة تصوغها نبيهة العيسي بكلّ « مكر سردي » ، فإذا بنا أمام شخصية جديدة مؤثّرة في أحداث الرواية إن لم تكن أحد أسباب نشأتها ، فتتقاطع الشخصيتان في مستوى البحث عن تحقيق الذات وسط مجتمع يحارب الحب و لا يعترف الا بالروابط الرسمية ، فيصارع جمال أمّه " نوّة " و " حورية " و " مليكة " من أجل " زهرة" التي خذلها منذ البداية حين جعلها بديلا لحبّ حياته " منية " التي عرفها في الجامعة .
أما زهرة فقد وجدت فيه شيئا من الأمان و الحب الذين فقدتهما بموت والدها تحت التعذيب ، لتتواصل رحلتها مع العذاب بين واقع مرير و حلم يتحطّم كل يوم على عتبات الواقع :« أحاول الاقتراب من الجحيم الذي يفور في أعماقي ، فيحرقني الوهج ، و كأن السنين التي مرّت ، لم يكن لها أي معنى ... بقيت جسرا معلّقا يرفض الوصول الى غاية » ( ص 135 ) ، انه التّيه الذي تعيشه زهرة كل يوم الى ان يبلغ ذروته مع زواج جمال بزوجة اخيه الشهيد لتتحول علاقتها به الى مغامرة جريئة :« أتذكّر تلك الأيام ، و أتساءل من أين أتتني الجرأة ، و أين ذهبت مخاوفي ؟» .
هذه المغامرة التي ستعجّل بحتف جمال و لتتحقق نبوءته :« لو قيل لي إن هذه الأوراق يتطلب آخرتي لما فتحتها ، و لكنت رميتها و لم أسع للبحث عن صاحبتها . لكن من أين لي أن أعرف أنني ذلك الصياد منكود الحظ و أن حبيبتي جنيّة القمقم ؟» ( ص 20 ) .
هذه النبوءة التي اطلع عليها بين أوراق دفتر زهرة :« كل الدفتر حكاية ، و كل الحكاية جريمة قتل » ، « و تساءلت : مالذي شدّني حقا في تلك الأوراق ؟ هل هي أجواؤها المشحونة بالانفعالات ؟ أم هو شعور غريب بأنني أعرف الشخص الذي تتحدث عنه حقّ المعرفة . تقول في إحدى الصفحات : قتلته ليصبح أجمل . كان في حياته رجلا قبيحا . الآن صار دمية زرقاء جميلة ».( ص22 ), ليبقى التساؤل لدى القارئ : من قتل جمال ؟ هل هي حورية أم زهرة ؟
فإذا القاتل حسب الجهات الرسمية مجهول ، الا ان نبيهة العيسي تحيلنا ضمنيا على ان القاتل الحقيقي هو جميع تلك الأحلام المتقاطعة بين جمال السايحي و زهرة بالعيد ، هو الصراع النفسي المتأرجح بين الموجود و المنشود صوّرته لنا بكل احكام سردي لا يخلو من نفس شعري يخاطب وجدان القارئ فيجعله متماهيا مع الشخصيّات المتشظية في بعدها الانساني لتستحيل الرواية بحثا عن طريق الوجود :« سكوتنا ليست له طريق / كحبنا - ليست له طريق » ( أدونيس ، أول الطريق ). م ا مخلوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى