د. مسعد عامر إبراهيم - صورة القات في شعر المقالح.. مقاربة سيميائية..

ترتبط القات في وعي اليمنيين بدلالات عميقة جسدها الشعراء في كثير من قصائدهم، والقات نبتة في اليمن تتخذ وسيلة للذة والانتعاش، حيث تخلد الأجساد إلى الراحة في وقت الظهيرة بعد الغداء وقد تستمر إلى آخر الليل، وقد يتناولها مجموعة من الأفراد في الديوانيات والمجالس، أو في الاستراحات والمتنزهات، ولا شك إن الشعراء قد استغلوا ما في هذه الظاهرة الاجتماعية من خصائص اجتماعية دلالية، وتناولوها من جوانب عدة، ولعل الشاعر عبد العزيز المقالح من أكبر الشعراء اليمنين أثرا على الساحة الأدبية والنقدية في اليمن، وقد تناولت تجربته الشعرية مختلف نواحي الحياة اليمنية بأفراحها وأحزانها، وآملها وآلمها، فتجربته الشعرية تجربة واسعة واكبت مختلف تطورات القصيدة العربية، من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة ، فقصيدة النثر ..
وفي هذه الأسطر سنتاول ظاهرة اجتماعية متفشية في المجتمع اليمني، وهي ظاهرة مضغ القات، وكيف بدت هذه الظاهرة في شعر المقالح؟ وما نواتجها السيميائية؟ وكيف استطاع الشاعر أن يقدم للقارئ ما يمكن أن تحيل إليه القات من أثر مباشر أو غير مباشر في واقع حياة اليمنيين السياسية والاجتماعية؟ وذلك في الضوء الصورة الشعرية التي تتوسل بالذوق كحاسة تتلقى من خلالها الصور. فلا يخفى الجانب الحسي للصورة الشعرية ، إذ هو من أهم مصادر الصورة الشعرية وتشمل المكونات البصرية والسمعية والشمية والذوقية واللميسة .
ودخول الذوق في تفاصيل الصورة قد يكون الغرض منه بالنسبة للشاعر استثارة المتلقي ولفته إلى جانب مهم من جوانب الصورة الشعرية ، وإن عد الجماليون حاسة الذوق في أدنى الحواس تلقيا للعمل الفني بعد البصر والسمع .. لكن اللذة مثار نقاش كبير بين الفلاسفة والجماليين لارتباطها الوثيق بالذوق ، وإذا كان الذوق الفني ينصرف إلى إدراك المؤثرات العقلية التي تتسثير العقل والنفس ، وتكسب تعاطف المتلقي ، فإن الذوق العام ينسحب على ذلك ، والشاعر يقوم باستخدام أدوات الذوق كما استخدام الألوان في الصورة البصرية ، والأنغام في الصورة السمعية .
إن المتأمل في النماذج الشعرية التي تحدث فيها المقالح عن القات يجد أنه بنى عدة مواقف منها فتارة تبدو القات صارفا للهمم عن الثورة ، إذا ينشغل بها المجتمع عن قضاياه المصيرية ، فها هي الجماهير تنشغل بالقات عن خطاب الشاعر ، حتى حل بها ما حل :
قلت لكم والمد لم يزل بعيدا
والبحر لم يزد بعيدا
أن تفتحوا عيونكم على الخطر
أن تجمعوا السادة والعبيدا
أن تصنعوا من شوقكم ، من حبكم نشيدا
لتصعدوا به إلى القمر
لكنكم لم تسمعوا ، تعالت الضحكات
في ردهات القات ..
فالقات هنا أشغلت الجماهير عن الالتفات إلى الشاعر ، وسكرته حجبتهم عن الوعي بمخاطر الطوفان الذي سيمزق البلاد ، نلاحظ الصورة الذوقية شاملة وعامة تمثل غياب الوعي في الفناء في القات .
فالقات سيطرت على حركة المجماهير وقيدت تفكيرها بما فيه حريتها ، فلا مناص أن تمتد يد عربية لتزيح ثقل الغشاء عن عيونها ، يقول المقالح :
يا رحلة شمس عربية
عبرت شرقا
طافت فوق بلادي
أفقا أفقا
عبرتها في ليل شاتٍ
وجدت ( بلقيس ) اليمنية تبكي
تتلوى في سجن ( القات )
فالقات في هذه الصورة تغادر صورتها الذوقية المعهودة إلى صورة أكثر شمولية لتتحول إلى سجن كبير ، تتلوّى داخله بلقيس رمز اليمن ، حينها تتحول القات إلى أكبر من مجرد ذوق وتكيف وانتعاش ، إذ تغدو مأساة ورمز بلد أنهكه الفقر والتخلف ، فها هو الشاعر يعرف بنفسه :
أنا من بلاد االقات مأساتي تضج بها الحقب
أنا من هناك قصيدة تبكي وحرف مغترب
غادرت سجن الأمس ملتحفا براكين الغضب
أثر القيود على يدي ، ساقي تنوء من التعب ..
هل أصبحت القات لازمه التخلف والفقر والمعاناة ؟ ألم ينذر الشاعر قومه الذين تعالت صيحتهم في ردهات القات ؟ فعلا تحولت القات إلى رمز كل ذلك في نظر الشاعر ، وطالما إننا مولعون بالقات فلن يحث التغيير إلى الأفضل ، لأن هناك ساعة ( سليمانية ) يخلد الجميع إلى الركون فيها ويعيش الأحلام التي تتبخر بمجرد ، انتهاء هذه الساعة وأثرها ليواجه الواقع بتقلباته ومشاكله ، نقرأ قوله وقد هدأت نفسه الثائرة التي ترى في القات مانعا عن الثورة والتحرر:
منْ شجرِ القاتِ
ومنْ قواميسِ اللُّغات الميِّتةْ
أخرجُ شاهراً حرفي، ممتطياً صوتي أسيرُ،
في يميني وردةُ الميلادِ
في يساري نخلةُ الميعادِ،
في دمي بشارةُ القيامةْ
فالقات هنا استحالت إلى رمز الجمود ، إذ علقت بالأذهان ففي ظل الساعة السليمانية تكون النفوس متفتحة والأحلام تمد جناحها على الجميع ، ولكن طالما يستفيق الجميع من هذه النشوة ، إذ به يستفيق على واقع ساكن جامد ..
تقرأُني أصابعُ الموتى
تنتفضُ الغابةُ في شرايينِ الترابِ
تلفظُ القبورُ أهلَها
تصحو حجارةُ المدينةِ النَّعْسَى
وتستفيقُ جدرانُ البحارِ الظامئةْ.
فالجميع في هذا المجلس في شغله ونشوته التي تحلق به في عوالم تمتزج الحقيقة فيها بالخيال ، وتذوب الفوارق المكانية والزمانية ، وقد تشب الحماس في القلوب ولكنها مشغولة فقط بالتخطيط في الهواء والرسم على الماء :
تضحكُ أسناني
تضحكُ نارُ الحزنِ..
أمضغُ الأحجارَ والأشجارَ
باحثاً في الماءِ عنْ وجهي
عنْ وجهِ نهرِ الرِّيحِ
عنْ حروفِ القاتِ
عنْ شُجَيراتِ الخيالِ ،
أينَ تختفي خيلي؟
قد يألف المرء وضعا فيخشى تغييره ، نعم هذا واقع بعض النفوس والأشخاص ، وهذا ما تفعله كآبة القات المتجذرة في كيان المجتمع اليمني ، تلك الكآبة التي لم تألف إلا السير في صفحات الماضي ، وتخشى من المستقبل ، وحين تصل ذروة النشوة ، تسرح الأرواح ويسود صمت مطبق على الجميع في المجلس :
عتيقةٌ كآبتي
تحومُ حولَ جثَّةِ الماضي
ترسمُ وجهَ اليومِ
تمتطي جرحَ غدي
على شراعِ القاتِ
في وجوهِ المغربِ البليدةْ
الصمتُ صارَ لغتي
والسّاعةُ السُّليمانيّةُ امْتَدَّتْ عروقُها
صارتْ شباباً كالشُّيوخِ
يمضغونَ خضرةَ الأيّامِ
يشربونَ ماءَ العمرِ..
أينَ ضوءُ الحُلْمِ
والبراءةْ؟
إن القات في هذه الصورة تستنزف الأعمار ، وتطحن السنوات والأسنان ، ولم تفرق بين شباب وشيوخ ، فالعمر لا يهم لمن يمر بهذه التجربة ، إذ يمضغ خضرة أيامه بين أوراق القات ..فليس ثمت شيء سوى الصمت ، الصمت العام عن الواقع الاجتماعي ، والصمت الخاص في مجلس القات ..
تذبحني سيوفُ الصمتِ
تسقطُ الدِّماءُ في ظلّي
أخرجُ شاهراً حرفي
ممتطياً صوتي،
أرفعُ حزنَ الأرضِ عنْ صدري
أصيحُ في موجِ الجموعِ:
انطلقي
تألَّمي
تكلَّمي..
تذبحُني سيوفُ الصمتِ في الشِّفاهِ

الصّامتةْ.
إن المقالح في هذه اللوحات الشعرية ، يقدم للقاريء تصورا عن القات التي هي سبب الصمت المخيم على البلاد ، الصمت عن التطور والترقي ، الصمت عن اللحاق بالدول المجاورة ، الصمت عن الأصدقاء المحيطين به ، والكل مستغرق في فكره ..
ومع هذه الصور المأساوية للقات والكل يدرك ذلك - بما فيهم المخزننين ( الذين يتعاطون القات ) تبقى للقات رمزيتها في وجدان المواطن اليمني ، خصوصا إذا ابتعد عن وطنه ، وابتعد عن أوراق القات ، فها المقالح يربط ربطا شعريا مناسبا بين موضوع الغربة والقات ، فيدعو المغترب اليمني للعودة إلى الديار ، والعودة إلى أغصان القات ، الذي يتحول إلى رمز الاندماج الاجتماعي مع الأهل والأصدقاء في موازة العزلة التي تحيط المغترب اليمني ، فنراه يتوجه بالخطاب لكل مغترب ، بالعودة إلى الديار ، ومن أجل أن يستثير حلم العودة نراه يستحضر القات فيقول :
عُد إلى الْقاتِ الّذي وَدّعَتَهُ ... فَسَقاهُ الْبينُ حُزْناً وَذُبولا
كُــلَّ يــومٍ نَـتــساقَـــى رَاحَـــهُ ... وَنُــنــاجِي طَـــيـفَ لَيلانا الْعليلا
بـــرَّحَ الــشَّــوقُ بـِــنَــا لَــكــــنَّهُ ... ســَلــوةٌ تَــنـضــحُ تِــريــاقــاً أَصـيلا
تُــولِــدُ الــنُّـــكتةُ فِــي أَوْراقـِـهِ ... عَـــسَلاً، شُهداً وَمَاءً سَلْسَبِيلا
مما سبق يمكن أن نخلص إلى القول: إن القات تمثل ثيمة رئيسة في الشعر اليمني المعاصر ، فقد تناولها الشعراء وتعاطوا مع معانيها ودلالاتها ، ورأينا كيف تدرج المقالح في تصويره من القات بوصفها حائلا بين الشعب وثورته ، وبين الشعب والتغيير الواقعي ، وأخيرا نظرة المغترب اليمني للقات ، والمقالح في تلك النماذج يجسد رؤية للمجتمع اليمني .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى