إسراء غاندي - نهاية الشيطان..

ذاتَ صباحٍ مُلَبّدٍ بِالغيوم في أحدِ أيامِ أغسطُس المُمطِر، عندما كان عُمري تِسعةُ أعوام، كُنتُ أجلِسُ القُرفُصاء أمامَ التِلفاز أُشاهِدُ برنامجي المُفضّل "أبطالُ الديجيتال" فإذا بالبابِ يُفتَحُ فجأةً وبِكُلّ قُوّة، اِلتَفَتُّ مَذعُورًا لِأرى مَن هذا فوجدتُهُ أبي، كعادَتِه مخمورًا ويتطايرُ الشررُ مِن عينيه، نظرَ إليّ بِحِدّةٍ وكأنّه سيفترِسُني، بالتأكيد سيحصُلُ شيءٌ سيِّئٌ عمّا قريب إذا لم أذهبْ وأختبِئ، فركضتُ مُسرِّعًا نحوَ المخزن وأغلقتُ البابَ جيّدًا قبل أن يلحقني، أسندتُ ظهري إلى الباب وانزلقتُ حتى وصلتُ الأرض، أحسَستُ بأنّ قلبي يريدُ أن يخرُجَ مِن قفصي الصدري، وضعتُ كِلتا يديَّ عليه وتمتمتُ: اللّهُمَّ أنا وأُمّي!، أنا أعلمُ أنّها في ذلكَ الحِين كانتْ في المطبخِ تُعِدُّ لي وجبةَ الإفطار، إذا حصلَ لها مكروهٌ فلن أُسامحَ نفسي.
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى سمِعتُ صوتَ صُراخِها يأتي مِن غُرفة المعيشة؛ لقد كان يضرِبُها بِشدّةٍ وبِلا رحمة، وحتّى في تِلكَ الحالةِ لم تكُن تُفكّرُ إلّا بي؛ تارةً تصرُخ مِن الألم وتارةً أُخرى تصرُخ "عُمر"، لم أستطِع فِعلَ شيءٍ سِوى البُكاء.
سَحبتُ إحدى الأرائكِ البالِيةِ_في الحقيقةِ لقد كان كُلُّ أثاثِنا وقد حطّمهُ أبي_ بِهُدوءٍ وألصقتُها على الباب كي أسُدَّهُ جِيّدًا وصعدتُ عليها كي أصِلَ إلى ثُقبٍ في الأعلى، نظرتُ مِن خِلالِه فرأيتُ أبي يشُدُّ شعر أُمّي بِقُوّةٍ ويطلُبُ المالَ كعادتِه، لكن في هذا اليومِ بالذات لم يكن لديها مال، فلم تعرِف ماذا تفعل ولم أعرِف¡¡
ظَلّتْ تتوسَّلُه أن يتركها وسَتُعطيهِ النُقودَ في المساء، ولكنّه رفض.. أدخلتُ يديَ في جيبي لعلّي أجِدُ بعضًا مِنها، ولكنّها خَرجتْ مِن خِلالَ الثُقب ورجعتْ خائِبة¡
في تِلكَ اللَّحظةِ تساقطتْ الأمطارُ بغزارةٍ، فعلِمتُ أنّ على والِدي أن يبقى في المنزل، ولكن ما الذي سيحصُلُ لنا؟!
الخوفُ يُحيطُ بي مِن كُلَّ جانِب، بدأتُ أُرَدِّد: أُمّي.. أُمّي!
فجأةً تذكرتُ قولها أنّ الدُعاءَ مُستجابٌ أثناء المطر، فرفعتُ كَفايَ وذَرفتُ دمعي ودعوتُ كثيّرًا...كثيّرًا جِدًّا، كُنتُ مُتأكِّدًا أنّ اللّهَ سيستجيبُ، بعد انتِهائي تَأمّلتُ قليلًا في أرجاءِ المخزن، لا أعلم عمّا كُنتُ أبحث ولكنّي ظَللتُ أتأمّلُ لِبعض الوقت.
سمعتُ صوتَ وقعِ أقدامٍ قادمة نحوي فَوَثَبْتُ على قدميّ بِسُرّعةٍ، هناكَ أحدٌ يُحاوِلُ فتحَ الباب وأُمّي تصرُخ: لا أحدَ في الداخِل!
أخذتُ مُلاءَةً قديمةً وتسلّقتُ الأثاثَ المُبعثرَ حتّى وصلتُ القِمّة، تَلحّفتُ بِها وظللتُ هادِئًا.
بدأ الماءُ يتسرّبُ مِن خِلال الثُقوبِ في السقف، وكُلُّ البيت سيُسرِّب كما كانَ دائِمًا، الحمد للَّه أنّه لم يسقُط فوقَ رؤوسِنا¡
أبي في الخارِج لا زالَ يُحاولُ الدُخول، قامَ بِدفعِ البابِ بِقُوّةٍ، لكن شُكرًا لِلَّه؛ لم يُفتح له!
أحسَستُ بِألمٍ في قدمي، كِدتُ أن أصرُخ ولكن تمالكتُ نفسي، ألقيتُ عليها نظرةٍ فلمحتُ عقربًا تمشي بِجواري فعرفتُ أنّها لَسعتني، ركلتُها وقمتُ بِتمزيقِ قِطعةٍ مِن المُلاءَة، لم أتذكر أينَ مِن المُفترضِ بالضبطِ أنْ ألُّفها، فقمتُ بِالربطِ أعلى وأدنى مكانِ اللسعة، اِزدادَ الألمُ فبَكيتُ في صمتٍ¡¡
توقّفَ المطرُ في الخارِج وتوقّفتْ قَبلُهُ مُحاولاتُ أبي لِفتحِ الباب، تناسيتُ الألمَ وذهبتُ أنظُرُ مِن خِلال الثُقب، لم أستطِع رؤية شيء، فأتى صوتُ أُمّي وهي تُخبِرُ أبي بأنّ هذهِ هي كُلُّ الملابِس الموجودةِ في البيت، ضَربَها مُجدّدًا وأخبرها بأنّه سيأخُذُها ولكن سيحضُرُ في المساء وإنْ لم يَجِد نُقودًا فسيقتُلها وأنا أيّضًا!..
سمِعتُ صوتَ البابِ يُفتحُ فعرفتُ أنّه غادر، أسرعتُ بإبعادِ الأريكةِ وفتحِ الباب ودلفتُ إلى الغُرفةِ فرأيتُ أُمّي تبكي في صمتٍ، أقبلتُ عليها ‏فأشاحتْ بوجهها كي لا أراها، وبعد أن مسحتْ دموعها سألتني إنْ كُنتُ بِخيرٍ وقبلَ أنْ أُجِيبها أبصرتْ قدمي الملفوفة، أصابها الهلعُ فبِتُّ أُطمئِنُها، لم تُصغِ إليّ وقالتْ بأنّ السُّمَ سينتَشِرُ في أنحاءِ جِسمي، أحضرتْ مِشرطًا وبعضَ القُطنِ والمِلح و بعد انتِهائها مِن إسعافي جَلبتْ لي كوْبَ شايٍ، فلمحتُ جُرحًا على وجهها، مددتُ يدي وأبعدتُ شعرها المُنسدِلَ فنظرتْ لي ويكادُ الحنانُ يفيضُ مِن عينيها¡
‏مسحتُ خَدّها وبقايا الدَمِ مِن عليه، قالتْ بِأنّها بِخيرٍ ولكنّي أصرّيتُ عليها بأنْ أُسعفها كما فعلتْ هي بي.
‏اِنتهيتُ وجلسنا نتناول الإفطار سويًّا، كان بسيطًا مثلنا ولكنّه كان مُختلِفًا عن جميعِ وجباتِ العالم؛ دَسِمًا بالحُبِّ وغنيًّا بِقُربِها، يكفيني مِن الكونِ كُلّهِ أن أرى بسمتها كي أشعُرَ أنَّني على ما يُرام.
‏بعدها أخذتُ قيلولتي المُعتادةَ في الظهيرةِ وظلّتْ هي تنشُر أريجها وأمانها في المنزلِ كَكُلِّ يوم.
‏اِستيقظتُ عَصرًا على أصواتِ معدتي الجائِعة، وجدتُ أُمّي قد جَهّزتْ الغداء، هي تعرِفُ مواعيدي جِيّدًا..
سألتُها مِن أين سنوفِّرُ المالَ لأبي؟، واقترحتُ عليها أنْ نهرُبَ مِن المنزل، فقالتْ بأنّه ليسَ هُنالِكَ مكانٌ نذهبُ إليه ثُمَّ ابِتسمتْ ومسحتْ على شعري وهمستْ: اللَّهُ لا ينسى عِباده..
‏جاءَ اللّيلُ واشتدَّ قلقي وخوفي، حتّى أوشكتُ أنْ أسمعَ دقاتِ قلبي، يبدو على ملامِح أُمّي الهُدوء لكن لا أعلمُ عمّا بِداخِلها...
‏فجأةً يقطعُ ما كُنّا فيهِ صوتُ سَّيَّارَةٍ قَوّيٌ كأنّها صدمتْ شخصًا ما، أسرعتُ لِلخارِج لأنظُرَ ماذا هُناك، وصلتُ ووجدتُ النَّاسَ قد تجمهروا في وسطِ الطريق، يتهامسون وبعضُهم يصرُخ!
تَقَدّمتُ بِضعَ خُطواتٍ واِجتزتُهم فوصلتُ لِلمُقدِّمة، جَهَرَ الضوءُ القادِمُ مِن السَّيَّارةِ في عينيّ فغطيتُهما بِساعِد يدي ومِن ثُمَّ أبعدتُهما ونظرتُ فإذا بِشخصٍ مُلقىً على الأرض، حاولتُ أن أستبينَ ملامِحهُ ولكنّ لم يظهر مِنه سِوى شِق وجهِ الأيمن..
الجميعُ يقولُ بأنّه قد فَارقَ الحياةَ، يا للمِسكين¡¡
اِنتظرنا حتّى حَضَرتْ سَّيَّارةُ الإسعاف، وأثناء رفعِهِ على النَّقَّالةِ وإدخالهِ السَّيَّارة بانتْ هيأتُه الكامِلة، حينَ نظرتُ له ذُهِلتُ جِدًّا وبرزتْ عيناي، لم أعرِف أنّ اللّهَ سيستجيِبُ بِهذهِ السُّرعة!، ومعَ أنّي لم أطلُب هكذا نِهاية!
تخطّيتُ أرجُلَ الناسِ وركضتُ عائِدًا لِلمنزل، فتحتُ البابَ بِشِدَّةٍ وقلتُ لِأُمّي : أُمّي..أُمّي! اللَّهُ لا ينسى!
وفي تِلكَ اللَّحظةِ اِختلَطتْ عليّ الأحاسيسُ ولكنّي أذكُرُ جَيِّدًا أنّي اِبتسمتُ ومِن ثُمَّ صِحتُ بِفرحٍ: لقد ماتَ أبي¡¡

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى