أمل الكردفاني- موناد- قصة قصيرة

كان حياً البارحة، وقال ماسح الورنيش بأنه كان حياً البارحة، مؤكداً كلام آخرين. أليس مدهشاً أن يموت اليوم وقد كان حياً البارحة؟..قبل البارحة بيوم باع دولابه الخشبي الوحيد ليتمكن من شراء الحشيش، لم يكن مدمناً، ولكنه قرر أن يجربه، وييدو أنه كان سعيداً بتلك التجربة الفريدة والتي طالما حلم بها منذ مراهقته كمنظف لسوق الاسماك. لقد حصل على حلمه أخيراً. قبل البارحة بيوم باع دولابه والبارحة اشترى الحشيش، ويبدو انه كان قد تناوله حين ذهب لماسح الورنيش وطلب منه ورنشة نعله البلاستيكي، فقال له الصبي: ولكن هذا نعلٌ وليس حذاءً كما أنه بلاستيكيُّ السيور، وإسفنجيُّ الأرضية ولا يصلح للورنشة، غير أنه صاح بغضب: هذا حذاء وليس نعلاً، ثم ضحك كثيراً بعد أن تلوث النعل بالورنيش الأسود. وارتداه -رغم ذلك- ومضى حيث مات. القصة حكاها الصبي بجزع، لسبب ما كان ذلك الطلب مثيراً لخوفه. أما قبل بيع الدولاب بيوم، كان قد فقد عمله في سوق السمك كدافع للعربة اليدوية، لم يفقده لأنه أُقيل ولكن مرض السُّكري عبر إلى ذراعيه فأصبحتا واهنتين تتألمان لأقل جهد. كان قبلها بأسبوع يعمل عملاً مختلفاً ولكن أيضاً في سوق السمك؛ فهو لم يبارح ذلك السوق، لأنه كان خفيراً له، كان يستفيد من بقايا الأسماك ليأكل، ومن عريشة ومصاطب السمك لينام، لقد بدأ عمله كمنظف للسمك، لكنه لم يستمر طويلاً رغم ما يدره ذلك العمل من مال، فحين قُتل الخفير السابق في مشاجرة عابرة، ارتقى إلى مهنة خفير ليلي، ومنظف للسوق. وقد كان يعتبر نفسه سيد السوق. مع ذلك فهو لم يفكر أبداً في الاقتران بامرأة، كان فقط ينظر للصبيان الذكور بنهم ذئب، لكنه لم يمس طفلاً في حياته رغم ميوله الشاذة تلك. قال ذلك أحد الصبيان بعد أن كبر وصار رجلاً، قال بأنه ظل حذراً من نظراته الافتراسية وهو يحدق في ساقيه ومؤخرته. قبل أربعة أيام كان يحوم بعيداً قليلاً عن الزاوية، قدماه صارتا واهنتين. يسير ببطئ بعد أن بلغ السادسة والستين. لكن بعض الكبار قالوا بأنه أكبر من ذلك، لأن تحديد عمره تم بالتسنين وليس في ساعة ولادته. وكان يتجنب الحديث عن ذلك. لقد وجدوه في سوق السمك صبياً، نحيل الجسد أسمر الجلد، ذا رأس بيضاوي صغير، وساقين رقيقتين، نشيط الحركة، لكنه لم يعتدِ على أي أحدٍ لا من قبل ولا من بعد، حتى بعد أن كان يتلقى الضرب المبرح من أقرانه الصبيان حين يلعب معهم، لم يكن يدافع عن نفسه، بل يصيح بصوت كعواء الذئب، ويهرب ما استطاع إلى الهرب سبيلاً أو يغمى عليه فيتركوه. كان -بحسب ما قيل في سيرته- أنه في شبابه أحب حليمة بائعة الزلابية، غير أنه لم يتجرأ لمكاشفتها، وقيل عكس ذلك، فقد أكد آخرون بأنه كان خجولاً أمام النساء، المعروف أن حليمة تزوجت وهاجرت إلى إقليم بعيد. ولم يعرِف أحدٌ عنها شيئاً بعد ذلك، بالرغم مما أشاعه أحدهم بأنها ماتت غرقاً عندما غمرهم السيل. لكنه كذاب أشر، ولكن..كيف يمكن التأكد من أنه كذاب؟ بعضهم أكد الخبر عندما رآه يبكي يوماً خلف العريشة حيث مصرف مياه السوق الخضراء العفنة...اختفى بعدها لأيام وعاد. عاد بنفس جلبابه القصير وطاقيته المتسخة ونفس نعله البلاستيكي، وواصل عمله غير المحدد داخل سوق السمك. واليوم مات..أو هكذا قيل، رغم انه كان حياً البارحة.. ولكن...من هو؟..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى