ميمون حِرش - يحصل في" نون"

جرد من نفسه شخصا آخر وقال وهو يتملى وجهه في المرآة:
" قـــد نختلف في جمال"نون" أو قبحها، ولكننا لن نختلف أبدا في أنها مدينة ثرية جدا".
حين سكن مدينة "نون"، وهو النازح إليها، لم يكن يعرف هذه الحقيقة إلا بعد أن حضنته عدة أعوام ،لاحظ من خلال مرور أيامها عليه أن الأغنياء فيها كثر، يتناسلون كما الإشاعات ، وتترهل بطونهم، وتفرع مؤخراتهم بشكل لافت.. وكانت بالنسبة إليه المدينة الوحيدة في المملكة السعيدة التي لا يمكن فيها لموظف بسيط مثله ، مهما كان راتبه سميناً،أن يساير طبيعة العيش في مواجهة أخطبوط الغلاء ،و في جميع الصُعُد،وحين يكون على رب الأسرة مثله أيضاً أن يتبضع لأفواه جائعة تنتظره في البيت يكون مجبراً على دفع ما يؤديه الأغنياء، إذ لا مجال في "نون" للاختيار، ففي كل الأمكنة الثمن واحد وقار، و لا فرق بين فقير وغني،كما هي الحال في بقية المدن ، في "نون"، هنا كما هناك ،الأمر سيان ،ببساطة لأن الدرهم، في صرة الأغنياء، يمر عليها وهو منطلق،لذلك ترى أعناقهم تكبر أن تُـطالا، و الفقراء لا يطيقون لهم عناداً.
في "نون"، استرعاه أمر غريب سرعان ما سيألفه دون أن يقلده..مرات عدة ينتبه فيها لعملية التبضع عند أغنياء "نون"،بدت له استثناء، هم لا يتبضعون ما يحتاجونه جزءً جزءً باعتبارهم أبناء مدن، إنما هم لا يرضون إلا بالكل/ الكثرة، أما الجزء فهو بمعنى الفتات، هو لغيرهم وليس لهم ..يفعلون ذلك ليس عن جوع إنما عن أمر يصدره جهزاهم "الجيبي" لإبطال الألم الناشئ عن توهم مرضي من أن تُفقد البضاعة غداً ربما، ..لذلك يصبح التبضع بكثرة نوعاً من الوسواس القهري الخبزي لديهم.
له في المدينة أمكنة شتى تذكره بأشياء كثيرة، لها صلة بقفته التي يتأبطها دون أن يملأها في غالب الأحيان، لم يستطع أن ينسى ما وقع له يوماً حين قصد مجزرة يشتهى لحماً.
داخل مجزرة حديثة أخذ مكانه بين الناس ينتظر دوره، هاله حال الجزار وهو يشحذ سكيناً بينما عينه على ساطور موضوع على سندان.. المكان تزكم الأنوفَ فيه روائحُ اللحم والشحم، الطلبات تنطلق من أفواه عديدة بين طالب أربعة كيلوغرامات لحم بقر، ومثلها لحم مفروم،وبين من يطلب أكثر من ذلك... أحس عرقاً خفيفاً يسيل من قفاه بدل وجهه، وحين جاء دوره، قال له الجزار بحدة:
- اُأمرني..
قال بحزم :
- نصف كيلو غرام لحم بقر، رجاءً.
نظر إليه الجزار شزراً وهو يشحذ سكيناً علق برأسه بعض لُحَيْمات صغيرة، وحين أدار ظهره هامّا بجز اللحم المطلوب جاءه صوت من أحد الحاضرين، حرص صاحبه أن يكون مسموعاً خاصة من حسناء قبالته، تنتظر دورها،ونصيبها من اللحم :
- لـك أن تجعل طلب السيد كيلوغراماً بدل نصفه.. وعلى حسابي..
(الرجل رغب في ما يرضيه، والنصف لا يترجم بالضرورة بخلا أو عوزا، على اعتبار أنه هو ابن مدينة ،أو هكذا يعتبر نفسه، وطلب اليوم، بالنسبة إليه، سينسخه الغد حتماً، دائما حسب الطلب والرغبة.. لكن الرجل الآخر، بما أوتي من حكمة ربما، ظن أن الطلب قليل والرجل محتاج، ولا بأس من صدقة جارية بجعل نصف اللحم كيلوغراما). وبسبب هذا التصرف الأرعن عرت صاحـبَنا قشعريرةٌ من طراز ريفي رفيع جعلته ينتفض كما الثور يلمح ملاءة حمراء، صرخ في وجه"الكريم":
- إلى الجحيم كرمك..من تظن نفسك أيها الجاهل النكرة..أنا رغبت في النصف ليس بخلا، لي من المال ما يكفي لشراء ذمتك حتى،..تفكرون بجيوبكم...اللعنة.
"اللعنة" كانت آخر كلمة ينطق بها وهو يخرج دون طلبه كله، أونصفه.. خرج كالمُنشَط من العقال وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ،لأنها مقلوبة، خروجه أضفى على المشهد مسحة دهشة، أعقبها صمت طويل..كم دام؟ لا يهم، ولكن التنهد الذي صدر من صدور الحاضرين كسره و قال كل شيء.
أما "الكريم"، فمن حسن حظ الحاضرين أنه لم يعقب كما لو بلع لسانه، وإن اكتفى بالنظر إلى محدثه دهشاً، دون أن ينبس ببنت شفة..
علقت الحسناء على المشهد كـأنها تحدث نفسها:
- " جبان"
أضافت قائلة لمرافقتها :
- " لو تكلم هذا الأرعن، أوردّ، الله وحده أعلم كيف كانت ستصير الأمور..
ردت الأخرى وهي ترمق الجزار:
- " المجزرة هي أسوأ مكان للخصام، بالأيدي خاصة، هي حتما لن تُترك عزلاء في وجود السكاكين، والسواطير، بل وحتى العظام".
زمت شفتيها، وحرقت الأُرّم ثم همست " سترك ياالله "
وحين خرج " الكريم" متأبطاً كيسين مليئين لحماـ وشحماـ، نظر ذات اليمين، وذات الشمال، ومشى مرحاً بيدين ثقيلتين، أشار إلى سيارته الفارهة التي نزت عن ضوء كاشف كالبرق الخلب مصدرة صوتاً آلياً يصلح لرنة هاتف رخيص في زمن, ثمن الرنين فيه غالٍ، أخرج هاتفه النقال المخملي، ركب رقماً ثم خاطب زوجته قائلا:
- لا تنتظريني في الغذاء، قد أتــــأخر.
ترد الزوج منزعجة:
- لكن الأطفال جائعون، وثلاجتنا فارغة، آخر قطعة سباغيتي تناولوها في العشاء أمسِ.
- لن تعدمي وسيلة، تصرفي..
أغلق هاتفه بصلف، وركب رقما آخر، وقال لعشيقته، نصفه الذي يعشق اللحم مثله:
- حضري الوليمة حبيبتي، أنا قادم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى