عبدالرحيم التدلاوي - تمشي على راحتها البشائر..

إلى كل من نفث في الروح عبيرا
**
ما عادت الحياة تغويني، ثقل الزمان يعيق رغباتي، لا أريد أن أزيح الغطاء، يتطلب مني ذلك مجهودا جبارا ومعاناة بعد أن تكالبت علي الأمراض وثقل السنين، أشعر بلذة أن أظل غافيا.. ماذا جنيت مذ كنت قوي العود؟ خيبات وراء خيبات، وكل اختياراتي بليدة، تطمرها رياح الواقع، وتجعل منها لواقح لأشباهي. لا أريد النهوض، فلا تكثر علي الأوامر، ما فاز إلا النوم. يا صاحبي، اذهب إن شئت، واعمل ما شئت، مقدر لي أن أكون كسولا، هي متعتي الوحيدة في هذا الخراب الشاسع أرضا.
أنهض باكرا، أستحم، أتعطر{ عطر غال غير مقلد، لا أستطيع شراءه، أهدته لي آنسة تعمل معي في المؤسسة نفسها، لما علمت أني أعزب، بدأت تتقرب مني بشتى أنواع الهدايا؛ المجنونة، أما علمت أني أدين بدين المعري: وما جنيته على أحد، آه لو علمت: لفرت مني فرار الصحيح من السقيم خوف الأذية}، أتناول فطوري، وأذهب بحماس إلى عملي، على مدار السنوات، ثم أعود متعرقا، متعبا مكدودا، عامرا بالخيبات، لا جديد تحت الشمس يا صاحبي، دورة زمنية ماحقة كنت أخضع لها، وأترقب انعتاقا، لا شيء، التكرار الممل. لقد أفرغت من حماسي، صرت كيس خيبات، وجراري من المرارة وبها ممتلئة
دعني وحيدا أرعى خيباتي بكل فرح صبياني، لا أريد أن أنهض من فراشي، هو أهم مكاسبي في هذه الحياة عظيمة الكسر للأوهام.
يا صاحبي:
في هذه البلاد إما أن تكون ذا نفوذ أو ذا جاه وثراء حتى تعيش كما تريد وكما يحلو لك. يمكنك، مثلا، أن تكون جلادا، فتستمتع بمشاهد العنف توقعها على من تحتك، يمكنك أن تلج ما تشاء، وأن تحصل على ما تشاء، لا حدود لرغباتك ولا حدود لإشباعها، كل الطرق معبدة في وجهك، فاغرف متعك، واشبع جوعك، ولك الحمد والمجد.
أهو اليأس ؟
وهل هناك من عملة رائجة غير اليأس؟
لقد حملت الأمل معي طوال عمري، فرأيته يتكسر ويكسرني معه. ماذا ربحت من هذا العالم سوى الحزن؛ منذ أن غمس أبي يراعه في محبرتي أمي، ونهض عنها شبعانا، بعد جوع صاغه عمله المرهق في الحقول الصلبة، وأنا أعاني. أخرجني من دون دفاعات، غير محصن لا بثروة مالية ولا بقيم منقولة ولا عقارات، تركني صفر اليدين. فرح بنسله، فرح باستمراريته، وبانتهاء مهمته الجليلة، تكثير نسل الأمة، ناسيا أن العالم قاس، وأن الصراع شديد ولا ينجح فيه إلا القوي.
وهل أنا قوي يا أبي لتتركني وحيدا عاريا أجابه عتو الريح وموج الوحدة، وأتجرع تشرد الزمن؟
هذا العالم فارغ وبارد مثل جمرة انطفأت فجأة. فحررني من أملي، اجعلني راشد الوعي عارم النفور.
أنا أدرك، يا صاحبي، أن التغيير لا يمكن تحقيقه إلا إذا حضر الواعي والتنظيم؛
تنبجس من الذاكرة المجروحة أحداث مروعة. بعد وجبة دسمة نزلت بطلبة الفلسفة أيام الجامعة، كنا صفا طويلا وعريضا كمثل ورقة تلاعبها الريح كما يحلو لها، تكاد تعصف بها لتطيرها من جذورها، وكانت الشرطة في أذهاننا، نراها بأم رعبنا قادمة فنتجنب عصاها ذات اليمين وذات الشمال، وما العصا إلا وهم صنعه خوفنا المزمن فشل إرادتنا، وتفكيرنا. بعد فترة لا أعرف مداها تمكنت من الانسلاخ عن القطيع وابتعدت عدوا إلى أن وجدتني بخلاء رحب، قعدت لألتقط أنفاسي. لحظتها عرفت أن العنف يخلق الخوف الشديد؛ والخوف يشل الفكر والإرادة، ويحول الإنسان إلى كائن مغيب، منزوع الإرادة والرغبة في التحرر لأنها فضلة، الأساسي بالنسبة له هو الأكل والشراب والجماع.
لقد رغبت عن التغيير، ويئست حتى من نفسي، وما عاد يظهر لي سوى الفراغ الممتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
بلادي صحراء تائهة، وعندي رغبات ثاوية في أعماقي، وأريد أن أخصب الرمال برغباتي الجامحة، لكن الإحباط ثقيل الظل، يعيق سيري.
هذه البلاد ينبغي أن أرميها بقذيفة نووية حتى أعيد ترتيبها من جديد. يا صاحبي، لا تلمني على قسوتي، فالهزيمة فادحة، والنواة لا تريد الكسر رغم كثرة المطارق، هب أني رميت بالقذيفة، فتخيل مقدار الربح الذي ستجنيه البلاد بعد زمان، سترتاح من ثقل عمر طويلا.
لا بأس من تصيير بلادي قبرا جماعيا، ومن دون تمييز، لعل عشب اللحود ينتج ثمرا حلوا، فالمرارة طاغية يا صاحبي.
كانت مجرد فكرة كذبابة سوداء، راودتني مرات، حاولت إبعادها بكل ما أوتيت من رغبة؛ لكنها تحولت سحابة دكناء كادت تعصف بالروح؛ ففي اللحظة التي هجمت فيها علي هبت رياح فتحت نافذتي على مصراعيها فتشتت تلك الجحافل وعمني ضوء غريب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى