علي السباعي - جئتُ لأموت: امنحوني قبراً!

صخورٌ مهشمة، أسماك يابسة، جثث حيوانات مائية، نخيل متيبس، أوانٍ صدئة، بقايا هياكل عظمية لحيوانات نافقة، نفايات، أحذية عسكرية تقطنها سرطاناتٌ مخيفة، أيادٍ مفجوعة تمسك بعدد الحفر، وزوارق خشبية محطمة. ترى كم مرةً عَبَرتْ؟ ومَنْ حملتْ عند غرقها؟ كلها أضرحةٌ تؤكد موت النهر.
المدينةُ ظمأى تبكي نهرها، يتجمهر الناس بعيونٍ قلقة، متأرجحين بين عالمين، في كل عالم يضعون قدماً، في برزخٍ بين ارتواءٍ وعطش، بين نور وظلام، بين حياةٍ وموت، بين صراخ وصمت، أبيض وأسود.
امرأة متسولة ترتدي سروالاً رجالياً أزرق، شعرها ذو تسريحة رجالية بلون الكستناء، تمسك بيدها اليسرى سيكارتها، أفعى خضراء موشومة فوق كفّها عند الإبهام، كأنها تنفث سحباً زرقاً دخانية. تمجّ نفساً طويلاً رصاصياً كالجحيم، عيناها بلون الحبر الصيني تراقب الناس ببلادة بغل. نظرات ثابتة ثقيلة. صرختْ في صوتٍ كارثيّ:
اتركوا جسد النهر يا كُفّار!
تتعانق نقاط الوشم الأربع الموزعة في زوايا فمها الأدرد ذي الشفتين البنفسجيتين، تردد نداءها:
اتركوا المدينة.
الناس ضاجّون كضجيج كورَة زنابير. يتدافعون ناحية النهر، يبحثون عن بقايا حروبهم الماضية، وآخرون يتصورونه مستودعاً يحتفظ بخيباتهم. تنفث المتسولة دخانَ سيكارتها بمتعة، سروالها يتطاير عابثاً، مالئاً الحيّز بين قدميها، تعاود زعيقها:
توبوا. اطلبوا التوبة يا خطأة!
يتدافع جيشُ الأطفال مطارداً ضفدعةً مرعوبة. النساء والرجال يتضرعون بأصواتٍ مستجيرة. أوجرت المتسولة كلماتها في صدورِ المتضرعين:
كفى. آن لكم أن تموتوا. استطردتْ: انتظروا موتكم.
هتف آخر:
لنترك المدينة.
ينادي أحدهم بتساؤلٍ خرافيّ مبتور:
مَن تنتظرون يا مساكين؟
يصدح أكثرهم سماجة بصوتٍ فيه نبرةُ انكسار:
غادِروا المدينة. لن يجري النهر أبداً!
أمواجُ البشر تلد أمواجاً أخرى، تتناسل كالذباب، يتصاعد غبارها ملتفاً دائراً يندب نفسه كنساءٍ معزّيات. ينفذ صوت المرأة المتسولة كالرمح إلى خاصرة المدينة:
- موتوا. آن لكم أن تموتوا.
* * *

يهلوسون بكلماتٍ كالمحمومين: انتظرناك ألف ليلة وليلة، ولم تأتِ!

* * *
الشمس تتفتت كالبخار بفعل غيومٍ عاجية جعلتْ نفسها فرشاةً تغمسها بلهب الشمس صانعةً لوحةً صارخة تكثر فيها ضربات الفرشاة السوريالية. المعاول تحفر في جسد النهر آباراً فارغة، كل فردٍ يحفر لنفسه بئراً، يصبح جسد النهر مجدوراً بملايين الآبار العميقة، رائحة الطين تملأ المكان شوقاً لقطرة ماء، يحرّكهم لحن تدفّق المياه في داخلهم، يتوجّع المجدورُ من ضربات الفؤوس النابشة، المتسولةُ تستجدي وتبكي، تبكي وتستجدي بصوتٍ جنائزي:
جئتُ لأموت. امنحوني قبراً.
مجرى النهر خريطةٌ رُسمِتْ عليها مقبرةٌ حديثة، وجوه الحفّارين زرقٌ مجهدة مثل طينٍ غليظ مُزِجَ بمياهٍ آسنة، يُدهشهم استجداء المتسولة:
لله يا محسنين، قبراً لفقيرة!
يتدثر القمر بغيماتٍ بيض قطنية، يعنّفها أحدُ حفّاري الآبار الشبّان منزعجاً:
عشتِ حياتكِ كلّها في الشحاذة، واليوم تستجدين قبراً. ابتعدي.
يخرج صوتها يرافقه دخان سيكارتها ساحباً كلماتها بصريرٍ موجع كمن يسحب سريراً حديدياً على بلاط:
يا الهي لماذا يقف الإنسان ضد الإنسان؟
ينهرها ثانيةً:
ابتعدي أيتّها المجنونة.
تشعل سيكارة جديدة من عقب سيكارتها المنتهية، تمجّ دخانها نفساً طويلاً من غيومٍ رصاصية مشعثة، تقول وهي تواصل نفث عباراتها الغامضة:
مساكين أهل الأوهام يحفرون قبورهم.
يرنّ كلامها مثل ضربات فؤوس تنبش الأرض بسخط:
ادفنوا فيها أحلامكم، ذكرياتكم، حروبكم، خطاياكم، أوهامكم...
تبتلع ضربات المعاول كلماتها، تعاود موّال استجدائها الحزين:
قبراً لفقيرة!

* * *

طبول تقرع تضرعاً: متى يجري النهر؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى