صبري رسول - الفواصل « قصّة كل عابرٍ للحدود»

أكد «المعلّم» سهولة الأمر، وإصبعه تشير إلى منطقة العبور من «قصر ديب» داخل سوريا إلى «سوركلي» داخل تركيا، مضيفاً: المسافة لاتزيد عن ستمائة متر، من هنا (إصبعه على القرية السورية)، إلى هنا (إصبعه تزحف إلى القرية التركية) منها مئة وخمسون متراً بين الأسلاك الشائكة من هذا الطرف وتلك في الطرف الآخر، يتوسطهما سلك حلزوني هو الأهم، وبعدها تدخلون المساحة الآمنة، وينتهي الأمر.
لا تحملوا حقائب ثقيلة، لا تلبسوا ثياباً فضفاضة تعيقكم القفز فوق الأسلاك، لا تستعملوا أجهزة الاتصالات، لا تدخّنوا، لا تُصدروا أصواتاً، المسألة تستغرق عشر دقائق فقط. وصف أوامره بـ«التعليمات».
انخفض مستوى القلق لدينا، وتلاشت الهواجس، وازدادت الحماسة، والهمّة.


أصبح كلُّ نهرٍ وجدول، كلُّ بستان وحقل فاصلاً بيني وبين الآخرين. سكة القطار والطّرق السّريعة وتخوم القرى، وحدود الدّول فواصل مريبة.
- اتفقنا. كررها أحمد جولي «زوجي» مرتين.
- على بركة الله. أنهى «المعلّم» الحوار بهذه الجملة.
اتفقنا على أن ندفع تسعمائة دولار عن العائلة إلى شريك المعلّم فور وصولنا الطّرف الآخر. كلّ يتفق مع المهرّب بسعر مختلف عن الآخر، حسب الاتفاقية. التقينا شمال بستانٍ يبعد عن القرية أكثر من كيلو متر، انضمَمْنا إلى عائلاتٍ هناك، فاكتمل القومُ وهم عبارة عن خمس نساء، وثلاثة رجال، وطفلان.
كرّر «المعلّم» تعليماته الصّارمة على مسامعنا، طالباً منّا الالتزام بتعليمات «ريبَر». اتجهنا صوب الحدود، في رتلٍ طويل، الأرض مبتلّة بالمطر الخريفي نهاية تشرين الثّاني، برودةٌ منعشةٌ تسلّلَت إلى موكبنا، اقتربنا إلى الأسلاك، طلب «ريبر» منا أن نجلس قليلاً، ليستكشفَ الوضع مع شريكه في الطّرف الآخر، ابتعدَ عنّا قليلاً، وهاتفُهُ لصق أذنه، بعد لحظات طلب منا الرّجوع قليلاً إلى الوراء، لأنّ الأجواء «غائمة» في إشارة إلى وجود معيقات. استدرنا جنوباً ورجعنا مئتي خطوة تقريباً.
أشار المُهرّب إلى، رابيةٍ خجولةٍ في ارتفاعِها، في الطّرف الشَّرقي: يمكنكم الانتظار هناك خلف التّلّة. عند أسفل قدمي الرابية ثمّة مزارٌ قديمٌ، تجمَّعْنا حول ضريح مجهول، يحوطه سور حجري قديم، تقف قرب الشاهدة الحجرية شجرة توت ضخمة، مئات خصلات قماشية تهفو مع الريح، يأتي الزُّوار إلى المزار معلقين آمالهم في ربط خصلات قماشٍ وخيوطٍ ملوّنة بغصن منها، المريض، والمرأة العاقر، والمجنون، وكل من يرغب في تحقيق أمنيته. بدأت النّساء في الثرثرة، كلٌّ واحدة تحكي قصّتها. سألَتْ امرأة ذات أربعين سنة، ارتباكٌ غامض يكتسي ملامحها: عما إذا كان تصرفنا حكيماً؟ فإذا كان الأمر خدعة فلم يعُدْ لها شيء في سوريا، وقالت متوترة: هذا الطّفل لا يملك في الحياة غيري، ولا أملك غيرَه، إنّه ابن المصادفات المؤلمة، فالتفجير الذي طال محلجَ القطن في الحسكة أودى بحياة والده، وألقَتْ أسايش (ب ي د) القبضَ على أخيه (سبعة عشر عاما) لتسويقه إلى المعركة، بِعْنا كل شيء لنهرب بجلدنا.
تدخّلَ الرّجل ذو السّحنة الجبلية قائلاً: بداية الأحداث هاتفَني رجلٌ من السّلطات طالباً مني مراجعتهم لأمر هام، وعند حضوري أخبرني ذو الكتف المزخرف بالنجوم: إنّ ابنك استشهد، وسجّل اسمه في سجّل الأبطال، عليك التوقيع باستلام جثته. دفناه في مقبرة المدينة بعد نحيبٍ طويل وعويل النّساء، ومرضَتْ أمُّه بعده، ولحقَتْه بعد أشهر. قصصُنا متشابهة ومأساوية. لاذ الجميع بالصَّمت.
جاءَنا صوتُ ريبر مبحوحاً، يطلب منا أن يلتحق قسمٌ منا به، أسرعتُ الخطى مع زوجي وابني وامرأتين مع طفل إحداهما، وبقي الآخرون، بينهم الرَّجل الجبليُّ قرب المزار.
قبل وصولنا إلى السّلك الشّائك الأول، كرّر «ريبر»: التزموا بالتعليمات، أسرعوا على أثري.
نطوي الأعشاب اليابسة والأشواك تحت أرجلنا، ليتني كنتُ ذاك الشوك الذي لا يعير لأي شيء عابر، أو كنتُ ذلك السّلك الشّائك الذي يوحّد حدود دولة ما، ويفصل بين ابنٍ وأبيه، ويشهد على رصاصاتٍ تخترق أجساداً هاربة من الموت.
عائلتنا في المقدّمة، والمرأتان والطّفل خلْفَنا، اجتزْنا الأسلاك الثّلاثة بخفّة، إنّها لحظة مصيرية، الفاصلة الجغرافية تفصل جحيم سوريا عن جنّة المجهول. في الطّرف الآخر تنتظرنا سيّارة فَان، قبل وصولنا بلحظات، أضاء وميضٌ هائلٌ فضاء الحدود، أعقبه صوتُ دويّ هائل هزّ الحدود والأسلاك والمزار.
خلّفْنا أمنياتنا الصّغيرة والكبيرة تحت أنقاض قرانا، والذين لجؤوا إلى أسوار المزار دفنَتْهم الأدخنةُ والقصف مع أمنياتهم وأحلامهم.
إما أن نغامرَ بحياتنا في اجتياز حدودٍ ترسم مصير أي شخص، أو أن نعيش كالرّجل الممدّد على رصيف البلدية مُتخذاً الجانب الشرقي من المدخل مأوى له، البوابة المغلقة فاصلة بينه وبين العقارات المرخَّصة في سجل الدّولة، والشّارع اللعين المكتظُّ بالنّاس يفصل بينه وبين سوق المدينة، وحدَه يواجه مصيراً مجهولاً، قضى عشرات الأيام في شتاء قارس وصيف قائظ، إنّه يروّض الطَّقس القاسي في جنون فصوله.
شريك «ريبر» يحرّك جناحيه كالمجنون، يحثُّنا على الإسراع، نظراتي التصقت بالنيران التي تلتهم المزار، واللاجئين المحتمين بـ«كراماته»، طفت على ذاكرتي قصّة المرأة التي فقدت ابنتها، وينتظرها زوجها الذي بقي مُعتقلاً ما يقارب ثلاث سنوات، وما إن نال حريته، فرّ إلى تركيا، ومن ثمّ إلى دولة أوربية. كم سنة سينتظرُ زوجته المحترقة بين أنقاض المزار.
هزَّ شريكُ «ريبر» من كتفي قائلاً: فان بانتظارك، أسرعي يا... أغاظتني فظاظته، فأسرعتُ إلى السيارة، تاركة حطام سوريا، وجثث الآخرين، وأحجار المزار تحت رحمة الاحتراق.
حياتي عبارة عن سلسلةِ حلقاتٍ بلا معنى تربط بينها فواصل. هل ستنبعث الحياة من أكوام الرّماد هذه؟
أتشعر الحدود بعبورنا أم تخشّبت مشاعرها مثلنا؟ عبرها المهرب، والناشط، والسياسي، والأرامل واليتامى، هي شاهد على كل العابرين، أهي تعرف أنها تُصبحُ حدوداُ لليباب؟ ليتني وضعتُ سوريا كلها في حقيبتي لأهرّبها خارج الحدود، هل تتألم علينا وهي تفقدنا إلى الأبد؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى