إخلاص موسى فرنسيس - لأنّ الشمسَ هنا الآنَ والحياة.. قصة قصيرة

صعدتْ على درجاتِ المركبِ، كانتْ تصارعُ كي تحفظَ اتّزانَها.
الكعبُ العالي، الثوبُ الطويلُ الأزرقُ عاري الكتفين، الشالُ المرصّعُ بالوردِ الأحمرِ يقيها بردَ كانونَ القارصَ، لكنْ لا بدّ أن تعبرَ النيلَ، لا بدّ أن تملأ صدرها من رطوبته، تتّكئ على الريح، لا تريدُ أن يمسكَ أحدٌ يدَها حرّةٌ كالفراشةِ المحنّطةِ داخلَ الزجاجِ في متحفِ علي باشا. آواهِ، قالت كيفَ لهم أن يحتجزوا هذا الجمالَ داخلَ الزجاجِ؟ في قرارةِ نفسِها تتألّمُ، ألسنَ صديقاتِ طفولتِها، أليست سلسلتها شرنقةً كانتْ على كتفِ الأقاحي في الوديانِ، معلّقةً في سقف المغارةِ في باطن الجبلِ القريبِ؟ هزّها النسيمُ ذاتَ ليلةٍ بعصاهُ السحريةِ، عندما مرّ في تلكَ الليلةِ شهابٌ فضيٌّ آتٍ من بلادٍ بعيدةٍ. تألّمت فانزلقتْ روحُها من الشرنقةِ، وتخطّتْ طورَ الولادةِ، لتكونَ أنثى بروحِ فراشةٍ. في أزقّةِ الليلِ سارتْ تبحثُ عن طيفِه، تعبرُ الوديانَ والجبالَ، تنادي الكهوفَ، تردّدُ صدى النداءِ. عبرتْ صحارى، عطشتْ لقطرةِ ماءٍ، غابتْ عن الوجودِ، وأسلمتْ للسكونِ جفنيها، فعانقَ الكرى العيونَ، وحينَ استيقظتْ كانتْ في الأرضِ السمراءِ.
معفّرٌ وجهُ المساءِ بغبارِ الأزقّة، وصوتِ عرباتِ الخيولِ. ها هي سفينةٌ فرعونيّةٌ، ماذا يمنعُ أن تقضيَ فيها الأمسيةَ؟ دلفت من البابِ المذّهبِ، خطفتْها الألوانُ مرةً أخرى، جدرانٌ مزركشةٌ من عصورٍ غابرةٍ. مضتْ، قبضتْ بيدِها صدرَها بشدّةٍ، تُخفي وعكةً داهمتها. تدافعَ الأطفالُ والرجالُ والنساءُ من حولِها، كادَ يُلقى بها في الماءِ، الكعبُ العالي، الفستانُ الأزرقُ، النيلُ، وصوتُ الموسيقى يتسرّبُ إلى أذنيها. قادَها النادلُ إلى الركنِ المحجوزِ، سكينةٌ في عاصفةٍ. تناولتِ الكأسَ أمامَها، سكبتْ لها نبيذًا أحمرَ، رفعتْ عينيها، فتراءى لها كأنّ الجداريّةَ أمامَها تتحرّكُ.
عازفةُ الناي نزلتْ إلى المقعدِ الوثيرِ، تبعَها حاملو الرقوقِ والدفِّ، وصوتُ قيثارةٍ، وعازفُ عودٍ، انسابَ من الجدارِ، وراحَ يضربُ بأناملهِ الوترَ.
تحرّكَ المركبُ، لم يتحرّكْ، رقصَ الشبانُ، لم يرقصوا، نامتِ الشمسُ في النيلِ، واستيقظَ القمرُ. هي الركنُ الهادئُ في هذا الصّخبِ، وهو الهاربُ من جدارِ الزمنِ.
أعطتهُ يدَها
وراحا معاً يقطعانِ الطريقَ المتعرّجَ نحو رأس الجبلِ، تتّكئ إلى كتفهِ، يشدُّ على يدِها كي لا تنفلتَ منهُ.
الطريقُ متعرّج طويلٌ جدّاً، ورائحةُ الصباحِ الآتيةُ من عمقِ المحيطِ تلفحُ أنفاسَها.
لم تصدّقْ أنها وصلتْ في نهايةِ المطافِ ، لتستريحَ في حضنهِ، وتمسحَ بكفّيها غبارَ الانتظارِ الطويلِ عن جبينهِ المتعبِ.
لم ينمْ ليلةَ أمسِ، أرقٌ لم يعرفْه منذُ سنينَ، وفرحٌ مباغتٌ أقربُ إلى الأسطورةِ منها إلى الواقعِ.
كيفَ تمشي؟ كيفَ تتحرّكُ شفتاها؟ كيفَ تبتسمُ؟ ما هي رائحةُ عطرِها، وقعُ خطاها، رنينُ الخلخالِ، أنينُ الحرفِ في أناملِها؟
أمضى ليلَه كأنّه على سريرٍ من جمرٍ. أيفرحُ أم يحزنُ؟ يبكي أم يرقصُ؟
كان قطارُ الفرحِ قد عبرَ به من زمنٍ مضى مخلّفاً وراءَهُ شبهَ ابتسامةٍ.
كيفَ لكِ أيتها المرأة، ومن علّمكِ أن تحييَ رميمَ رجلٍ قد طحنتْه عجلةُ الزمنِ، ورزحَ تحتَ أقدامِ العمرِ، يُحصى ثوانيَ الحياةِ التي تعبرُهُ ؟
من علّمك أيتها المرأةُ الآتيةُ من غياهبِ البحرِ، ومن خلفِ الموجِ الأزرقِ، تحملين بيمينكِ شعلةً من نورٍ، ورغيفًا من خبزِ الحياةِ، وحفنةً من زيتٍ؟
من أقامكِ سلطانةً للقلوبِ، تقيلين وتنصبي من تشائينَ بابتسامةٍ، وتغرفينَ من قمحِ العِشقِ، وتنثرينَهُ في صحارى الناسِ، فينبتُ السوسنُ، وتلتقطُهُ عصافيرُ القلوبِ بمناقيرِها.
حمامةٌ في منقارِها غصنُ زيتونٍ، وفي عينيها سرٌّ مختوم، من يجرؤُ على فكّهِ، أو الاقترابِ منهُ؟ مرصودٌ بابُ قلبي قالت لم ولن يدخلَهُ عابرو الطريقِ والقراصنة.
هو لأميرٍ فرشتُهُ بالريحانِ، من عصاهُ الحرفُ، وسريرُهُ القصيدُ، يرعى في حقولِ النعناعِ، يقطفُ الليلكَ، يحوكه معَ خيوطِ الفجرِ لي ثوبًا، ويطلبُ للشمسِ أن تتهادى في الشروقِ، وتعجلُ في الغروبِ، لأنّ الشمسَ هنا الآنَ والحياة




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى