محمد علي عزب - (14) الغنائية فى الشعر

(14)
الغنائية فى الشعر


ارتبط الشعر بالغناء منذ أقدم العصور فى كل الأمم وقد قسّّم "أرسطو" فى كتابه "فن الشعر" أنواع الشعر عند الاٍغريق قديما اٍلى ثلاثة أنواع هى الشعر الملحمى والشعر الدرامى والشعرالغنائى, فالشعر الملحمى هو الذى يرتبط بسرد الملاحم, والشعر الدرامى هو المسرحى, أما الشعر الغنائي فهو المرتبط بالغناء والآلة الموسيقية وتعبير الشاعر عن عاطفته وواجدانه الذاتى, ولم تختف الغنائية تماما من الشعر الملحمى والدرامى حيث كانت الذات الشاعرة تعبر عن تماسها واشتباكها لدرجة التماهى أحيانا بشخصية البطل أو أحد الشخوص فى الملحمة أو الدراما, وكان "هوميروس" ينشد ملحمة "الاٍٍلياذه والأوديسا" بمصاحبة آلة القيثارة وهو يتجوّل فى بلاد الاٍغريق, وظهرت فى أوربا فى العصور الوسطى فرق الشعراء المتجولين الذين يغنون الشعر بمصاحبة الموسيقى .
ولم يُعرف عن الشعر العربى فى العصر الجاهلى وصدر الاٍسلام أنه كان مصاحبا للآلة الموسيقية, وكان الترديد والاٍنشاد هو البديل عن الغناء بمصاحبة الموسيقى, وكان الغزل والبكاء على الأطلال والحنين شجرة الشعر الخضراء الوارفة الظلال فى الصحراء العربية, هو أجمل تجليات الغنائية والتعبير عن الوجدان الذاتى فى الشعر العربى القديم, ولنذكر هذين البيتين لعنترة بن شداد الّّذَيْنِِ وُصِِفا قديما وحديثا بأنهما أغزل ما قال العرب :
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
مع الاٍقرار بعدم انتفاء الغنائية فى باقى الأغراض الأخرى ولكنها كانت حاضرة بدرجات متفاوتة وفقا لحضور التعبير عن الوجدان الذاتى للشاعر, وأظنه كان حاضرا فى غرض الفخر والنسيب اٍذ أن الذات الشاعر كانت تفحر بانتمائها للذات الجمعية الأهل / القبيلة, والجدير بالاٍشارة أن المستشرقين صنفوا الشعر العربى القديم على أنه شعر غنائي لأنه غير درامى وغير ملحمى وفقا لتقسيم أرسطو للشعر .
وبعد أن عرف العرب الآلات الموسيقية الوترية مثل العود والقيثارة وآلات النفخ مثل الناى, وأصبحت الموسيقى فنّّا له رواده ودارسيه منذ العصر الأموى والعباسى ازدهر الشعر الغنائى العربى, وابتكر العرب أشكالا شعرية جديدة خصيصا من أجل الغناء مثل المواليا / الموال الذى نشأ فى العراق وكان يصاغ بالفصحى فى بدايته ثم أصبح نظما شعريا غنائيا عاميا, وكذلك نشأ الموشح فى القرن الثالث الهجرى فى الأندلس وهو شكل شعرى خارج على وحدة الوزن والقافية يتكون من عدة مقطوعات كل مقطوعة تسمى بيتا أو دورا, وتتكون كل مقطوعة من غصن وقفل, والغصن عبارة مجموعة شطرات تتغير قوافيها من مقطوعة اٍلى آخرى, أما القفل فهو مجموعة شطرات لا تتغير أوزانها أو قوافيها, وقد صاغ أهل الأندلس فنا شعريا بالعامية على منوال الموشح وهو الزجل, حيث قال ابن العلامة عبد الرحمن بن خلدون فى "مقدمة ابن خلدون" : ( ولمّا شاع التوشيح فى أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، و نظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية بغير أن يلتزموا فيه اٍعرابا واستحدثوا فتّا سموه بالزجل )1, وابتكر المصريون نوعا جديدا من الزجل فى القرن السابع الهجرى سمّّوه "البُلَّّيْق", وكان يغنى فى قصور السلاطين والساحات والأسواق, ويختلف عن الزجل فى أنه يعتمد على الجمل القصيرة والأوزان الخفيفة واٍمكانية دمج المفردات الفصيحة والعامية فى بليقة واحدة, ( يجئ فيها المعرب وغيرالمعرب، ولذلك سميت بلّيقة من البلق وهو اختلاف الألوان، وأن البلّيقة لا تزيد عن خمس حشوات غالبا وقد تنتهى اٍلى السبع قليلا )2, وكان مؤلف البلاليق يُسمى بليقى وكان يؤلف البلاليق ويلحنها ويغنيها فى نفس الوقت, وقد أشار اٍِياس فى "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" اٍلى عمر الجندى "ابن مولاهم" كبير البليقين فى عهد السلطان حسن, وأورد ـ ابن اٍياس ـ نََصّّ بليقة بعنوان "أنا جندى خلق", التى غناها "ابن مولاهم" فى قصر السلطان حسن, كما ظهر بعد ذلك فى القرن التاسع عشر تقريبا شاعر الربابة الذى ينشد السيرة الهلالية شعرا عاميا على الربابة وظهرت فرق الأُدباتية "الشعراء الجوالين" التى كانت تجوب البلاد تغنى الأزجال الأشعار الهزلية, وكان عبد الله النديم ينشر مساجلاته الشعرية مع "الأدباتية" فى مجلة "الأستاذ" التى كانت تصدر فى أواخر القرن التاسع عشر .
وقد أثيرت قضية ارتباط الغنائية فى الشعر بمركزية الذات والتعبير عن الوجدان الخاص بالشاعر فى أواخر القرن الثامن عشر على أيدى الشعراء الرومانسيين, ومن هنا بدأ التركيز على الجانب الوجدانى الذاتى فى الشعر الغنائى, وأصبح مفهوم الغنائية أكثر ارتباطا بالذاتية والوجدان الخاص بالشاعر أكثر من ارتباطها بالوزن العروضى أو الوزن الحر, وأصبح الجانب الذاتى فى الغنائية هو الأكثر تمثيلا للغنائية فى الشعر الحديث والمعاصر فالغنائية حاضرة أيضا فى قصيدة النثر, ( ويرى بعض الباحثين أنه ـ الغنائية ـ مصطلح مستنفذ فى ظل صعود الشعر الدرامى )3 ولست مع هذه الآراء, فالغنائية بوصفها تعبيرا عن الذات يمكن أن تتواجد فى القصيدة الدرامية أو الملحمية أو السياسية وفى أى خطاب شعرى, بشكل أو بآخر وفقا لحضور الذات الشاعرة فى النص وتعبيرها عن مكنوناتها ورؤاها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ مقدمة ابن خلدون ـ ط المطبعة الشرقية ـ القاهرة 1327هجرية ص 697
2 ـ التنوخى ـ الأقصى القريب ـ ط السعادة1327هجرية ص106
3 ـ د. صلاح فضل ـ اساليب الشعرية الشعرية العربية المعاصرة ـ دار الآداب ـ القاهرة 1995م ص 86
* مقتطف من الفصل الأول من كتابى النقدى "مصطلحات ومفاهيم فى الشعر ـ مقاربة نقدية فى مصطلحات شائعة فى الشعر العربي الحديث واالمعاصر " ـ قيد الكتابة



محمد علي عزب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى