سفيان صلاح هلال - منابع للحلم، ولاحدود للأمل في "لا سماء هناك" للشاعرة الإماراتية عبرة المزروعي

مما يمنحنا الأملَ في حياتنا المعاصرة إبداعُ الشباب العربي المتطلع لمكانة محترمة على خريطة العالم. والشاعرة الإماراتية "عبرة المزروعي" تبث في نفوسنا قدْرا عظيما من التفاؤل في ديوانها "لا سماء هناك" الصادر عن دار هماليل 1437هجرية، ولكن هذا التفاؤل ليس مجانيا يتفجر من لا شيء أوبلا شيء، بل هو يولد من روح حالمة لعقلية تنقد الواقع، وتنقد الذات أيضا عبر لقاءات متفاعلة بطريقة إيجابية، لا يهزمها اليأس من سيئات ما تعايش. كان يمكن أن يقع العنوان تحت طائلة التأويل، وهو قابل لهذا التأويل بتركيبته النحوية واللفظية، لكن قول الشاعرة: "ككلمة) حب (قليلٌ أنت وكثير /حلمٌ سماويّ لا سقف له" وضعنا في نقطة مضيئة للمعنى المقصود؛ ليفتح لنا بابا للدخول في عالم الديوان.
تسيطر على الديوان همومٌ كثيرة: بعضها يأخذ طابع الهم الإنساني العام، وهو المنبع الخصب لتجربة الشاعرة مثلما في قولها:
"تسقط نجمة /من قبضة الليل /متخفية بوميضٍ حزين /لتكتب اسمك /الذي يحمل ملامحك
بوهن /قبل موتها الباهت /تضيء روحها الأخيرة /حروفه /بعدد الخطوات /الفارغة من الحب"
وكما يتضح من المقطوعة السابقة، إطلاق المعنى عبر صورة كلية، تأخذ تفاصيل أسطورية؛ فالليل عدو الحياة القابض على النجوم/الأرواح التي هي طاقة الأسماء في صراع مرهون بكم الحب؛ يقوى الليل "بعدد الخطوات الفارغة من الحب"؛ فيستطيع القضاء بسهولة على الأرواح ولو كانت متمسكة بالحياة "قبل موتها الباهت تضيء روحها الأخيرة". ولا يفوتنا أن نشير إلى الكثافة التي تليق بالشعر في الصورة السابقة. وهكذا يتوزع الهم الوجودي بين صفحات الديوان وإن كان يأخذ شكل الرمز دائما دون التصريح.
وربما كان الهم هو ما يقود الشاعرة للالتفاف حول ذاتها في مشاهد كثيرة حزينة متفرقة في الديوان
: " يا أنا /لن تستطيع تجاهله /ذلك البحر /الذي ينتظرك/كليلٍ يموت على كتفه التعب /ستغرق فيه يوماً /ولن تنقذك النوارس /لو خذلني العالم /لن أخذلك يا أنا)، لكنه التفاف ليس فيه عزلة أو هروب من الواقع بل هو استراحة لمحاولة إعادة ترتيب الأشياء وقراءتها جيدا؛ لهذا نقرأ في الديوان صورا كثيرة تعبر عن حزن إيجابي نبيل يرجع لأسباب كثيرة تبحث عنها الشاعرة "تبحث عن يدٍ تمسك بها /تجاور خطوتها /عن صوتٍ يؤكد لها /أنها توأم الخير /عن قدرٍ /يساند الليل /ويسند الصباح /عن حلمٍ /يمطر أجنحة"
وهكذا يستمر البحث عبر الغيب في القدر، وعبر الواقع وتتنوع أشكاله، وفي رحلة البحث يحدث أن الشاعرة تتوحد وجدانيا مع حالات شتى ومتباينة، وتظل مدفوعة لمشاركتها إعادة القراءة لكل شيء لاستخلاص الحكمة، "حاولت أن )أصبح على خير( وحدي" هكذا تتمنى الشاعرة وحدتها، لكن هيهات للشاعر أن ينفصل عن العالم المحيط به! وكأن الشاعر مطبوع ومدفوع بغريزة التوحد والكشف: تكشف الشاعرة مواقع الألم والحزن حين
" تقع النوارس /على بحارٍ من جليد /بلا ماءٍ مالح /تصمت الحياة /هكذا تقف أنت /على حافة الحنين /وحيداً /تنتظر خطوات ظلك /التي أبداً /لا تع.و.د!"،
وتكتشف الأمل والحلم "هكذا أتنفسك /يوماً جديداً /يقسم على الصمود /ويوزع الضوء بأنانية /على العالم /كما يوُزَّع العيد /على أعين البؤساء"
ومن هنا ترى أن كل الأحوال خير، المهم هي كيفية التعامل مع الأحداث وتوجيهها؛ حتى أنها في قصيدة تعلن قبول وجودها حشرة أو كائنا منقرضا أو حتى ضحية ميتة تصير طعاما لكائن جائع.
وكما تشارك الشاعرة كل الموجودات وجدانيا، هي تدعو كل الأشياء لمشاركتها حالتها وتشجعها على التفاعل مع ما حولها، وتتعدى الدعوة مشاركة الإنسان للإنسان ولنقرأ معا هذا المقطع:
"قبل أن تكتب لي قصيدة /لا تضع كل الورود /في مزهرية /هناك قبور وحيدة /وهناك سلالٌ للبيع
/وهناك وسادة /تنتظر أن تخبئ /تحت حلمها وردة".
أو قولها "أنا وأنت وجهان لحزنٍ واحد /في مكان الألم نفسه /ومع ذلك فإن العالم لا يرانا معاً
/في نفس الوقت /يلتقطنا ويضعنا في جيبه /ومع ذلك لا نلتقي /يقذفنا ليعرف حظه /ونسقط بحزنٍ واحد".
ربما نستطيع أن نتعرف من المقطوعات السابقة على خارطة لحقول ومجار خصبة في روح الشاعرة،
غير أن نبعا أصليا وطقسا يشكلان هذه الخارطة، أو يشكلان هذا الكيان الشعري ويمنحانه الديمومة وهما: الشخصية المحبة، والوطن. ولا نستطيع أن نفصل أحدهما عن الآخر فمن الواضح أن تأثر الشاعرة ببيئتها /وطنها له دور في شخصيتها المقاومة لعوامل الإحباط، والمشجعة لبواعث الأمل ففضلا عن الحضور الطاغي لصور الحياة في إمارة (أبوظبي) وطن الشاعرة والتي ترسم لها دائما لوحات من الصراع الحميد مع الحياة والطبيعة، فهناك التصريح المباشر في قولها :
"مؤمنةٌ بالأغنيات /عندما تهطل /تنبت الحياة في القلوب /تنمو الأعياد /على شرفات الوطن
حيث يخبو المستحيل /بعض البلاد جروحٌ /ووحدك تبقى جنة ودواء" حضر الوطن في مواضع كثيرة في الديوان حضور اليد التي تربت على كتف الشاعرة في لحظات الانكسار، وحضر كمكون لوعيها الثقافي وحضورها الإنساني ...
إن "عبرة المزروعي" بثت الكثير من رسائل الحلم والأمل في الديوان عبر روح شفافة وحالمة، لم تعبأ كثيرا بالقيود؛ فتحررت من الموروثات الفنية للقصيدة التقليدية فقد حرصت على الإيقاع لكنها لم تحرص على قيد الوزن، كما أنها استخدمت الغناء الخبري في المواضع التي يغلب عليها التأمل الشخصي الذي يغلب عليه النزعة الرومانسية مثل " تظلل الأرواح نايات عشقٍ /مواسم ياسمين /وتبقى كجمال الدهشة /في عيون الصغار /كانسياب الرحمة /من كفوف الأمهات /كالأمنيات /كالأغنيات"
واستخدمت السرد في بعض النصوص؛ فقدمت قصيدة على غرار ألف ليلة وليلة وقسمتها إلى مقاطع: الليلة الأولى، الليلة الثانية .. وهكذا، أو قدمت نصا شعريا يعتمد على سرد قصة مثل: "بلا نايات
الرياح تترنم بالوحدة /وهناك أنت /تعبر الغابة وحيداً /تدخل يدك في قفص /وعصفوراً في قلبك"
وقد أثرى انطلاق الشاعرة قدرتها على التعبير عن روحها النقية التي انطلقت من سواحل الخليج العربي تبث في قلوبنا قدرا كبيرا من الأمل في المستقبل رغم انكساراتنا، ورغم أن هذا الانطلاق قد يجعل نصها أحيانا يقع تحت طائلة المآخذ النقدية الصارمة، لكننا في النهاية نتوحد معها لنردد: "هناك غابة مشمش /شموسٌ صغيرة /في فلك قلبي /تغلفه بحلاوتها العذبة /وتحتضن بذرة الشقاء المرّة /في موسم الرياح... فالأيام غداً /تأتي سكرى بنا /إذا ما راقصناها معاً"



1614342422061.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى