خير جليس سعد عبد الرحمن - مكارثية جديدة

أنا من أنصار أن تكون في المكتبات كل الكتب من مختلف الاتجاهات وشتى التيارات بما في ذلك كتب الهرطقة والإلحاد والكفر (والمكتبات في دول العالم المتقدم هكذا) لأن مواجهة الأفكار الخطيرة والآراء ذات الضرر البالغ والمؤكد على الفرد والمجتمع من أجل تفنيدها وكشف ضلالها وتهافتها لابد أن تتم بناء على معرفة عميقة بأصول تلك الأفكار والآراء وبشكل جماعي، لكن لن تتاح المعرفة العميقة بها إلا من خلال توافر مظانها (مصادر ومراجع) أمام من يبغيها؛ كما أنه من المعروف والمألوف أن "كل ممنوع مرغوب" فإذا منعت كتابا ما فإنك تغري الناس من هواة القراءة وغيرهم أيضا بالبحث عنه لقراءته وتداوله سرا كما أن حظر أي كتاب ومنعه في هذا العصر مهما كان السبب وأيا كان المبرر أمر غبي وغير ذي جدوى فكل شيء متاح الآن على شبكة الإنترنت، حتى إن تلك الكتب التي تشرح بالتفصيل كيفية صناعة القنابل وتركيب المتفجرات وغيرها من وسائل القتل والدمار متاحة وبكثرة .
بالرغم من ذلك يمكنني - إلى حد ما في ظل استمرار بعض ظواهر التطرف ومظاهر الإرهاب - التعاطي بعض الشيء مع الأمر وتقبل أن تسحب - ولكن وفق شروط وضوابط معينة - من المكتبات العامة كمكتبات الهيئة العامة لقصور الثقافة بعض تلك الكتب التي يتعارض مضمونها مع "التوجه العام للدولة" وإن كانت هذه العبارة مطاطة وفضفاضة ولا يمكن الاتفاق على دلالة أو دلالات محددة لها هذا فضلا عن أن التوجه العام للدولة يتغير من عهد إلى عهد ومن زمن إلى آخر ، ولذلك فمن خلال تطبيقها يمكن دس السم في العسل وهذا ما حدث بالفعل مؤخرا (من عدة شهور) فقد شكلت لجنة أو لجان مهمتها تنظيف المكتبات العامة من الكتب التي رأى المسؤولون في الثقافة أن ما تتضمنه من أفكار وآراء يمثل خطورة ما على التوجه العام للدولة ككتب الإمامين ابن تيمية وأبي حامد الغزالي (لم تميز اللجان الجاهلة بينه وبين الشيخ محمد الغزالي) وكتب ابن قيم الجوزية وكتب ابن الجوزي (اللجان الجاهلة لم تميز أيضا بين عبد الرحمن بن الجوزي وشمس الدين محمد بن قيم الجوزية) وكتب حسن البنا وسيد قطب (كل كتب سيد قطب حتى الأدبية والنقدية منها التي كتبها قبل انضمامه إلى جماعة الإخوان، ما السبب مثلا غير الجهل في سحب كتابه: "النقد الأدبي أصوله ومناهجه"؟) وكتب الدكتور يوسف القرضاوي وكتب الشيخ محمد الغزالي بالرغم من أنه(أي الغزالي) انشق عن الإخوان مبكرا (ما السبب مثلا غير الجهل في سحب كتابه: "دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين"؟) وكتب السيد سابق (ما السبب غير الجهل في سحب كتابه: الفقه على المذاهب الأربعة؟) وكتب الشيخ محمد أبو زهرة وكتب الدكتور محمد عمارة حتى تلك التي كتبها حين كان ينتمي إلى تيار اليسار، (ما السبب مثلا غير الجهل مثلا في سحب كتابه: "العرب والتحدي"؟ وما السبب أيضا في سحب كتابه: "هل إسرائيل سامية"؟).
الأدهى والأمر من ذلك قيام اللجان الجاهلة أيضا بسحب كتب السيد جمال الدين الأفغاني (ما السبب غير الجهل مثلا في سحب رسالته في: "الرد على الدهريين"؟) وكتب الإمام محمد عبده (من أهم أعلام التنوير في الثقافة العربية والإسلاميةالحديثة وتشكل أفكارهما وٱراؤهما جزء أصيلا من وعينا الحضاري القومي حتى الآن) وكذلك الكتب التي تترجم لهما (ما السبب غير الجهل مثلا في سحب كتاب: جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق لعبد العزيز المراغي؟)، بل وصل جهل اللجان إلى سحب كتب تهاجم الإخوان ويصمهم فيها مؤلفوها بالانتهازية ويسمونهم بالشوفينية ويحملون زعماءهم وقادتهم مسؤولية تفشي كثير من ظواهر العنف ومظاهر التطرف في المجتمع المصري وضد أفكار حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها الأول (أي والله) أي أنها كتب مع التوجه العام للدولة وفق فهمهم لهذا التوجه مثل كتاب "حسن البنا" للدكتور رفعت السعيد لمجرد أن الكتاب يحمل اسم حسن البنا، كما سحبت اللجان الجاهلة الكتب الأربعة التي تضمنت تراجعات قادة الجماعات الإسلامية عن أفكارهم التكفيرية وإعلانهم التخلي عن أساليب العنف في التعامل مع الدولة (صدرت الكتب بإشراف الأجهزة الأمنية في أواخر عهد مبارك تحت عنوان مبادرة نبذ العنف)، بل قد وصل التطرف في مخطط استبعاد الكتب التي يتعارض محتواها مع التوجه العام للدولة إلى إصدار تعليمات بالخلاص من الكتب التي يرد في محتواها اسم أي شخصية من تلك الشخصيات الخطيرة!! كتلك التي ذكرتها أو تشير إلى مقولة من مقولاتهم أو فكرة من أفكارهم، وهذا لعمري قمة الحماقة لأنها أولا تعليمات يستحيل تنفيذها فأسماء تلك الشخصيات وأقوالها وأفكارها موجودة - سواء كانت في سياق إيجابي أو سياق سلبي - في مئات بل آلاف الكتب، ثانيا لأن تنفيذها إذا افترضنا جدلا قابليتها للتنفيذ سيدمر مع الأسف المكتبات العامة تدميرا كاملا.
آلاف الكتب تم سحبها أو يجري سحبها من حوالي خمسمائة مكتبة من مكتبات الهيئة والمثقفون جميعا سكتم بكتم لأن الأمر لا يمس مصالحهم الخاصة، وما دام - من وجهة نظري - لا يمس مصالحهم الخاصة فهو أمر هين وغير ذي بال.
ولكن من حقي وحق كل من يشاركني وجهة نظري وموقفي مما حدث أن نتساءل عن مصير آلاف تلك الكتب التي سحبت من المكتبات العامة، هل ستعدم في محرقة عامة أمام جماهير المواطنين (كما رأينا في فيلم 451 فهرنهايت)؟ أم أنها ستكهن وتقبر في المخازن المكدسة أصلا بإصدارات ودوريات لم تجد من يشتريها ليقرأها؟، وما الضمان لعدم تسريب هذه الكتب من المخازن غدا أو بعد غد لنجدها تباع لدى تجار الكتب القديمة والمستعملة في سور الأزبكية وسور كوبري أبو الريش (السيدة زينب سابقا) وغيرهما؟.
هناك كتب مهمة وطبعات نادرة لا علاقة لها بموضوع الحملة المكارثية تم سحبها عن جهل أو ربما عن علم بقيمتها يمتزج بخبث وسوء نية وتلك الكتب على وجه التحديد هي التي أخشى أن يتم تسريبها من المخازن لكي تباع مستقبلا بعد مرور الوقت الكافي لنسيان الناس أمرها؟ (ما السبب مثلا غير الجهل أو العلم الممتزج بالخبث وسوء النية في سحب كتاب: "خاطرات جمال الدين الأفغاني" لمحمد باشا المخزومي؟).
أيها الشرفاء من المثقفين ماذا أنتم فاعلون؟ إن كان عذركم انكم لم تكونوا تعلمون فهأنتم تعلمون؟
هل تراني بلغت؟ اللهم فاشهد.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى