د. سامي عبد العال - قراءة الخطاب: عن أرشيف الثقافة

القراءة في الثقافة العربية معناها" الجَمْع والتّتبُع "، يُقال قَرَأَ فلانٌ كذا وكذا... أي جمعَ ما يُقرأ إلى بعضهِ البعض. في عبارة واضحة: القراءة هي معرفة وتحديد الرابط الاجمالي الذي بإمكانه ضم معاني الأشياء تطلعاً للفهم. غير أنَّها بصدد الخطاب عملية معكوسة حفرياً واصلةً إلى أدق الجذور والتفاصيل. إنّها استطراق حفري للداخل حتى الأعماق القُصوى، أي تبحث عن شيءٍ ما كامن في صمت اللغة: داخل أنظمتها، أحداثها، طِباقِّها المتراكمة وكذلك في أبعادها الأكثر تأثيراً.

لا بمعنى أنَّ داخل الخطاب كماً من الأسرار البعيدة عن الإدراك، إنما كل خطاب ينطوي على سرٍ إنْ لم يكن هو ذاته السر. لأننا نحتاج إلى فك طلاسمه وكشف جوانبه لمعرفة ما ينطوي عليه وما يتكون منه. إذ ذاك يتم التعرف على ما يقول وأية معانٍ يضمرها برسالته وكيف تتشكل. إنَّ تتبع تلك الحلقات لن يتم دون تعقب لحركة المجتمع على خلفية البنية الثقافية والتنقيب داخل أنظمة الرموز والعلامات وكيف تعبر عن مكنونها.

كثيراً ما نترُك مجال الخطاب جانباً تحت وقع انفصام القول عن الفعل. هذا الشق الثقافي المجهول داخل جدران ذواتنا العربية الصماء. وبخاصة أننا ندُور- فكراً وممارسةً في الحياة العامة - مع دوران الرحى اللغوية. حيث نستطيع اكتساب الايقاع الحياتي نفسه والوصول إلى النتائج ذاتها. فنصبح في حالة أشبه بـ"عجلة مفرغة" تدور بسرعةٍ كبيرةٍ. تعطينا احساساً بالامتلاء والاكتمال بينما هي مازالت فارغة المحتوى وغير تامة البناء. اللغة بمثابة هذه العجلة الدائرة بسرعة قويةٍ، حين تتلقف وعينا وأفكارنا خلالها دونما مخرج(نحن في المجال العام ظاهرة لغوية إنْ شئنا).

إزاء هذا الموقف، لابد من اللجوء - على سبيل التوضيح - إلى النصوص المقدسة ثقافياً. لأنها بخلاف فكرة " الإيمان والكفر" توثق آليات تفكير الجماعة التي كانت فيها ولماذا اكتسبت قداستها خلال هذه الاستدارة المعرفية. أي تبادل الأصداء التاريخية بين النص والفكر. وهنا يعد أرشيف الثقافة ضرباً من الرواسب والمحددات والمرجعيات الدلالية المضمرة التي تكشف الحقائق والأصداء التاريخية. فهو مكتوب ضمناً حتى وإنْ كانت له قداسة تند عن المقارعة. وبذلك يضم الأرشيف كتب الوحي والأقوال والممارسات والعبارات المأثورة والتفسيرات وتخريجاتها حول المتون الفاعلة لدى هذا المجتمع أو ذاك.

في مرحلةٍ ما، أشار خطاب القرآن كوثيقة ثقافية هذه المرة إلى الانفصام الفكري لجماعة المؤمنين. وهو ما يفيدنا في معرفة اللغة كأحداث خطابية مؤسِّسة للوعي بالأفعال وكيف تمارس أدوارها. وسنلاقي الانفصام اليوم في مفترقين حاليين: تسطح مستوى الخطابة( الكلام البراق) وقنص المصالح لدى جماعات الاسلام السياسي( المنافع والأيديولوجيا). "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون" (الصف/2). وإذا كان ذلك مع المؤمنين، فكيف سيكون مع غيرهم؟! خطاب القرآن يُوصِّف ذهنية عربيةً ضمن سياق الكلام. فالمؤمنون هم العرب وغيرهم بطبيعة الحال، سوى أنَّ الثقافة العربية لها السبق في إلقاء القول جانباً وترهل الفعل متلاشياً بجانب مغاير. وهو الازدواج الذي استمر خلال التعامل مع أوامر الدين. وكم خضع خطاب القرآن نفسه إلى ما نهى عنه. وبالتالي يبدو القرآن متمسكاً بإظهار قوة المفارقة كرادع لغوي تحت سلطة له لا تؤثر. لأن المؤمنين قد يفعلون شيئاً بخلاف ما يؤمرون به، وقد حرص القرآن على إظهار هذه المواقف!!

وبهذا ينبغي اظهار الجدل التاريخي للنصوص المقدسة مع الواقع في كل الأحوال. وهي بذلك ستتضمن قوانين الثقافة المحيطة، بل ستخضع لها. لأنَّ الجدل يترك أصداء إنسانيةً عبرها بحكم نتائج الأفعال المترتبة عليها. حتى وإن كانت تلك النصوص متعالية تبعاً لمصدرها. ومن خلال اللغة لن تستطيع التعبير عن آفاق الإنسان إلاَّ بطرائق تفكيره. وبذلك بالإمكان استنطاق معاني النصوص القادرة على إظهار صياغتها وتكوينها. عندئذ لن تتحدد نقطة فاصلة بين المقدس والمدنس، الميتافيزيقي والفيزيقي. طوفان اللغة يقوم بعملية الغمر لمعاني تتولد بين اللغة وبين السياق الذي تجري فيه، هذا الإغراق النوعي لما يراه الإنسان بشكل فريدٍ وحتى مجهول.

يدل معنى الآية وراء تعبير" تقولون" على مغايرتها لتعبير "ما لا تفعلون". كأنَّ القولَ شيء وهو كذلك، بينما الفعل شيء مناقض وهو مختلف. فيتضح أنَّه لا يُوجد تزامن بينهما من جهة المعنى. بالتالي يصح التبادل الدلالي هكذا: لم تفعلون ما لا تقولون. لأنَّ علَّة الصياغة سقوط الارتباط وتباين المقصدين جرياً على تباين توجههما. ومن ثم يلجأ خطاب القرآن إلى صيغة الاستفهام لإبراز المفارقة بين الموقفين. كأنَّ أصحاب القول ليسوا هم أصحاب الفعل. وهنا لم ولن يترك الاستفهام المتلّقي وشأنه. لكنه سيتركز تحديداً وراء المشهد حيث الخلل في الناس بموصوف إيمانهم. والإيحاء باللوم فاعل في رد الاستفهام إلى تلك النقطة بطريقة خلفيةٍ: يا من تؤمنون كيف تقولون ما لا تفعلون، هل يستقيم إيمانكم مع ذلك!! ومن ثم فالسؤال المتواصل لدى المواقف الدينية هو: كيف يستمر الوضع مع هذا الازدواج؟!

وإذا كان المضارع في الفعلين( تقولون- تفعلون) يفيد الاستمرارية، فالثقافة العربية مشحونةٌ بتتابع الانفصام الخطابي كما في السياسة والخطابات المتداولة. كانت نتيجتها تفريغ القول في حياتنا العامة من أي عمل. فعلى سبيل التأكيد، كان هناك بالمثل انفصام الشعراء ببلاغتهم عن الواقع:" ألم ترَ أنَّهم في كل وادٍ يهيمون، وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون"(الشعراء/225، 226). يظهر هذا بارزاً إذا عرفنا أنَّ الشعر كان أبجدية خلق الأشياء مع الأساطير. وأيضاً كانت الأشعار شكلاً أولياً لكيفية التعامل مع الكائنات والطبيعة، وقد ظلت تلك السمة عالقة به ومُلِّحة في طرح أساليب شعرية ابداعية.

لهذا بقي حكام العرب وسلاطينهم وملوكهم مرتعبين من الأشعار بحكم دورها التاريخي. فكان رد الفعل( لا الفعل بطبيعة الحال) فتح قصورهم كحظائر لخصيان اللغة؛ أي لهؤلاء الشعراء المدجنين الذين يلهجون بعبارات المديح والفخر والحماسة والتزلف وإراقة ماء الوجه. وكم جاء وصفهم بالفحول، فحول الشعراء الذين يستعملون فحول الألفاظ. بينما وضعهم الثقافي يشي بإبطال مفعول اللغة واقعياً. وبلمسة تعويضية جاء في وصف أجمل التعبيرات كما يقول ابن سيرين: " ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً"، لكن الواقع شيء منافٍ لهذا تماماً. لقد كان الاختباء في الاستعارات والجناس والسجع حيلة للهروب من الخِصاء السلطوي الرمزي.

علاوة على ذلك وُجدَ في أرشيف الثقافة انفصامُ القول السياسي عن الحال الاجتماعي. وكان هذا النوع عميقَ الأثر في الذاكرة العربية. فالسياسة لا ترضى بديلاً عن خطاب الأمر، عن طريق تصريف الأشياء بما يخدم مصالح الأنظمة الحاكمة. وبخاصة أن رموزها تحتل مركز اللغة التي يُتَحدث بها في المجالات العامة. ترتب على ذلك ازدواجية الخطاب بين المعلَّن والخفي بحسب انفصام الكلام عن الفعل. وسلطة الحاكم العربي نفسه هي من بثت تلك الازدواجية في اللغة. ونتيجة الممارسات المزدوجة جعلتها في حالة تضخم دون قيمةٍ لها في الحياة. فبعض التضخم الاقتصادي أنْ تغرق أيدي الناس بأرقام النقود بلا قيمة تقابلها من إنتاجٍ ولا عملٍ، وهو دليل على فراغ الأرقام من مؤشراتها. وعلى المنوال نفسه أفرز تضخُم الخطاب بهذا المدلول تضخُماً في القيم وعبارات الترحيب والكلمات الوثيرة بينما يضمر قائلُّها تزلفاً وعداءً لا ينفدان.

ليس ذلك الانفصام على مستوى القاعدة الاجتماعية، بل قلّما ينجو منه حاكم عربي واحد. فالأقوال السياسية تمثل مسحوقاً لمحو أي أثر للفعل، حتى أنها تسعى لطمس التوقُع بوجوده. يحدث هذا مع إنبات أجنحة لكلام الخطاب طيراناً دون هبوط وتحليقاً بلا توقف. فلكم همَّ حاكمٌ سياسي ليميّع أي التزام قد يربطه بشعبه بمجرد إلقاء الخطاب. لقد ارتبط الخطاب في التاريخ السياسي العربي بهذه المعاني التي لا تدل على شيء، وبهذه الوعود المقطوعة دون ضمان. حتى اُشيع القول التاريخي الدارج إذا أراد حاكم عربي أنْ يكذب على الناس نهض لإلقاء خطاب أو لإصدار بيانٍ. فالكلام عادةً مهُول اللفظ بينما يتأرجح الواقع مع المجهول. أكثر الأسرار علناً في حياة العرب كلام الخطاب مُنعدِم الحقيقة، هو سر معلَّن. لأننا نتعامل معه تلقائياً بوصفه شيئاً مسلّماً به. لم يناقشه المجتمع على نطاقٍ واسع، ولم يعترض عليه الأفراد إنما ضُمَّ إلى معتقداتنا اليومية. فأصبح الواقع خُرافةً، لأنَّه واقع اللغة الكذوبة لا حال الواقع الفعلي.

هكذا آية أخرى تنبث في أرشيف الثقافة:" كبُرَ مقتاً عند الله أنْ تقولوا ما لا تفعلون"(الصف/3). كان بإمكان الآية القول كبُرَ مقتاً من غير الاسناد الميتافيزيقي(عند الله). وسيغدو الانفصام ممجوجاً بوضوح على الصعيد السلوكي. إلاّ أنها رجعت به إلى مطلق الوجود في الذهنية العربية، إلى الله. ذلك على أساس ضرورة تحمُل مسؤولية القول دون فعلٍ. فهذا إنْ حدث يضيع المسؤولية ويدفع إلى فقدان اللغة لأهميتها التاريخية. حينما قال الله عن نفسه أمراً جللاً أكد: "وإذا قَضَى أمراً فإنما يقول له كن فيكون"(البقرة/ 117).

لم يخبر الله عن ملكوته على إطلاقه، إنما أظهر اللغةً كخالقةٍ للفعل ليس أكثر. لغة القضاء المبرم والمشروط بإرادته المفارقة. فالعظمة إذن ليست في القول مقدساً أم غيره، بل في عملية ترجمة الأقوال إلى أفعالٍ. وبخاصة أن مسؤولية ميلاد اللغة واحدة لدى الفعل الإلهي وعند الفعل الإنساني. لهذا قرن الله مقتاً واقعاً على مزدوجي اللفظ والعمل: بأنَّه مقتٌ عنده وحده، اختص به نفسه نظراً لخصوصية العلاقة بين الخطاب والرسالة. وكم كانت المحاذير من تفكك هذه العلاقة واردة. وفي هذا سأذكر بعض نماذج الخطاب مع هذه العلاقة وكيف تلتئم ويتم معالجتها. وهي خطابات تحول القداسة إلى موضوع إنساني مؤرشف بواسطة حركة اللغة.. لكن كيف يتم ذلك باختلاف الخطابات؟
  • الخطاب الاجتماعي:
تظهر مشكلة هذا الخطاب مع تحولات العلاقة بين الألفاظ والمعاني، نتيجة أن ضياع الرسالة من الكلمات والتلقي معناه تكريس حالة الأنوميanomy كما أسماها إميل دوركايم. أي فوضى اللا معايير non- norms وتفسُّخ منظومة القيم من جراء تناقض الأهداف وعدم إمكانية بلوغها. الأمر الذي يسبب اغتراباً عن الواقع أثناء التواصل مع الآخرين. إنّ المجتمع خطاب ورسالة تمشياً مع نظام اللغة، والسر كل السر في هذا الارتباط بين المعنى والحقائق المشار إليها. واللعنة الاجتماعية (المقت الدنيوي) ستُلاحق من يتلاعب بالخطاب في المجال العام. مع أنَّ هناك دوماً من يتلاعب بالكلمات ولن يكف عن ذلك. وإيراد الآية السالفة لفعل القول بصيغة الجمع" أنْ تقولوا مالا تفعلون" يفيد وضعاً جمعياً لاحقاً بمنطوق الناس. فالترقب الإلهي بمقتضى "عند الله" يدل على أحد أسرار المجتمع العربي من جهة التباين الجمعي للأقوال وانفصالها عن الأحوال. لهذا يمثل الخطاب الاجتماعي شفرات الوضع الاجتماعي تراكماً وإنتاجاً لعلاقاته.

لا يخلو مجتمعٌ من خطابٍ اجتماعي يبرر وجوده وتفاعلاته. أمَّا الأكثر إدهاشاً أنَّه يعطي الناس خيالاً بديلاً حينما يعجز الواقعُ عن الإيفاء بمتطلباتهم. إنَّ عبارات وسرديات تاريخية، سواء أكانت مآثر لرجال أو جارية على ألسنة أبطال، تهدهد مصيراً اجتماعياً مشتركاً أكثر مما تؤجج نوازع التناحر. ليست القضية في خطابٍ يمتحُ من تراثه الاجتماعي الممتد، لكن لماذا يملأ الخطاب ثغرات الواقع، لماذا يعيش فيه الأفراد أحياناً مع كامل حياتهم؟ لا ريب أنَّ مفردات خطابٍ كهذا تنزل منهم منزلة المجتمع ذاته. ولهذا تستقبل المفردات خبراتَّهم وتأويلاتهم للحياة والكون. لأنّ الخطاب هو ذاكرة جمعية قيد اللغة وحضورها الفاعل.

لربما يُقال إنَّ الامثال الشعبية عبارات حملت عصارة تجربة الحياة. غير أنها فوق ذلك تتحين نتائج التاريخ، تفتح اللاوعي على احتمالات ألاَّ يوجد الإنسان دون تجارب ماضيهِ. فمع أنها تجارب لم يعشها هو بالطبع لكنها تسكن اللغة على نطاق عام وتعيد توجيه ذاكرته نحو ما ينساه. وعلى افتراض أنَّ هذا الإنسان ينسى فلن ينسى المجتمع. لأنَّ كلاماً كتلك العبارات يُنطق جمعاً لا فرداً. وبالرغم من طرح الأمثال تبعاً للمواقف الاجتماعية إلاَّ أنَّ التعبير ينفلت نحو تكرار المعنى الكلي. فيبدو كأنَّه يضع المجتمعَ أمام تاريخه المتناقض.

إذن الخطاب الاجتماعي له سلطة المجتمع. ويدور مع حقائقه الإنسانية دورات بلاغية داخل معجم الحياة مع نزوله إلى الممارسة الثقافية. من ثم ما لم نمتلك القدرة على حل خيوط هذا الخطاب بواسطة فهم المجتمع لن نفهم تشابك معالمه وقوانين توصيله للمعنى. فالخطاب يبلغ من التعقيد درجة تمكنه من صناعة قوانينه الخاصة. وذلك يشكل الخطر الذي يعين المقدسات عن طريق تنويع دلالة المركزية وبذر الاختلاف على نطاق واسع.

وليس صحيحاً تصنيف الخطابات داخل قوالب جاهزة مع تجاهل حواشيها الاجتماعية. فلو تمَّ ذلك لن تقبل اللغةُ ارتياد المواقع الثقافية التي نرصدها للمعاني. فلكل مجتمع، بل لكل طائفة وبالقطع لكل جماعة، دلالات لكلماتها على معانٍ لا تُعطى لها من أول وهلة. ربما يعترض قارئ قائلاً: إنّ الأفراد العاديين يفهمون الكلمات تلقائياً. هذا صحيح وغير صحيح معاً. صحيحٌ لأنَّ الكلمات لها جانبها الاجتماعي التواصلي. وكما يؤكد هابرماس أنَّه الجانب الأكثر إجراءً. ويتجلى من حينه في عبارات الحوار العملي practical dialogue. هو كذلك حيث تُطرح الكلمات بمقدار إيقاعها السريع أثناء العلاقة بين الأفراد. مع هذا كله فالاعتراض السابق غير صحيحٍ بالمثل. إذ لا تتمكن الكلمات ذاتها من نقل كامل المعاني. إنها مشبعة بتاريخ حي من الحركة والالتفاف والمقصود وغير المقصود والمأمول والمحْبَط لأن كل هذا في حياتنا الاجتماعية. وحالما يتم فهمها من جانب يغيب الجانب الآخر.
* الخطاب السياسي:
يختزن هذا الخطاب معاني أبعد من أهداف الأفراد. عادة حين يعبر الفرد تسقط الكلمات تحت قامته كحال ظلاله القريبة. وقد تكتفي الكلمات بالأغراض النوعية في عمله وحياته وعلاقاته الاجتماعية. لكن ماذا يجب أن يتوافر للكلمة حتى تكون مؤثرةً كلياً؟ السياسية ليست سلوكاً ولا فعلاً اعتيادياً. ولا بمعنى ساس يسوس كما هو مشهور بالمعاجم العربية. إنها إدارة ما لا ينتمي للفرد، وهذا اللا منتمي عصي على الاحتواء والتقديس. وإلا فإنه لو أصبح منتمياً لشخص أو لسلطة ما، لغدا موضوعاً للقهر. فالإنسان يصل إليه بكافة طاقاته، بمزيجها معاً، يبلغه الخيال المنفلت من قبضته قبل أي شيء.

السياسية في هذا قرينة الانفلات على صعيد الكلام والمعنى. لأننا نتلقى الكلمات لا بملكة الفهم، إنما بأنف التوجس والريبة. هل نحاول تغيير مراكز التلقي العادي حتى نرى ما سينتج؟ بالفعل لأن الخطاب السياسي يدعونا إلى استقبال كلماته بمزيج من الحواس كما صيغ هو بمزيجها المتناقض. فهو يدخل إلى وعينا ولا وعينا معاً، إلى عواطفنا وحواسنا، إلى رؤيتنا وذاكرتنا معاً. ولئن كنا نقف على قدمين ثابتتين، سرعان يطرحنا أرضاً واقفين على شعورناً. على كل أعصابنا إذ تصلنا العبارات بأعصاب المجتمع آخذين منه ومتربصين تجاهه.

بهذا تتماثل السياسة مع عمل نظام اللغة كذلك. فالاثنتان تشبعان خيالاً جمُوحاً. بالتالي يترك هذا الارتباط بينهما أثره التحويلي على الخطاب السياسي. وإذا كانت اللغة قوة من جهة التعبير، لأنها تسمح بسريان الطاقات الإنسانية وتشكيلها في الواقع، فإنَّ معاني الخطاب السياسي تلعب على هذا الوتر الحساس. كانت السياسة ومازالت تستعمل الخطاب كأداة لإنجاز دهائها حتى في أشد مراحلها وضوحاً. اللغة بالنسبة إليها ليست مهمة فقط، بل تعطيها مناورات دلالية لتحقيق استراتيجياتها. كما أن اللغة بمثابة الفضاء الذي تنكشف خلاله الأشياء، فتبدو موجودة كما لو كانت لم تُوجد من قبل. إنها مجال الأليثيا aletheia، أو اللاتحجب عند هيدجر.

فلو لم يستطع الخطاب السياسي تسريب المعاني غير المقُولة بشكلٍ مباشر ما كان ليهيمن على العقل الجمعي. فالخطاب يملأ فضاءً يتوزع فيه الأفراد. أليست كلمات مثل "المواطن"، "الحرية"، "الديمقراطية"، "العدالة"، " المساواة " تفتح آفاق الخيال. كلمات هذا الخطاب المسيّس تقطع دون عنف، تقتل دونما موت. إنه بالتالي خطاب الرغبة في امتلاك الآخر.

بناء على ذلك يحتفظ الخطاب السياسي بأسرار التفكير الجمعي. كيف يُدار وكيف يُؤلف صراعاً من أجل الاستحواذ على الواقع. ولماذا يُرسِب وجودَّه الخاص بخلاف المتعارف عليه. ليس للخطاب السياسي توصيف لغوي أكثر من "الحرب والحيلة والمكيدة". فيمكنه تحريك الجموع بها. ويمكنه اشباعهم كلاماً في كلام، وبإمكانه حل المشكلات بذات الطريقة. فالخطاب السياسي يحدوه حلم قديم قدم الإنسان الأول، حلم "خلق" الأشياء بعباراته، وهو تلك اللغة الأسطورية التي تحدثنا عنها.

* الخطاب الصوفي:
هو تجربة نطق المقدس داخل وجود الذات المحدود(أي المطلق والنسبي). أي محاولة ذاتية لالتئام (القول مع الفعل) على ذات المستوى من الإيمان. وما قِيلّت العبارةُ في مجال التصوف إلا لتأويل السر، هذه الأنفاس الإنسانية – باصطلاح الصوفية- مع المطلق. ويوجد السر حيث انفتاح الروح على اللامتناهي. فالسؤال البارز: كيف يعبر المتصوف عن أحواله وغيباته مع كونه إنساناً؟ إما أنَّه لا يجد مخرجاً غيرَ اللغة، فيبثها فيوضاته و لوعاته مع الأسرار. وإما أنه يعبر عما يحمل، فتغدو عباراته طلسماً بحكم كونه يكابد بكيانه كله لا بحاسةٍ ولا بملكةٍ مفردة.
فيصبح التعبير لدي المتصوف باللا تعبير. والمعنى باللا معنى. والحقيقة باللا حقيقة. أي محاولة التعبير كما نعرف باللا تعبير كما يعْرف. وبالمعنى كما ندرك باللا معنى كما يكابد. وبالحقيقة كما نظن باللا حقيقة كما يتيقن. إذ ذاك يبدو اللغز الأكبر: كيف يجعل المتصوف كلماته كلاماً غير عادي شريطة الالتزام بوجود اللغة؟ أي كيف يعبر باللغة عما تعجز عنه هذه اللغة ذاتها؟ إذن لا مفر من تحويل اللغة إلى رموزٍ وعلاماتٍ وشفرات.. ذلك برغم أنَّ كلمات التصوف بمفردها كلماتٌ قد تكون مفهومةً.

نحن نعرف أنَّ التعبير باللغة يخضع عادة للتفكير أو الحس أو الخيال أو الشعور، لكن ماذا لو كان الشخص المُعبِر يتكلم بجميع تلك الطاقات في نفْس واحد، في لحظة واحدة وفي استغراق كامل بلا تمييز. أكيد تاريخية اللغة لن تقوى على ممارسة هذا التعبير الخاص. لأنَّه أين سيعثر المتصوف على عبارات في قواميس اللغة كي ينقل ذلك الكيان اللا كيان؟ بأية وسيلة سيدمج المنفصل وسيفصل المتصل؟ إنَّ لحظات اتصال المتصوف بالأسرار- على ما يظن- هي لحظات مطلقة، حيث يقْصُر الكون ذاته عن احتوائها وعن الاحساس بها. هي لحظات كل الزمن وخارج الزمن، أي كل الكل وفوق الكل.

هكذا لا يكتب المتصوف وإن حَبّرَ آلاف الصفحات كما فعل ابن عربي. ولا يجرب موتاً وإن صُلِّب وقُطع أشلاءً كما حدث مع الحلاج. لأن الموت بألف ولام التعريف يعيش فيه مع اللغة التي هي وجوده، ومع التجربة التي هي سره. حياته وكلماته ميتات متواصلة لا تنقطع، كيف يموت من هو ميت؟ كيف يحيى من هو في مطلق حياته؟ فهل نتخيل أن هناك سراً وراء السر الصوفي بالنسبة لصاحب الفتوحات الإلهية؟

إنَّ لغة المتصوف لهي الأسرار ذاتها. لأنَّ الميزة الأساسية في اللغة بوصفها خالقة توجد في أبجدية التجارب الصوفية كما في الدين إجمالاً. أي انعدام الفاصلة بين الكاف والنون كما يتراءيان لكيانها. إذن الخطاب الصوفي هو "قيامة اللغة" في الحياة الدنيا بعبارات دينية. فاللغة كما نعرفها وكما نتوسل بها أصبحت هي الصاعقة، هي الصاخة حيث الانفتاح على مشاهدة المجهول.

إنَّ التعبير الصوفي ليس سوى جسد التجربة الصوفية ذاتها. حيث لا مسافة، لا حركة، لا مباعدة من غير اقتناص المستحيل( تجربة الوجود المطلق). لهذا لا يكتب المتصوف مثلما قلنا إنما ينكتب دون بداية ولا نهاية. إنَّه القلم والحرف والخط والكراس والمِداد، إنَّه اللفظ والمعنى، الوجود والموجود. أقرب دلالة على ذلك: أنَّ القلب هو العين هو الجسد مثلما أن العاشق هو المعشوق. ومن ثم ليست المسألة في الخطاب الصوفي حلولاً ولا اتحاداً، إنما هي جوهر الخلق اللغوي. تلك الحالة التي تفوق الوصف مهما تكن أدواته وعباراته. ويتحول السر إلى جوهر اللغة. لأنَّ التطور الخالق بمصطلح برجسون تمثَّل في المخلوق، والطبيعة الطابعة هي الطبيعة المطبوعة بعبارة سبينوزا. المتصوف أثناء مراحل تجربته لا يتقادم في الزمن، ولا في الوجود، لكنه يبقى دوماً قيد الماهية. إذ لا يعرف كنهها على الرغم من أنها هو. الخطاب الصوفي يعبر عن تلك الماهية بكل تجلياتها. والسر هو الشيء غير القابل للترجمة فما بالنا بفحواه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى