محمد الخولي - الشاعر وابن خالته

لعلك تذكر اللقب الذي خلعوه علينا, أو خلعناه نحن على أنفسنا سيان، لقب الباحث الكاتب وقد كان محورا لأكثر من سطور في هذه الزاوية التي نبثك فيها نجوى من حديث. فأما حكاية الباحث فقد أوفيناها حقها عندما طفنا نبحث في حواري القاهرة ومسالكها عن كتاب (المصون في سر الهوى المكنون) لأبى اسحق الحصري القيرواني وتكلل البحث الدؤوب بالعثور على نسختين من الكتاب في شارع الفجالة قرب ميدان رمسيس في عاصمة مصر المحروسة، بعثنا منها نسخة الى الصديق العزيز جدا الذي طلبها من دبي طبعا على حسابنا الخاص كما لا يخفى على فطنتك.. واحتفظنا بنسخة لنا هي التي لا نفتأ نحيل ونرجع اليها في السطور التي تقرأ في هذه اللحظات، وأما لقب الكاتب فهو الذي حفزنا حسب أصول الصنعة على أن نراجع ترجمة العم (أبو اسحق) صاحب الكتاب.. وقد كان بداهة يسكن القيروان.. من أعمال تونس أو في ولاية أفريقية الزاهرة منذ أن فتحها القائد الشجاع عقبة بن نافع أمام عقيدة وحضارة الاسلام والعروبة ثم أنه كان من ناحية الحرفة مشتغلا بصناعة الحُصر.. طبعا على سبيل تأمين نفسه وقوت عياله ازاء تقلبات حرفة الأدب والفكر التي لم تكن ولعلها حتى الآن, تؤكل عيشا أو تقيم أودا. مثله في ذلك مثل الحريري بائع القماش، والماوردي صانع العطور، وكان الأول مبدعا في نثر المقامات، فيما كان الثاني أستاذا في علم السياسة وأصول الحكم.
لم يؤثر عن ابي أسحق القيرواني ماركة مسجلة في أصناف الحصر، ولكن أثرت عنه كتاباته التي يأتي في مقدمتها مصنفه الأشهر بعنوان (زهر الآداب وثمر الألباب) الذي ألفه وأصدره عام 450 للهجرة.. الى قبل رحيله الى عالم الخلود بثلاث سنوات فقط.. وهو من الكتب الأمهات وله طبعة اضافية صدرت بتحقيق الدكاترة زكي مبارك رحمة الله عليه، وقد صادفت هذا الكتاب شخصيا وأنا صبي في أولى مراحل الثانوية إذ كنت أختلف الى دكان قريب لي يعمل في تجارة الغلال.. وحدث أن أشترى قريبي العم ابراهيم كمية من الورق القديم طبعا من بائع الروبابيكيا الذي يتاجر في سقط المتاع لكي يلف فيه الحبوب التي يبيعها للزبائن.. ولما كان قريبه كاتب السطور.. صبيا طُلعة فضوليا.. فقد كان همّه الأول أن يقلب في الأوراق العتيقة ليعثر بينها على ملازم جيدة الطباعة فيها كلام من نثر وشعر ومأثورات وحكايات، وسمح العم ابراهيم للصبي بجمع أشتات الملازم المطبوعة والاحتفاظ بها، فلم تكن قد كلفته سوى دراهم معدودات.. وظل الصبي يقرأ ويستمتع, وظلت حافظته تتشرب المنظوم والمنثور.. ولم يكن يدري وقتها أنه اقتنى بصدفة بسيطة وسعيدة كتاب زهر الآداب لأبي اسحق الحصري القيرواني. مع ذلك فقد ظل الصبي على خطأ لازمه عقودا من السنين إذ كان يتصور منذ تلك الأيام الباكرة أن أبا اسحق الحصري هذا هو صاحب إحدى غرر القصائد في الشعر العربي بمطلعها الشهير:
يا ليل, الصَبّ متى غُده = أقيامُ الساعة موعِدُه
رقد السمّار وأرّقه = أسفٌ للبيْن يُردده
وإذ كانت تتاح له فرصة الحديث أمام ميكروفون الاذاعة أو الاستضافة أمام عدسات التلفاز ظل صاحبنا كاتب السطور حتى لا ننسى يمعن في هذا الخطأ الموروث من فجر الصبا وينسب الدالية الجميلة الشهيرة الى أبي اسحق إياه.. وما كان له أن يصحح هذا الخطأ إلا بعد أن عمد بحكم الصنعة كما أسلفنا الى مراجعة ترجمة الأديب القيرواني الكبير في قاموس الاعلام لخير الدين الزركلي فإذا به يعلم, والمرء دائما يتعلم أن القصيدة كتبها حصري آخر وقيرواني آخر اسمه أبو الحسن القيرواني، وهو بالمناسبة أيضا ابن خالة القيرواني الأول صاحب زهر الآداب, وصاحب الكتاب الذي أثار هذه الشجون وتكلف مؤونة هذه الشئون ما بين دبي والقاهرة وبالعكس ومع ذلك فلقد نغفر لأنفسنا هذا الخطأ الذي ظلننا ننشره ونذيعه على الملأ من الناس وعذرنا أن القصيدة لم تخرج عن أبناء الخالة في عائلة كان أفرادها يتعاطون صناعة الحصر في القيروان . وبالمناسبة أيضا فقصيدة يا ليل الصّب متى غده شغف بها الناظمون على امتداد تاريخ الثقافة العربية (مازال صوت فيروز يرن في سمعنا رقيقا وجميلا مثل قطر ندى وهي تشدو في أندلسياتها بمطلع دالية الحصري, وها هي الذاكرة تستدعي العلم من أعماق الزمن معارضات للدالية.. منها معارضة كتبها نجم الدين القمراوي وقال فيها:
قل ملّ مريضَك عُوّدُه = ورثي لأسيرك حُسّدُه
لكن الدكاترة زكي مبارك يعلي من شأن معارضة أمير شعراء زماننا أحمد شوقي بمطلعها الشهير.
مضناكَ جفاه مرقده = وبكاه ورَحَّم عُوّدُه
حيران القلب معذَّبُه = مقروحُ الجفن مُسَهّده
ولا يخفى على ذوقك أيضا أن القصيدة من الشعر الصوفي المتوسل بايقاع الغزل الجميل، قصيدة أحمد شوقي تتألف من 27 بيتا اختار الموسيقار محمد عبدالوهاب 15 بيتا منها وضع لها لحنا رائعا وجليلا من مقام الحجاز كار كما نذكر وغنّاها عام 1944 ولها طبعتان كما قد نقول.. الأولى بمصاحبة الأوركسترا ومدتها 9 دقائق وتذاع من اذاعات القاهرة من واقع أسطوانة، والثانية تصل الى نوع 17 دقيقة، ويقال أن الفنان الكبير سجلها لاذاعة دمشق في أواخر الأربعينيات وغناها بمصاحبة عوده، وهي النسخة أو الطبعة المفضلة لدينا لأن عبدالوهاب تسلطن فيها وجاء بأفانين مبدعة في أسلوب الاداء اللحني والنغمي يجمع فيه بين الاناقة في النطق والالتزام بمعمار اللحن والارتجال المحسوب أو هو التصرف الوظيفي الدقيق في الترجيع والتطريب ورغم أن عبدالوهاب كان يتمتع بذائقة فنية ممتازة عند اختياره الأبيات التي يغنيها.. ولم يكن يتورع, شأنه شأن أم كلثوم عن مشاورة كبار شعراء العصر فيما يختارون وفيما يدعون.. وكان منهم مثلا أحمد رامي (راجع مسلسل أم كلثوم) وعزيز أباظة إلا أن عبدالوهاب فاته في رأينا أبيات جميلة حفلت بها الدالية على النحو المنشور في الجزء الثاني (ص122) من الشوقيات.. مثلا.. يقول شوقي:
يستهوي الوُرْق تأوهه = ويذيب الصخر تنّهده
ويناجي النجم ويتعبه = ويقيم الليل ويقعده
ويعلم كل مطوقة = شجنا في الدوح تردده
الأخ عبدالوهاب يتغنى بالبيتين الأول والثاني ولكنه يحذف البيت الثالث.. رغم أنه كما نرى يكمل المعنى المنساب متدفقا في عذوبة فضلا عن احتوائه على كلمات من قبيل: مطوقة وشجن ودوح.. وتردده وكلها ألفاظ ذات ايقاع موسيقي فضلا عن الشحنة الشعرية الرومانسية في كلمة شجن بحد ذاتها.. ناهيك عن المعنى المبتكر الذي يصنع من العاشق أستاذا في فن الشجن هو الذي يعلم الهديل للحمائم الساجعات المطوقات. وعندنا أن العم أحمد شوقي كان شغوفا بحكاية الحمائم النائحات الساجعات.. وهو لذلك يبدأ نونيته الشهيرة التي كتبها معارضا ابن زيدون ببيت يتساءل فيه شوقي مخاطبا حمائم وادي الطلح في أشبيلية:
يا نائَح الطلْح = أشباهٌ عوادينا
نشجى لواديك = أمْ نأسى لوادينا؟
قال الراوي: كتب شوقي هذه القصيدة إذ كان يعاني عذابات المنفى بعد أن نفاه الانجليز المستعمرون عام 1917 الى الأندلس حيث أمضى سنوات هناك.. وكم كنا نقرأ هذا الكلام في مرحلة الشاب ولقد خالطنا قدر لا بأس به من الغيظ بل الاستفزاز. لم يكن الحظ قد حالفنا أيامها كي نزور أي بلد لا في الخارج ولا في الداخل.. وكنا نقرأ عن جنة الأندلس بأنهارها وجمالها ومعانيها ورياضها ومتعة الحياة فيها.. هناك أرسلوا شوقي بيه ومعه خدم وحاشية وأعوان.. فكيف يكون هذا كله منفى يكابد المرء فيه العذابات؟ مع ذلك.. فقد أحسن عبدالوهاب.. أو أحسن مستشاروه الشعريون عندما استبعدوا أبياتا من دالية شوقي اياها.. صحيح أن الأربعينيات من القرن الماضي كانت الى حد كبير عقدا ليبراليا فيه قدر لا بأس به من الترخص أو البحبحة أو المسامحة على أساس أن أعذب الشعر أكذبه، وأن للشعراء رخصة في التعبير من حيث المبالغة أو المخالفة أو الايغال أو الخروج على المألوف. إلا أن عبدالوهاب كان فنانا أريبا حنكته التجارب فأصبح حذرا (متودكا) كما يقول المصريون. ولم يكن صدفة أن غنى في قصيدته بيتين من شوقي ثم استبعد الأبيات الثلاثة التي تلتها وهي طبعا ما زالت منشورة في ديوان الشوقيات.. و.. خذ عندك:
جَحَدتْ عيناك زكيَّ دمي = أكذلك خدّك يجحده؟
قد عَّز شُهودي إذ رمقا = فأشرتُ لخدّك أُشْهده
وهممت بجيدك أُشركه = فأبى, واستكبر أصْيَده
وهززتُ قوامك الطفه = فنبا, وتمنَّع أملُده
سبب لرضاك أُمهده = ما بال الخصر يعقّده؟
ولا يتبادرن الى ذهنك ــ أرجوك ــ أن الأربعينيات كانت عقدا منفلتا: الانفلات كان بصراحة في عقد العشرينيات.. وربما منذ عام 1914 مع اندلاع الحرب العالمية الأولى بكل ما يرتبط بالحرب من سلوكيات عدمية وأخلاقيات نابية وانقلاب في الأوضاع والأخلاق.. يومها ــ يا مولانا ــ لم يتورعوا عن (ارتكاب أغان من قبيل أرخى الستارة أو (الخلاعة والدلاعة مذهبي).. وتلك قصة طويلة لن نحكيها لك في الحديث التالي.. لأننا سوف نخصصه لتناول الكتاب الذي أثار كل هذه الشجون والسوانح والذكريات كتاب (المصون في سر.. الى آخره) فالى لقاء..
أعلى