ماجد سليمان - الفصل السادس من رواية: عينٌ حمِئَة

الفصل السادس من رواية: عينٌ حمِئَة
يَرقدُ في زاوية السجن التي انحرف عنها الضوء النحاسي الداخل من نافذة أُحكمت بحديدٍ صَدئ، سجينٌ حسبته في طريقة نومه كلباً مجدوراً، ففي كل لحظة يَحكُّ أعضاءه، وينتفض ويئن.
بعد أن طُويت أسرار منتصف الليل، صحوت على صوت سُعاله، نهضت رامياً بصري إليه، رأيته وهو يُسعل كأنَّ أحشاءه ستخرج من بطنه من شِدَّة السُعال، أتى لحظتها صوت صرير مفاصل باب السجن سريعة، حين دخل الحارس وألقمه عبوّة ماء على ما أظن، وحين هدأ سُعاله انحرف ضوء النافذة أكثر. لقد مال القمر الذي اختلط ضوؤه بضوء مصباح السجن المعلّق جانب النافذة.
أدار سيجارته وأيقظ بشعلتها يباس نفسي، وشاهدت وجهه عبر الثواني التي اختلسها لبثِّ الروح في سيجارته، كان ذا ذقنٍ طويلةٍ بعض الشيء، وأجفانٍ مُتهدّلة من حرارة الأسى، وحاجبين مغزولين. كان العَرَق قد تكسّر على أكتافه وجانبي ظهره، ما برح الليل يقطر سُمرة داكنة، وأنا لم أنسَ دمع مناديلي، كان عَلَيَّ أن أكون صبوراً أكثر من أي وقت مضى، أضجعت جسدي النحيل لمعاودة النوم، لقد نامت عيناي دون قلبي.
حلمت على ما أظن أنني حلمت، بين جدران السجن السوداء ذات الصدوع والأوساخ، وصوت امرأة ينهمر عَلَيّ من أعلى، رفعت رأسي مرعوباً، كان منظراً مَهُولاً: امرأة عارية معلّقة من أثدائها بخطاطيف فولاذية، أحشاءها تتدلّى من فوق سُرّتها كان صراخاً يَدُكُّ أرض روحي دَكّاً، لم أتَنبّه لخيوط دمعي التي قَطَعَت أخاديد وجهي، وقفتُ فَزِعاً حاولت الهرب، ولكن من أين؟، ضوء النافذة بدى شحيحاً، أُحسّ أن أنفاسي الشديدة سَتَخْلَعُ معها ضلوع صدري من شِدَّة شهيقها.
سِرْتُ خطوتين فانزلقتُ في ماء أحدثه تَسَرّبٌ يقطر من السقف البالي، ارتطمتْ مؤخرة رأسي بأرضية السجن، صحوت من نومي غير مصدّقٍ أنني كنت أحلم فعلاً، قَلَّبت بصري في المكان، ما زال ذلك الكلب المجدور ينهش بيديه أعضاءه، وأنينه ما بَرِحَ مُتواصلاً حتّى الساعة، أُحسُّ أن رئتيَّ بلا هواء كأنها معصورة بقبضة السجّان، جاهدت أنفاسي الثقيلة لتعود طبيعيّة كما هي، انفتح باب السجن مرّة أخرى، صوت الخطى يقترب من السجين الرابض في الزاوية الأشدّ ظلاماً، ارتفعت قدم السجّان اليمنى لتقطر منه بضع قطرات من بقعة الماء التي وطئها حين دخل، ثم رَفَسَ بها جنب السجين لتأتي صيحته مُتقطّعة من بين فكّيه، أرجفه صوت السجّان صارخاً:
ــــ انهض
ــــ كح، كح، ححح
قَبَض عليه من رقبته وصاح في وجهه:
ــــ الساعة التاسعة صباحاً سينفصل رأسك عن جسدك، سيأخذونك إلى حيث يُقتصُّ منك، أيها القاتل.
ثم بصق في وجهه، ونهض ذاهباً مغلقاً الباب بحقد، أطلت النظر فيه، أحسست بجفاف حلقي، وحُرقة تضرب أجفاني، الكرة الحديديّة المشدودة إلى قدمه، سرير الخشب الذي تبيت فيه الأرضة، الجدران الأربعة العارية، السقف الغاضب، قدماه اللتان أكلتهما الشُقُوق من جفاف السجن، كلها تمَجُّه بغضب، لقد كانت الموتة الصغرى أنفذ من الكبرى فَمَدَّت أناملها لتغلق أجفانه على آخر مشهد من فواجع الحياة.
* * *​
طَبَعَ الصباح نوراً باهتاً في زاوية السجن جَلَسَ السجين وَدَعَك عينيه بشدّة ثم نظر فيّ وقال:
ــــ ما اسمك؟
ــــ . . . . . . .
ــــ لا لوم عليك فالمرء ينسى من هو في هذا المكان.
بعد سكوت ليس بالطويل سألته:
ــــ ما قضيّتك؟
عدّل من لباسه الرّث، ثم نهض واقترب مني وجلس ليس ببعيد، اخرج ولّاعته وسيجارته، وقال:
ــــ هذا السَّجّان لم يكن كريماً إلا بالسجائر فقط.
ــــ تصرّف غريب.
ــــ لا ليس بغريب، فهو يقدمه لي مقابل أن يأخذ نصفه، وذلك حين يحضره لي أصحابي أثناء الزيارة.
قرأت الرضى في عينيه، ظننت أن رائحة فمه لو مرّت على أنف حصان لقتلته.
وفي الضحى حين ارتكزت الشمس بحرقتها، انطفأ قلبه، فنقلوه ميتاً بالسكتة القلبيّة.
* * *​
في سجنٍ مظلمٍ كأنه زريبة خنازير، تتقابل أجساد السجناء ككتلٍ مُتعفنةٍ، يقبع سجينٌ تحت الجدار كفأرٍ نجس، يَتَصاعد نفَسُه ويهبط، وجهٌ مجدور بالغضب، ومحفورٌ بالهموم، وصورة زوجته وأبنائه مزروعة في ذاكرته.
تَفَرّست عيناه في السجين الذي يحفر في الأسمنت بقطعة معدنيّة صغيرة تضيء كلما ارتطم بها الضوء القادم من نافذة السجن، تأمّل القطعة وهي تُحدثُ النحت في الجدار، وكأنَّه ينحت في قلبه، أدار وجهه للباب، بَلَعَ ريقه المرَّ بصعوبة وارتخت شفته السفلى، إن الباب ضوء الإفراج، ومَمَرّ الخارجين إلى الحياة.
وقبل أن تتفجّر أضواء الفجر، تهادى إلى سمعه صوت مفتاحٍ يولج في الباب، ارتفع جفناه قليلاً، دخل السجّان ونادى بصوتٍ خشنٍ ثقيل:
ــــ أنت.
نَهَضَ وظهره يَحُكُّ الجدار الصامت خلفه حتّى استوى واقفاً، وأجاب بصوتٍ رخيم:
ــــ نعم
ــــ تعال
تَلَفَّت في زملائه السجناء، ثم اقتاده السجّان بعد أن أحكم بمعصمه القيد الحديديّ الذي تقشّر عنه الدهان الفضيّ، سعى به بين ممرٍّ ضيقٍ بالكاد يقف الرجل بجانب الرجل الآخر، صوت ماءٍ يخرُّ من سقوف الزنازين، راح يحفر في تجاعيد ذاكرته، وينقر منقارُ الندم ذاتَه المجلودة.
كنت أنتظر الموت ليجالسني في زنزانتي قبل أن يبتلعني، أريد أن أأتمنه على ذكرياتي، كنت أكرع أقداحه دون توقّف لكنني لم أَمُت، حاولت أن أهمس في سمعه بوصيَّتي لكنه لم يأتِ.
الزنازين، غرف الأحياء الأموات، أُحسُّ بأجفاني ثقيلة لا أستطيع رفعها عن عيني، صوت أقدام تصل إلى باب الزنزانة، صوت الباب الحديدي ذي الأعمدة الأنبوبيّة الشكل التي أكلها الصدأ يرتطم بالجدار المطلي بالدهان الأسود من الداخل، ليحدث ارتطامه دَويَّاً أفزع بعض السجناء النائمين.
وَقعُ الأقدام يقترب مني، أريد أن أرفع رأسي فلا أستطيع، أجفاني أُحسُّ أنها مُخَاطةٌ، يقترب الصوت، ينخفض الجسد الذي تحمله القدمين، شفاه تدفع أثناء حديثها لي أنفاساً أحرقت شحمة أذني وهي تهمس بهدوء:
ــــ حكموا عليك بالإعدام!
يولد النور من رحم الصباح، وفي ساحة القَصَاص جمهورٌ من المتفرِّجين والمتطفِّلين، أقف أمام سيَّافٍ ضخم الجثَّة يلبس ثوباً أبيضَ ينتظر أن يرسم على بياضه بدمي، وفي أقل من اللحظة تُعصبُ عينيَّ اللتان بالكاد ارتفعت عنهما الأجفان قبل الصباح.
هَبَطت يَدُ السيّاف السميكة على كتفي اليمنى، وأجلسني على ركبتيَّ الباردتين فبدت رقبتي طعاماً طازجاً لشفرة السيف.
يرفع يديه القابضتين على النصاب الذهبيّ، الهدوء يطبع على الساحة، لحظة فقط ويهوي السيف على رقبتي ليذوق طعم عظمي ودمي.
الصمت يُخرس أفواه المتفرِّجين التي كانت تتجاذب خبر اللحظة، وفي أقل من اللحظة أوقفت السيفَ صيحةُ القادم من بين الجموع صائحاً ملء حنجرته:
ــــ أعتقته لوجه الله، أعتقته لوجه الله
فتطاير التهليل والتكبير من الأفواه لتلحق به المناديل والغُتَرُ النائمة على الرؤوس، فعادت أجفاني تُخَاطُ بالدم والدمع.
لم أُصَدِّق ما أسمع، حتّى راحت أصابع السيَّاف تَحِلُّ عصابتي السوداء عن عينيَّ، فجاهدت أجفاني على أن تسمح لبصري بالانطلاق في الحياة من جديد.
بعد أيامٍ فُتح باب الزنزانة ذات الطلاء الأسود الذي رُسِمَت عليه بعض الخرائط الرماديّة، كان صوت صرير الحديد كأغنية الموت:
"انتظرني فأنا لن أنساك"
وَقعُ أقدام الحارس تقترب، ألصق كتفه بكتفي وقال:
ــــ تم الإفراج عنك
إنَّه نَفْسُ الصوت الذي حَمَلَ إليَّ خبر قَصاصي، هي تلك اللكنة التي جاءت برائحة المنيَّة لي قبل أيام، تباشرت كثيراً كأنني لست الذي أُعتق قبل أيام في ساحة القَصَاص، رفعت يدي أتحسَّس ما تركته حرارة العصابة التي دارت على رأسي مغيَّبةً بصري عن الحياة قبل الممات، لمست آثار تَسلّخ الجلد بهوادة، أصابعي تتحسَّس الأماكن المنسلخة حول أجفاني، لكن الحارس لم يعطني الفرصة لأن أُهيئَ نفسي أكثر للعمر الجديد، دَقَّ بقبضته كتفي قائلاً:
ــــ هل أَلِفت البقاء هناء؟!
التفتُّ إليه بسخرية ثم حملت حقيبتي واستقبلتني الدُّنيا مرَّةً ثانية.
أخذت أتلمَّسُ طريقي خارجاً من الموت إلى الدنيا، أُكرِّرُ على نفسي:
"لقد أعاد الله الفرصة كي أعيد حسابات حياتي".
لم أذكر مِن مَن أحببت لقاءهم بعد أن بُعثْتُ للحياة من جديد إلا حسام شقيقي الروحي، ذاك الفتى النحيل، ماضٍ يؤرقني بقداسته، عُصارةُ قهر الحياة وتجريحها، إنه الفجيعة في هيئة إنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.
عينٌ حَمِئَة (رواية)
نُشرت الطبعة الأولى عن دار طوى للنشر والإعلام ــ لندن 2011م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى