د. ملك الصفدي (د. أميرة بدوي) - هل الشعراء كاذبون؟

الكذب الذي نعنيه هنا هو الخداع والغش، كأن يمدح حاكما أو خليفة ويُنزله منزلة الإله كما فعل الشعراء العباسيون، أو يعشق كل يوم امرأة ولا يتوقف قلبه عند حب واحد وهذا يعني عدم الصدق كما كان يحدث في بعض قصائد الغزل من تعدد أسماء المحبوبات، وهذا عند ابن مطير الشاعر المخضرم الذي عاش المرحلتين الأموية والعباسية، لو كان حبه صادقا لتوقف قلبه وعاش على ذكرى محبوبته، ولكن قلبه كان حسب مَن يُقابلها وينسى بها، وهذا يختلف عن الخيال، فالخيال لا يعنى الكذب، عليه أن يتخيل كما يشاء ويعبر عن حالته دون غش وكذب وافتراء، والصدق نجده عند طائفة أخرى من الشعراء، عندما نقرأ أشعار حسان بن ثابت وغيره من الشعراء الذين قاموا بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم_والدفاع عنه، ونجده في الحب أيضا _أعني الحب الصادق الطاهر_كحب قيس بن ذريح للبنى، فقد جعل ديوانه بأكمله للبنى محبوبته الوحيدة الفريدة ولم يتغير شعوره نحوها حتى بعد طلاقه لها وزواجه من غيرها إجبارا وقهرا، فهام على وجهه ليرى زوجته ومن قبل حبيبته الوحيدة إلى أن أدركتها المنية وأدركته بعدها مباشرة حزنا عليها، كما سمعنا من أخبار، أما اليوم فالقليل هم من يتصفون بالصدق في أشعارهم والتعبير عما يختلج في صدورهم .

ولكن هل نُنكر الشعر كله، ونتهم جميع الشعراء بالكذب كما فعل بعض النقاد عندما سمعوا قول الله عز وجل في كتابه العزيز(والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) فكثير من النقاد لم يهتموا في ظل هذه الآية القرآنية الكريمة باستثناء الشعراء الصالحين المؤمنين الذين دافعوا عن النبي العدنان وعن الإسلام الحنيف، ولم يكمل هؤلاء النقاد الآية، فقد قال عنهم المولى عز وجل في آخر الآية نفسها(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلم الذين ظَلموا أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون) وانطلق بعض النقاد إلى وصف جميع الشعراء بالضالين والمشركين، ووصموهم بالتخرُّص والكذب الواقعي، واستند أيضا هؤلاء النقاد إلى حديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات وأجل التسليم، حيث قال (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خيرٌ له من أن يمتلئ شعرا) ولكنهم لم يُكملوا الحديث، حيث قال النبي الكريم في نهايته (خيرٌ له مِن أن يمتلئ شعرا هُجِيتُ به) ولو أكملوا لتغير موقفهم بناءً على الفهم الدقيق لنص الحديث الشريف وقديما قال قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر: لا يُوصف الشاعر بأن يكون صادقا، وإنما عليه إذا أخذ معنىً من المعاني أن يُجيده في وقته الحاضر، وأيضا فسّر عبارة (أعذب الشعر أكذبه ) أو(أحسن الشعر أكذبه ) على أنها المبالغة المحمودة والغلو الذي يهدف إلى الجودة المثالية. فالشاعر الصادق هو الذي يُقدم الأشياء كما كانت، أو كما يُحكى عنها، كما قال أرسطو، عليه أن يجعل إبداعه مزيجا من الصدق الواقعي والخيال الذي يُضفي عليه العذوبة والرقة والجاذبية أو الحماس والعزيمة والإرادة تبعا للغرض الشعري ويُبدع في إظهار ذلك بما يمتلكه من أدوات التصوير والإبداع والكلمة والموسيقى، وهذا ما يُمكن أن نسميه بالصدق الفني الذي لابد أن يمتلكه الشاعر بل ويُحسن توظيفه. هذا وبالله التوفيق وعلى الله قصد السبيل.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى