أ. د. احمد جاسم الخيَّال - النسق والتحولات الداخلية للبنية

لابد لنا بداية قبل الحديث عن النسق أن نتوقف على التعريف العلمي الدقيق لكلمة (بنية) ، فهي عند جان بياجيه (( نسق من التحولات ، له قوانينه الخاصة باعتباره نسقا ( في مقابل الخصائص المميزة للعناصر ) علما بأن من شأن هذا النسق ان يظل قائما ويزداد ثراءً بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحولات نفسها ،
دون ان يكون من شأن هذه التحولات ان تخرج عن حدود ذلك النسق ، أو أن تهيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه ))(1) .
وكل بنية لابد لها من ان تتسم بخصائص ثلاث ، هي ( الكلية ، والتحولات ، والتنظيم الذاتي ) ، فالكلية تتكون من عناصر داخلية خاضعة للقوانين المميزة للنسق من حيث هو نسق ، والمهم في البنية هو العلاقات القائمة بين العناصر ، أعني عمليات التأليف على اعتبار ان (الكل) ليس الا الناتج المترتب على تلك العلاقات أو التأليفات ، مع ملاحظة أن قانون هذه العلاقات ليس الا قانون (النسق) نفسه ، أو المنظومة نفسها(2) .
أما التحولات الداخلية لعناصر البنية فهي تسير على وفق نسق معين ،ومن غير المستطاع رد الظواهر كلها إلى مجموعات جزئية غير مرتبة؛ لأن مرمى البنيوية الأول هو إنشاء علم المجموعات الإنسانية(3). وتأكيدا على ذلك ترى البنيوية أن كل نص يحتوي ضمنيا على نشاط داخلي يجعل من كل عنصر فيه عنصرا بانيا لغيره، ومبنيا في الوقت ذاته. ولهذا فإن النظام الذي يقوم عليه بناء النص يسمح لكثير من العناصر بالتحول داخل النص من الموجب إلى السالب وبالعكس(4). وما يحتويه النص من أفكار تصبح بموجب هذا التحول عاملا دافعا لظهور أفكار جديدة، بسبب هذه التحويلات الداخلية لعناصر البنية(5) .
إن البنيوية تقوم على فكرة(النسق). فالبنيوية باعتمادها على النسق ترى أن حقيقة الأشياء لا تكمن في الأشياء نفسها، بل في العلاقات التي نكوّنها، ثم ندركها بين الأشياء، ومن ثم فإن إدراك الأهمية الكاملة للأشياء لم تحدث بتفاعل الأشياء مع النسق التي تكون هي جزءا منه(6).
ان البنيوية لا تدرس أو تعالج مجموعة ظواهر على أنها تجمع آلي بل على انها كلا بنيويا ، هذا الكل هو(النسق) الذي تتحدد مهمة العلم الأساس في الكشف عن الأنظمة الداخلية المكونة له، خاصة بعد أن لم تعد بؤرة الاهتمام العلمي منصبة على الباعث الخارجي، وإنما على القواعد الداخلية للتطور. وفي هذا الطرح الحداثي الذي تطرحه البنيوية تصوير لحالة "التحول الفلسفي الحاصل في الاعتماد على مبدأ العلاقة التي تربط الأجزاء بعد أن كان قائما على مبدأ الوجود"(7)، هذا التصور يمثل تحولا معرفيا في المنهج، فتحول المعرفة من ماهية الشيء، إلى كيفية ترابط أجزائه وعملها مجتمعة، يعمل على اكتشاف النسق المهيمن لهذا الشيء. ومن هنا نرى(جاكسون) يعرف البنية منطلقا من الأجزاء المكونة للنسق، فيقول: "إنها مجموعة الروابط بين الأجزاء، في مجموعة من الأجزاء المرتبطة معا"(8).
ومن الضروري معرفة ان النسق مفهوم لغوي مستمد من نظرية سوسير اللغوية ، فهو نظر الى اللغة على انها نسق ، يتألف من "بنية أو سلسلة من البنى الصغيرة التي تشكل مجموع البنية التي تشكل النسق". وذلك النسق اللغوي نسق اختلافات بالمرتبة الأولى، والقانون الذي يحكم النسق هو جوهر البنيوية اللغوية، وسواء "أخذنا الدال أو المدلول، فإن اللغة ليس لها أفكار أو أصوات سابقة على النسق اللغوي، بل اختلافات فكرية وصوتية تنشأ في النسق". و(سوسير) بتصوره هذا يشترط(للنسق) وجود (الدال) و(المدلول)، ووحدة كلية للبنية اللسانية، وهي تصنع(النسق)، وتعرف بـ(العلامة) التي يتحد بها الدال والمدلول، بشكل اعتباطي(9).
وربما يساعدنا تعريف(روبرت شولز) على فهم النسق بقوله :"يجب أن نؤكد أن النسق اللغوي ليس وجودا محسوسا. فاللغة الإنجليزية ليست في العالم أكثر من وجود قوانين الحركة في العالم. ولكي تكون موضوعا للدراسة يجب بناء لغة ما، أو نموذج لها، من شواهد الكلام الفردي. إن أهمية هذا المبدأ للدراسات البنيوية الأخرى بالغ الأهمية. إن أي نظام إنساني، لكي يصبح علما، يجب أن ينتقل من الظواهر التي يسجلها إلى النسق الذي يحكمها، من الكلام إلى اللغة. وفي اللغة بالطبع لا معنى لأي تصوت بالنسبة لمتحدث ينقصه النسق اللغوي الذي يحكم معناه. وما يعنيه هذا بالنسبة للأدب بالغ الأهمية، إذ لا يمكن لمنطوق أدبي، لعمل أدبي، أن يكون له معنى إذا افتقدنا الإحساس بالنسق الأدبي الذي ينتمي إليه"(10) ولهذا يرى أن مفهوم النسق "في صميم البنيوية، ذلك الكيان الكامل المنظم ذاتيا الذي يتكيف مع الظروف الجديدة من خلال تحويل سماته مع الإبقاء، في الوقت ذاته، على بنيته النسقية. ومن الممكن رؤية أية وحدة أدبية ابتداء من الجملة المفردة إلى مجموع نظام الكلمات في ضوء مفهوم النسق"(1 )، بمعنى أن للبنيوية طريقتها الخاصة في البحث عن العلاقات، ويقود هذا البحث إلى مفهوم النظام بوصفه الكينونة الكاملة، بشكل ذاتي، تتكيف مع المستجدات لتحويلات البنى(12)، وبوساطة الكينونة، يصبح كل شيء واضحا، فـ"حيثما وجد النسق ينعدم الإرباك أو التشويش"(13).
ومن خصائص النسق انفتاحه على المتغير(14) ((فالنسق المغلق وهم ... فاذا سلمنا بأن النسق معطى أولي مرتبط بلاوعي العقل البشري وكونيته ، فلا يحتم علينا ذلك اغفال حركيته وتحولاته وانتظامه الداخلي ، فهو لا يفقد أساسه الجوهري ، ولكنه يمتلك مرونة التحولات ، ويستجيب لمقتضيات التغيرات ))(15).
فالنسق حسب ما تقدم نظام يشكل البنية الكلية للأشياء ومن خلاله يمكننا دراسة العلاقات بين العناصر المكونة لها لا دراسة الأشياء نفسها لتعذر ذلك كما هو ثابت .






الهوامش:-
1. ينظر: مشكلة البنية / زكريا ابراهيم / 30 ، وينظر : البنيوية / جان بياجيه / 6 -8 .
2. ينظر : مشكلة البنية / 30 .
3. ينظر : البنيوية : أوزياس وآخرون : 21.
4. ينظر : النقد الأدبي الحديث من المحاكاة الى التفكيك : 96 .
5. ينظر : البنيوية / بياجيه 13 .
6. ينظر : البنيوية وعلم الاشارة : 14-15.
7. ينظر: البنيوية وما بعدها النشأة والتقبل / سامر الأسدي / أطروحة دكتوراه / 56 .
8. بؤس البنيوية / 46 .
9. البنيوية وما بعدها النشأة والتقبل / 54 .
10. البنيوية في الأدب / 14-15.
11. المصدر نفسه / 20 .
12. ينظر: المصدر نفسه / 20.
13. البنيوية والتفكيك / 158 .
14. نازك الملائكة بين الكتابية وتأنيث القصيدة : د. عبد العظيم السلطاني / 167 .
15. المصدر نفسه / 167 . القراءة النسقية سلطة البنية ووهم المحايثة / أحمد يوسف / 122 .



د. احمد الخيال الجنابي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى