د. عادل الاسطة - تحرير فلسطين عبر الكتابة : أسعد الأسعد و "دروب المراثي"

قبل عام تقريبا ألقيت في متحف محمود درويش محاضرة عن معين بسيسو في ذكراه .
قبل التوجه إلى المتحف بصحبة الشاعر مراد السوداني عرجنا أنا وهو وفؤاد العكليك على مكتبة الرعاة لأبو إبراهيم ، وهناك التقينا بالشاعر والروائي أسعد الأسعد ، فحدثنا عن روايته التي ستصدر عن دار الرعاة ، واقترح علي أن نقيم لها حفل توقيع في نابلس شرط أن أقدمها أنا شخصيا . لم أعترض وأبديت استعدادي ، فالصلة الأدبية بيني وبينه تعود إلى العام ١٩٧٨ ، ولطالما التقينا في مكتبته في رام الله وفي مكتبي مجلة " الكاتب " وجريدة " البلاد " ، والأخيرة نشرت على صفحاتها في صيف ١٩٩٧ ، أكثر حلقات كتابي " أدب المقاومة .. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات " .
في آذار ٢٠٢٠ حلت بنا جائحة الكورونا وانقطعت اللقاءات الأدبية وألغيت الندوات والمؤتمرات ولم أزر رام الله إلا بعد أحد عشر شهرا ، وفي أثناء زيارتي عرجت على مكتبة دار الرعاة فاهداني أبو إبراهيم نسخة من رواية أسعد " دروب المراثي " .
الكتابة الموجزة عن تجربة أسعد الكتابية أوجزتها مرة في مقال عن رواية " عري الذاكرة " ( ٢٦ آذار ٢٠٠٤ ) وبعد هذا التاريخ أصدر الكاتب روايات أخرى وجب أن أقرأها أيضا لأقرأ الرواية الأخيرة التي تحيل إلى قضيتين ؛ تخص أولاهما بنية الرواية وثانيتهما التركيز على عنصر المكان كمكون أساس من مكوناتها ومكونات الرواية الفلسطينية بعامة .
تبنى الرواية على حلم شخصيتها الرئيسة مراد الذي يستلقي على شاطيء يافا ، وإلى جانبه فتاة يهودية اسمها راحيل ، ويغفو فيحلم ، وما حلم به له علاقة بالموضوع الثاني .
بناء عمل أدبي فلسطيني على حلم بدأ مبكرا وتحديدا في العام ١٩٤٧ حين كتب نجاتي صدقي قصته " الأخوات الحزينات " ، فشخصيتها تغفو تحت خمس شجرات جميز كبيرات وتحلم بأن الشجرات تحولت إلى خمس أخوات تروي كل واحدة منهن جانبا من تاريخ فلسطين . ليس قصدي هنا إحصاء الأعمال الأدبية الفلسطينية التي بنيت على الحلم أو على المخيلة واللامعقول ، فقد تعرضت إلى هذا وأنا أكتب عن تجربة القاص أكرم هنية .
بم حلم مراد ؟
لقد حلم بأنه سار وراحيل معا وأخذا يتجولان في يافا أولا ثم في القدس ثانيا ، وأنهما لاحظا أن سكان المدينتين اختفوا نهائيا - يذكرنا هذا برواية إبراهيم نصر الله " حارس المدينة الضائعة " - ويتجادلان معا حول المكان وعلاقة شعب كل منهما به ، ليثبت كل واحد منهما أحقية شعبه به " كان مراد يسهب في وصف الأماكن التي يمران بها ، متلذذا في إظهار معرفته الواسعة في تلك الأماكن وتاريخها ، وإن أبدت راحيل استغرابها. يطلق العنان للسانه مسترسلا في حديثه متعمدا استفزازها ... فقد ألغى الإسرائيليون تفاصيل المكان ... وبذلوا قصارى جهدهم لتغيير معالم البلد وطمس آثار أهلها . " وهذا هو بيت القصيد .
مراد ، ومن ورائه أسعد الأسعد ، يبدو عارفا بالقدس حارة حارة وشارعا شارعا ويعرف تاريخها ومقاهيها ومطاعمها ، وهذا ما لا تعرفه راحيل . كأنما يكتب أسعد حكايته ليرث أرض الكلام ، على حد تعبير محمود درويش " من يكتب حكايته يرث أرض الكلام " ، وصداقة مراد وراحيل ، وإن في الحلم ، تعيدنا إلى قصة سميح القاسم " الصورة الأخيرة في الألبوم " ( ١٩٨٠ ) وحوار أمير مع روتي فيها . هل تأثر أسعد بسميح ؟ وتعيدنا إلى الكتابة عن المكان في الرواية الفلسطينية .
أول من اهتم بالمكان هو جمال الحسيني في " على سكة الحجاز " ( ١٩٣٢ ) تلاه إسحق الحسيني في " مذكرات دجاجة "( ١٩٤٣ ) ولكنهما لم يدققا في تفاصيله ؛ الأول اختار قرية بيعت لليهود وصارت مستوطنة ، والثاني كتب عن المأوى والصراع عليه .
في حدود ما أعرف فإن أول روائي فلسطيني شغف بالمكان ورصده رصدا مفصلا ، ليدافع عن عروبته وليدحض مزاعم الحركة الصهيونية ، هو إميل حبيبي في " اخطية " ( ١٩٨٥ ) . لقد حن إلى حيفا قبل ١٩٤٨ ، فكتب عن شوارعها وناسها وعلاقتهم ببعضهم وأفرانها وبرتقالها ، وتشكل " اخطية " علامة مهمة في التركيز على المكان . وبعدها بأحد عشر عاما عرف النثر الفلسطيني تركيزا لافتا على المكان والتغيرات التي طرأت عليه ، لا للدفاع عن فلسطينيته وحسب ، بل عن علاقة الشخصيات به في زمنين فصلت بينهما عقود ، فقرأنا " رأيت رام الله " و" ولدت هناك .. ولدت هنا " لمريد البرغوثي ، و " منازل القلب " لفاروق وادي ، و " ظل آخر للمدينة " لمحمود شقير ، ورواية عارف الحسيني " كافر سبت " و" شارع فرعي في رام الله " لأكرم هنية ، ورواية " رام الله " لعباد يحيى ، وروايات عاطف أبوسيف عن يافا .
وكتبت روايات كثيرة عن القدس ويستطيع أن يلم بأسمائها ومحتواها من يطالع دراسة محمد الطحل " رواية القدس في القرن الحادي والعشرين " .
بقي أن أشير إلى أن أسعد الأسعد بدأ يركز على المكان في روايته " بطعم الجمر " ( ٢٠١٤ ) التي أتى فيها على عودة بطلها المبعد إلى فلسطين عبر معبر رفح بعد غياب اثني عشر عاما ، وفيها نقرأ عن غزة والقدس ورام الله وصلة زيد بها .
المساحة محدودة والكتابة تطول .
الجمعة والسبت
٢٦ و ٢٧ شباط ٢٠٢١




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى