فوزية أوزدمير - قراءة في توظيف الأجناس الأدبية (الرسالة، الأغنية، القصيدة، القصة القصيرة، المسرح) وشخصياتها لتشكيل خريطة الهوّية في رواية على خط النار

خارج الزمكنة يبقى الإنسان محور الحدث، وتظل الأحلام رسائل مشفرة داخل مظروف الحياة .. بوقتين مختلفين من الرواية والقصيدة والتاريخ تعبر القصة حدود المكان والزمان.

وقت داخلي ( الزمن العجيب) شكل الصراع الداخلي أقصى درجات نضال الإنسان الأخيرة بين ثنائية الموت / والحياة ، أما الوقت الخارجي ( العادي)الذي يفتح المسافة بين الإرادتين للموت التمهيدي الذي تغلغل في روحه الصادر عن حس الحياة المهشم، للصراع الملحمي بين الوجود والعدم .. لتخلق ما بين أوراقها روح ساكنة تنتظر من يحركها في الشكل والمضمون إلى مسار الرؤية، إلى الانطباع الحقيقي الذي يصوغها القارئ بنفسه، بمطالعتها، حيث تعني تحليل كل موسيقاها الشعرية والمفردة اللغوية والصورة المركبة، اعتبارا من المشهد الأول حتى النهاية..

ما هموني غير الرّجال إلى ضاعوا..
لحيوط إلى رابو كلّها يبني دار..
ما هولوني غير الصّبيان مرضو و جاعوا..
و الغرس إلى سقط نضو نغرسو اشجار..
و الحوض الى جف و اسود نعناعه..
الصّغير ف رجالنا يجنيه فاكية و ثمار..
مصير وحدين عند اخرين ساهل تنزاعه..
وشعاع الشّمس ما تخزنه لسوار..



أغنية لفرقة ناس الغيوان

إن جمال هذه القصائد منبعها الروح في أقصى انفعالاتها النفسية، الروحية والإنتمائية للإنسانية في زمن أضحى وجود المرء فيه مشكوكا ومهددا أكثر من أي وقت مضى؛ قد يتساءل القارئ في قرارات نفسه..كيف يمكن الجمع بين الرواية والقصيدة والتاريخ والقصة القصيرة والمسرحية في عمل واحد ؟

ما يجمع ذلك التناسق المذهل هو " الفن " حيث استطاع كاتبنا أن يزاوج بين هذه الأشكال السردية ليظهر الحياة - الحياة الغيبية - ودرجة تذبذبها ومدها وجزرها، وكذلك النسيج الخارجي والداخلي والملمس الخاص بنظرة ما، أو فكرة ما، ولذة شعور ما، أو فترة لحظية بكل ما فيها من أسرار تنسلخ جذورها من الذات لتسترسل مدونة تعبيرها على الورق في مفهوم اللاوعي الشعري الشعوري، تخطيطا أو تلخيصا أو ظل من الظلال، أو عرضا انطباعيا في ذهن المتلقي في واضحة النهار وضوءه الذي لا يغير ملامح المنظورات .

أما آن الأوان ..

لتسمعي صراخ صمتي..

وتقيمي علي الحد..

لتكوني بطلة المشهد..

إني متيم ..

من المهد إلى اللحد..

أما آن الأوان..

لتدور في الخاطر أكداس الأسئلة ما الذي يجعل من تيمة الموت نصرا للحياة .. ! تربك القارئ نظرا للتنوع الذي تحمله هذه التيمة في غالبيتها الإنبعاثية من الأرض، وكأن الأرض تتكلم بصوت ناعم، رفيع يهمس فوق كل الأصوات حين تهجم الذاكرة بذلك التداعي والتزاحم الذي انهمر بلا توقف مشكلا صورا شتى من الماضي والحاضر والمستقبل، الذي أغلق وحان وقت إغلاقه .. فنكرر السؤال بصورة أخرى :

لِمَ خلق الله الإنسان .. ? ألحجب رزقه أم تضيق معيشته وسلبه حريته .. ! أم ليحكم فيه أناس مكتوب على أيديهم الشقاء ؟.. ! أم لجعله خليفة يرعى شؤون الله ، أليس شؤونه من شؤون هذا الخالق العظيم ؟

الحرب ليست رصاصة طائشة تفتش عمَ تحرقه، متعطشة للدماء، الحرب ندب شوهت وجه روح الإنسانية، أفرشت طريقا إلى كرسي، سيجلس عليه سفاح بزعم النصر.. !

كيف يتجاوز الموت نحو الخلود سوداوية المشهد، ويمكن للحرب أن تدمر كل شيء إلا الحب ؟ رغم صعوبة هذيان بمثابة حوارات ثرثارة أحيانا، مملة في نظر قراء ملولين ومستعجلين!..

لم تكن الرواية محض هذيانا، مفزعا، لرجل سبق له أن تغلغلت رصاصة غاشمة لتحرق داخله ونجا منها بأعجوبة .. بل هي وقوف عند فظاعة القتل لأجل القتل، بأي طريقة، عبارة رمزية في إذكاء نسف الطريق بين جسرين، أمام أي إمكانية للحوار والتواصل أمام الواجب الإنساني والمشاعر العاطفية التي ربما استعرت فجأة كأسئلة حارقة في أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والوجودية، وللأفكار طنين لا نسمع صداه إلا في الروايات، ليفتح باب التأويل .. ليس سهلا، ولا اعتباطيا.

الرواية التي تدور أحداثها في ذاكرة محتضر في أقل من لحظات الهذيان، وكان على شكل إيقاعات تأملية شخصية؛ قليلة الكلمات وحوارات قصيرة وغنية بمعان مخفية تحت جلد النص، التي تضع الجمالية في قلب السياسة وذاكرة المحارب الحديث، مثل الإرهاب بصوره الشمولية والحواس والأقلمة والانفصالية والجسدانية في البعد العاطفي وحياة الفرد الذاتية للنفس التي تفقد أسسها وتتبعثر بين قماشة جسدية وأخرى عاطفية، حين تصبح الكلمة جرحا رمزيا، والصدمة الجسدية والنفسية - الطابع العلاجي للحب - بين السرد المجزأ والتفتت البصري في اللوحة التكعيبية، كحوار النقطة المحورية في هذه الرمزية الموضوعية في المصطلحات الدرامية والأخلاقية، والتي تعمل على خلق إبداعي للمسألة التجريبية التي تتجلى في الحالة الشخصية، لشخصيات الرواية، والإسقاط الشخصي للراوي، كجزء يجمع بين تقنية بساطة الراوي ورمزيته التي يختارها .. وقدرته الهائلة على التخييل ، بإتقان السرد المخيالي كنوع من " الفلاش باك "، ليخرجها بكاميراته السينمائية من نمط قول السرد الكلاسيكي إلى نمط القول الفني بكادره التقني المكين، بما يستلزمه من تخييل وبناء للشخوص وإيغال في حكي سيناريستي أجاد فيه التعبير فيما يعتمل بداخلها من مشاعر وأفكار، فهو لا يرى شخوصه ورقية الحضور، وإنما يرى بشرا قد بعثت فيها دفق الحياة، فنراها تمشي على قدمين، وتتحرك في سياق صيرورتها، آخذا معه في ذات الوقت جموعا بشرية، حيث يحرص في حينها على استبطان داخلها النفسي والمخبوء في أعماقها، ليأتي النص معبرا بما يشعر، ويعبر عنه بعيدا عن السردية ومحاكاة التاريخ .. بإمكانياته الفنية البسيطة، استطاع كاتبنا تحويل أحداث الرواية عبر موهبته وقدرته على التخيل، وتشخيص الأحداث والوقائع إلى عمل فني جمالي رائع، عبر مخيال مخيلته في التصوير.

تصوير شخصيات الرواية، لتتوغل في الحوار والتعبير من خلال مكنونها النفسي، وبكل ما بجول في خواطرها من أحاسيس وعواطف ومشاعر وأفكار، ليس كتعبير لشخصيات ما، و ضمن أبطال الرواية الورقية المتعودين عليهم، بل كشخصيات تعيش في بيئة اجتماعية تحتك مع من حولها من أبناء جلدتها بكل ما تحمله من عادات وأفكار، فجعلنا بصورة أو أخرى نحيّ بها ومعها واقعيتها، ونتوقع أحيانا ردود أفعالها وأسلوب تفكيرها، عندما قدمها كتصاوير واقعية من لحم ودم في أدوارها التي تلعبها على خشبة مسرح الحياة ضمن هذا المتن الذي يبدو أكبر من مجرد سرد روائي ونمنمات شعرية ..

على خط النار..

كان بوسعي ..

أن أجعل من قلمي سيفا أو بندقية..

لكنه ما زال وردة في هدية..

عاشقا للحرية..

قد كنت على خط النار..

جندي مقاتلا ..رسولا مسافرا

السلام فيا جداول ..

كان بوسعي .. !

لقد ارتقى بأسلوب واقعي فوق الخطاب العسكري والذي يميزه أفقه المسقفة والمحدودة لما له وما عليه، معبر ضمن التحليل النفسي والصياغة الإبداعية للصورة، وما تركته وقائع الحرب في النفوس بما تحمله من متناقضات الحياة بين بؤس ونعيم وسعادة وشقاء، غنى وآلام، شر وخير، ليعيش الفرد حالة القلق المستمر .. ليست تلك التي تنتج المشاعر بقدر ما هي تلك التي تجسدها.

على الرغم من أن لغته متناثرة بشكل مجازي في أسلوب سردي يعتمد على تسجيل وتحديد المعنى، لنقل الأزمة الروحية في عالم متغير في بعدين (تزامني / وتعاقبي) ضمن حبكة الرواية عن أحداث تدور حول ما تتعرض هذه الشخوص المتألف من شخوص ، قد تختلف في تفاصيل حياتها، ولكنها تجتمع في علاقة معقدة بين الذاكرة والحرب والحب..

ذكرياتي...

الحزن ملعون ..

يعانق ذكرياتي .. !

يهمس إليها في غيابي..

يفضل زوايا فؤادي ؟..

يناشدها إن كنت طريح الفراش ..

يمد يده في الزحام ..

يتقدم نحو الجسر القديم ..

انتظر نور الفجر وأناجي..

هذا ليلي على الجسر القديم..

لتنفرد الحكاية ضمن الاختلال والانسجام والتنافر والتجاذب، واضمحلال الإنسان إلى حد التلاشي أمام هذه السردنة التي تعبر بنقل الأحاسيس المخفية في جميع ظروف الحياة، بحيث لا يعدو أن يكون مجرد شيء أو مادة خام، تختلط مع أكوام أخرى من الأشياء التي تستعر بها لظى الحرب وتتفاقم من خلالها.

التي تتنعم بقيم الإنسانية والحب والصدق والوفاء و جميعها تتصف بتعاطف مرير من هنا وهناك، بلا دموع مع أبطالها .. كترنيمة الأبدية وسؤال معلق في الفراغ لا أحد يخرج فائزا من الحرب الآثمة وأجوائها المعفرة بالرصاص، تتجلى حقيقتها سافرة بلا رتوش، وينطبع وقعها في الذاكرة ، فلا يطاله سهو ولا نسيان ، حيث الذاكرة تفيض بجرح عميق من ذكريات امرأة لم يفلح في إخراجها من ذاكرته، فمات وهو يحمل نعشه على كف صورتها التي لم تفارق مخيال ذاكرته ...في اللحظة الأخيرة من الحياة، وهو في حالة الاحتضار .

تلك المرأة هي الوطن وأخوها هو السلام حيث تبنى بسواعد جمال و يوسف وهو العلم والمحبة رغم كل الاختلاف لأن الفن هو الذي يجمع كل العالم في النهاية.

رواية "على خط النار" للكاتب الجزائري الأديب رحو شرقي مؤلفة من خمسة فصول عدد الصفحات ١٥٨ صفحة.





1614642659406.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى