مجدي جعفر - الرحلة.. قصة قصيرة

.. ثوانٍ ، بضع ثوانٍ فقط ، كلما حاولت أن أمر عليها عابراً .. فشلت ، ملايين الثواني مررت بها دون أن توقفني أوأشعر بها .. إلا هذى الثواني ، الزمن توقف عندها .. لتسبب لي صداعاً مزمناً وأرقاً .. قد يسير الزمن هادئاً بعذوبة ورقة ، يمر كنسمة فجر ندية .. وقد يثور كموجة خادعة تسحبنا في دوامة وتلقينا في قاع محيط لا قرار له .. قد يثور كأسدٍ جائع يفترس أحلامنا واللحظات الحلوة .

.. ثوانٍ .. ثوانٍ معدودات توقف الزمن عندها ، التصقت بذهني فشتته، ورسخت في قلبي فأعيته ، حاولت أن أسربها خارج نفسي ، حاولت أن أخنقها بيديّ ، حاولت أن أدفنها ،.. حاولت .. وحاولت .. ولكنى فشلت ، ولم يكن أمامي بُد من المجيء إلى هنا ..!

ما هذا ؟.. موسيقى هادئة ، وأنوار خافتة ، ولوحة معلقة على الجدار تحتل مساحة كبيرة من الجدار المقابل للسرير الذى أتمدد عليه .. شمس تولد من رحم فجر ، الأمل .. أى أمل يا دكتور!.. لا تظن يا دكتور أنك صياد ماهر وتستطيع أن تمسك باللحظات الهاربة .. أو تقبض على الجرثومة التي تنهش نفسي وتقلق مضجعي .

تخرج صلاح في كلية الهندسة وحياته مسطرة وقلم وفرجار ، اتسمت حياته بالدقة والنظام - كرسوماته وتصميماته - .. بزَّ كل أقرانه وصعد بسرعة الصاروخ .. ذاع صيته وانتشر كأمهر مهندس في بر مصر ، أخذ المنحنى يصعد به ، ويصعد ، يثب وثبات محسوبة بدقة ، وفى رحلة القفز والصعود ومحاولة بلوغ القمة صادفها هناك على الشاطئ .

آلاف النساء التقيت بهن ، في الشارع ، في الكلية ، حتى فنانات السينما المشهورات ، وأغلبهن التقيت بهن وجلست معهن مرات ومرات ، صممت لهن الفيلات والقصور ، وأبداً أبداً لم تخترق أيٍ منهن قلبي ، ولم تتحرك مشاعري قط ، رغم تلميحات بعضهن وتصريح الأخريات ،حتى الراقصة المشهورة التي رقصت لي وحدي في الفيلا التي صممتها لها ، وحاولت أن توقعني في تلك الليلة لكنها فشلت .. أتضحك.. ؟!

اضحك يا دكتور ..

أنا واثق يا دكتور أنك لو كنت طبيباً للممثلات أو الراقصات لضعفت ومن يدرى ... ربما لو امرأة لعوب ، أية امرأة لعوب جاءت إلى عيادتك ، وتمددت على هذا السرير ، وكشفت عن ساقيها ، و .. عفواً ، عفواً يا دكتور، أنا فقط قلت .. ربما .. نعم .. نعم يا دكتور .. لم أر في أي منهن جمالاً ، ولا في أي امرأة أخرى ، حتى صادفتها هناك على الشاطئ !!

كانت تمسك دفتراً وقلماً ، وتتابع بعينيها الجميلتين الشمس وهى تغيب في البحر .. قالت :

" في الصباح تخرج الشمس من البحر ، تلف الدنيا ، كل الدنيا ، تعطى البشر والنبات والحيوان وكل المخلوقات النور والدفء ، ثم تعود آخر النهار لتنام في حضن البحر " ..

تسللت إلى قلبي بهدوء ونعومة كما يتسلل ضوء الشمس من خصاص الشباك ، فيبدد عتمة الغرفة المغلقة ..

" أبداً .. أبداً يا دكتور ، أنا لست بشاعر ، ولا حاولت الشعر يوماً ، ولكنى أحببت الشعر يوم أن أحببتها ..

أتعرف يا دكتور .. أنى اكتشفت أن الهندسة شعر ، كما اكتشفت هي أن الشعر هندسة !! فحينما يكون الحب ، تكون لحظات الكشف والتجلى .. ياه ياه يا دكتور ، صور وحكايات وذكريات تنسال على الذاكرة ، وتتدافع كلها تحاول أن تقفز ، أعرف أنك الآن كمخرجي السينما ،ستأخذ هذه الصور ، وهذه اللقطات تركبها وترتبها ، وربما تصير كالإحصائي تبوبها وتجدولها وتحولها إلى أرقام ورسومات ومنحنيات ..

.. فوجئت بي ذات مرة ونحن نتأمل البحر ، وهو يحتضن الشمس وقت الغروب ، بأني أخرج شريط القياس ومسطرة ومنقلة وأوراقاً ، وأوقفتها قُبالتي ورحت أقيس خصرها ، وأسجل مقاسه على الورق ،وأقيس عنقها ، ظنت في البداية أنى سأشترى لها فستاناً ، ولكنى لما رحت أقيس وركها وكعبها وطول قدمها ، تسرب إليها شك ، وانفجرت ضاحكة لما رأتني أقيس المسافة بين ننيّ عينيها وطول أنفها ، ومحيط فتحتي الأنف وطول الهدب وطول شعرة الرأس ، وارتفاع الخدين ، وانسيابية الذقن ، وحجم الصدر ، وقطري نهديها.

واستلقت على بطنها من الضحك وهى تراني أمسك بالآلة الحاسبة ، أجمع وأضرب وأطرح وأقسم ، وقرأت الجا والجتا والظا والظتا وزوايا ارتفاع وزوايا انخفاض ، صرخت ضاحكة :

-" ماذا تفعل يا مجنون ؟ "

طول عمري يا دكتور وأنا أعشق التناسب بين الأشياء، وأرى الجمال في هذا التناسب وهذا التناسق ، فإذا اختل هذا التناسب يكون القبح .. كان تناسباً عجيباً ودقيقاً ، ذلك التناسب والتناسق الذى شدني إليها في البداية ، وأكدته علوم الهندسة والحساب .. كان أعظم معمار هندسي أكتشفه في حياتي.

.. كنت أحدثها عن التناسب والتناسق في الكون ، وأحدثها عن التناسب والتناسق الذى يجمع تقاطيعها وملامحها ، ويلم كل أعضائها في منظومة متكاملة ، فتبدى ارتياحاً ، وألمح فرحة تكاد تنط من عيبنها ..

تصور .. تصور يا دكتور أن هذا الجسد المتناسب والمتناسق يحمل بين جنبيه نفساً شاعرة مرهفة ، تذوب رقة وعذوبة ، أذكر .. أذكر يا دكتور أنها فاجأتني بقولها : "أتقرأ الشعر ؟!"

قلت متلعثما :

" أحياناً "

قالت :

" لمن تقرأ ؟ "

أجهدت الذاكرة وقلت :

"......"

ضحكت و قالت :

" أتقرأه لأنه مهندس ".

ولأول مره أعرف أنه مهندس ، فقلت خجلاً :

"ربما"

ودخل الشعر في دائرة اهتماماتي وأصبحت دواوين الشعر تزاحم كتب الهندسة أرفف مكتبتي .

.. الغريب ... الغريب يا دكتور أن كل قصائدها التي نُشرت والتي لم تُنشر ، لم تتحدث فيها عن الرجل ، الذي من المفترض أنه محور اهتمام أي أنثى ، ولم ألمح في قصائدها أي ملمح أو إشارة لفارس كان في حياتها أو فارس تنتظره ، فلم تُشر إلى الرجل الذي سقط من قرص الشمس إلا بعد أن التقينا !

قالت :

"أنبأني قلبي بأن حبيبي سيسقط من قرص الشمس وقت الغروب وهي تحتضن البحر "

.. وكنت أنا يا دكتور ابن الشمس المنتظر ، الذي أشرق في قلبها ، ولأول مرة أرى الحب في ومضة العين ، وفرحتها عند اللقاء ، يدها الطرية في يدي ، رقيقة ناعمة ، تعانق قلبي ، نحلق طرباً على الشاطئ ، ونسمات البحر تداعب خصلات شعرها الأشقر الجميل .. أبحر في عينيها الزرقاوين ، بصوت رائق ، تلقي على قلبي ما كتبت من أشعار ، ولأول مرة أكتشف أني كلمة حلوة تخرج من قلبها ، أراني على شفتيها الرقيقتين معنى جميلاً ، لحناً، عصفوراً من عصافير الكناريا ، نهراً من حب مُصفى.

" سأتيه دلالاً يا حبيبتي .."

" تدلّه يا قمري ، فأنت قطرات ضوء تسَّاقطت على قلبي .."

وما عاد يا دكتور البحر هو البحر ، ولا القمر هو القمر ، ولا الزهر هو الزهر ، ولا الأرض هي الأرض ، ولا الناس هم الناس ، ولا الحياة هي الحياة وما عادت رسوماتي و تصميماتي هي رسوماتي و تصميماتي ..

" سأسكنك يا حبيبتي قصراً ، ليس له مثيل على الأرض "

كنت يا دكتور مشدوهاً ، وفي حالة وجد ، وأنا أصمم هذا القصر لحبيبتي ، لم أشعر بالمكان ولا بالزمان ، ولا بالجوع ولا بالعطش ، فكرت في ديمومة الحب وصيرورته وخلوده ، في الجسد الذي لا يبلى ، والزمن الذي لا يفنى ، ودرست تصميمات الفراعنة ، والبابليين ، و الآشوريين ، عرَّجت على الهند و الصين ، شرَّقت وغرَّبت يا دكتور وهي لا تغادر عقلي ولا تفارق خيالي، أسمعها لحناً جميلاً في دقات قلبي ، أنفاساً دافئة تتردد في صدري.

سألتني :

" كم لبثت في تصميم هذا القصر؟ "

قلت :

" يوماً أو بعض يوم "

ضحكت و قالت :

"بل لبثت سنين عدداً "

نظرتُ في عينيها الزرقاوين وقلت دهشاً :

" ما زلت أنا كما غادرتك ، ذقني حليق وشعري قصير ووجهك كالصبح إذا تنفس .. "

.. وامتدت يداها الحانيتان تتحسسان وجهي ، وكأم رؤوم تدلك فروة رأسي ، ودفنت رأسي في صدرها ، واستحلبت الحنان قطرات ، وأحسست بأني أنكمش وأنكمش وأصير طفلاً ، أحتل رجليها، تهدهد علىَّ وتحكي لي عن جنة ربنا - التي نعود فيها شباباً ، نخلد فيها ولا نموت ، نهمس حُباً ، نغني فيها ونرقص ، بلا قيود بلا حدود ، و.. غفوت علي صدرها أو على قلبها وصحوت وهي لم تزل تتحدث عن جنة ربنا !

قلت :

" في تصميماتي هدمت نظريات وبنور حبنا ابتدعت نظريات ، ألهمني حبك رؤى وأفكاراً "

أخرجت أوراقي ودفاتري وقلت :

" انظري إلى رسوماتي واقرأي أفكاري .."

ولأول مرة - أرى يا دكتور - سحابة من الحزن تغيم في عينيها ، كانت تنظر إليَّ وأشعر بأنها تحبس في قلبها الأخضر هماً ..

قلت حبيبتي و مليكتي تحبس في عينيها دموعاً - كيف؟ وكأني نكأت جُرحاً ، فانفجرت باكية تنهمر الدموع من عينيها كشلال ، كنت لا أصدق ، فماذا جرى ؟ .. قالت :

انظر إلي عينيَّ ، قلت جميلتان كصحو السماء بعد إمطار .. قالت : انظر إلى وجهي وإلى جيدي وإلى عنقي ألا ترى آثار الزمن عليها ، ألا ترى تجاعيد الوجه وكرمشه الجلد .

ضحكت وقهقهت وقلت :ما هذه التخيلات يا حبيبتي ، لو رأيت تصميماتي ، وقرأتى نظرياتي لعرفت أنى نجحت في إيقاف الزمن ..

قلت يا دكتور : من أدركه الحب وهو في الثلاثين سيتوقف به الزمن عند الثلاثين ، ومن أدركه الحب في الأربعين سيتوقف به الزمن عند الأربعين ، وتبدأ حياة جديدة تختلف عن الحياة الأولى ، فالحياة الأولى بدأت بلقاء منىٍ ببويضة ، أما الحياة الثانية بدأت بالتقاء رُوحين ، بتقابل نفسين ، قلب يذوب في قلب ، ونفس تنصهر في نفس .

حين صادفت رُوحي رُوحها على الشاطئ ، وتعانقا عناقاً حاراً ، انهالت الرؤى وتوالت الاكتشافات والفتوحات والفيوضات ، العين ما عادت هي العين ، والأنف ما عاد هو الأنف ، والأذن ما عادت هي الأذن ، والجلد ما عاد هو الجلد ، اللغة نفسها ما عادت هي اللغة ، صار لحبنا يا دكتور لغة خاصة ورموزاً ، وشفرات ، ربما يأتي بعد ألف عام أو يزيد من يفك رموزها كما فعل شامبليون مع لغة الفراعنة ، سيكون كشفاً عظيماً ، وتحولاً هائلاً في حياة البشرية ، .. نعم .. نعم يا دكتور كان لابد أن تكون تصميمات الحياة الثانية مختلفة عن تصميمات الحياة الأولى ، كان لابد أن أعيد تشكيل العالم ، وأعيد هندسة الكون وتصميمه ، فاختزلته في معادلات رياضية وفيزيائية جديدة وأدخلت أبعاداً جديدة ومفاهيمَ جديدة .. فرحاً .. فرحاً يا دكتور خرجت من صومعتي ، وحملت بشراي ، وطرت أزف لها البشرى ، بدلاً من أن تحلق طرباً معي ، وجدتها في محرابها ساهمة ، شاردة ، وكلما دخلت عليها المحراب وجدت عندها أكداساً من كتب الدين ، وكتب الفلسفة ، وتسود في دفاترها خواطر وشوارد عن الكون والعالم والحياة ، وأشد ما أحزنني أن ما تسوده يتعارض مع رؤاي وأفكاري ونظرياتي .. لماذا ؟ .. لماذا تنظر في الساعة يا دكتور ؟ .. هل سرقك الوقت ؟ كم من الأوراق دونت ، وكم أسطوانة موسيقى بدلت ، وكم من شريط عبأناه ..؟ مشكلتك يا دكتور أنك ما زلت تعيش في حياتك الأولى - رغم تجاوزك الخمسين .

- آهٍ لو أدركك الحب قبل عشرين عاماً ، لبقيت شاباً عفياً لا تشيخ روحك ولا يهرم بدنك ولم احتجت إلى هذه النظارة الطبية ..

في عالمي يا دكتور وفي دنياي الجديدة لا يوجد أطباء ، ها ها .. فنحن المحبين لا نمرض ولا نشيخ ولا نهرم ، كلمة الحزن اختفت لأننا لا نحزن ، وكلمات مثل القبح والظلم والاستغلال و.. مئات الكلمات اختفت ، مسكين .. مسكين يا دكتور ، أراك مكروباً ، ومهموماً ، كم سيجارة أشعلت وكم فنجان قهوة شربت ؟

المدهش يا دكتور أنك دوماً مبتسم ، هل فعلا أنت مبتسم لأنك سعيد وإن كنت سعيداً فلماذا أنت سعيد ؟

معذرة .. معذرة يا دكتور فاتني أن مهمتك أن تسأل أنت وأنا أجيب ، سل .. سل يا دكتور ؟

.. نعم .. نعم يا دكتور، ولدت لأب مصري ولأم أمريكية ، لا أذكر أبى ولكنى أتصوره ، ومرات قليلة التي رأيت فيها أمي وهى بالمناسبة موسيقية قالت :

" جاء أبوك من مصر آخذاً من الهرم شموخه ومن النيل عذوبته ، ليدرس العلوم ، وقعت في هواه ، وذبت في وجهه الأسمر ، كان يقضى جُل وقته بين الكتب والمراجع وفى المعامل وفى مراكز البحث ، كنت فخورة به ، وسعيدة بتفوقه ، ونبوغه ، ذاع صيته وانتشر في الأوساط العلمية ، فاجأني ذات يوم وقال : في غضون أشهر قليلة سنرحل .. قلت : إلى أين ؟ .. قال بحزم : إلى مصر ، ولزمت الصمت ، فكان من الصعب مناقشته في قرار اتخذه ، وأرجأت الحديث معه لوقت لاحق أستطيع فيه أن أقف على تفاصيل وأسباب هذا القرار المفاجئ ."

تقول أمي :

" بدأ الخوف يتسرب إلى نفسي ، مكالمات هاتفية من مجهولين تهدد أباك بالقتل إذا صمم على الرحيل .. ورسائل مجهولة ، أصابني القلق والخوف ، توسلت إليه ، وقبلت يديه وقدميه ليعدل عن قراره ، ولكنه كان عنيداً ، قالت أمي : لأول مرة أكتشف أن للعلم في بلدنا مافيا وعصابات - تزداد شراسة ووحشية عن مافيا وعصابات المخدرات - تحتكر العقول الفذة ، وتوظفها لخدمتهم وخدمة من يدفعون ، والمشكلة أنهم أرادوا أن يحرموا مصر من علم أبيك ويقصروه على دولة معادية لمصر .. "

نعم .. نعم يا دكتور أنا ابن العالم المشهور ... الذى قُتل في ظروف غامضة .

أمي .. أمي يا دكتور أذكرها ، كالفراشة ، كعصفور ، درست الباليه والموسيقى والأوبرا ، لها قلب رقيق ناعم ، إذا عزفت ، وإذا رقصت ، وإذا غنت ينساب الدفء إلى قلبك خدراً لذيذاً ، وتنتشي رُوحك وتتألق ، تشيع البهجة في النفس ، وتتحرر الروح من أغلال الجسد وتنطلق ، .. لا أكتمك سراً يا دكتور إذا قلت أنى أخذت موسيقى أمي وأغنياتها ورقصاتها ، وجعلتها مواد إجبارية تدرس في الحياة الثانية .

.. نعم .. نعم يا دكتور الرصاصة التي لم تخطئ رأس أبى أسالت الدماء من قلب أمي الرقيق ، لم تحتمل الموقف برمته ، فقضت جُل حياتها في مصحة نفسية وعقلية ،.. كنت أذهب إلى المصحة لأمضى العطلة مع أمي ، التي لا تفيق إلا قليلا ، كنت أبكى ، وكانت تحضنني ، وفى لحظات الإفاقة كانت تقول كلاماً، أذكره .. نعم أذكره يا دكتور .. أذكره جيداً .. كانت تقول : لماذا بلدنا تُعلن غير ما تبطن ؟.. لماذا تحتكر جهود العلماء وتحرم بلادهم من علمهم ؟.. كانت تذكر السياسة والسياسيين ، والمخابرات ، والحرب والشر ، و.. كلمات كثيرة تبدو لعقلي الصغير كالألغاز واللوغاريتمات ، وحينما كبرت حللت هذه الألغاز وفككت هذه اللوغاريتمات، كانت تقول يا دكتور : لماذا قتلوا حبيبى ؟ حبيبى طيب ومن بلاد ناسها طيبون .. معقول عاوزين يسلموا حبيبى وعلمه لأعداء بلده ليكون خنجراً وقنبلة وباروداً .. صلاح .. هاتوا حبيبى صلاح .. أرتمي في حضنها وأبكى .. تمسح دموعي وتهدهدني .. تغنى بصوت حزين .. لماذا يخنقوا القمر ويحرقوا الزهور !!

.. روح يا صلاح عش في بلد أجدادك ، ومن الطين والحجارة مثلهم ، اصنع حضارة ، وابن حياة ، انشد سلاماً وازرع حباً ، وورداً ، وفلاً ، وزيتوناً ونخلاً ، كانت تضمني إلى صدرها وتبكى : " هناك الشمس والنيل والناس الطيبون "

وكانت في آخر أيامها يا دكتور تعانق عيناها السماء ، وترى ما لا أراه ، كنت أحدق في السماء لعلى أرى الشخص الذى تحاوره، ومن حوارها عرفت بصعوبة أنه المسيح : صلبوك وقتلوا حبيبي .. عُد لتلملم الجراح ، لتُطبب القلوب ، وتداوى النفوس ، لتنشر المحبة .. أيها المخلص .. خلص .. أيها الآب الذى في السماء .. وكانت تتلو كلمات تقع في قلبي ولا أعيها ..

نعم .. نعم يا دكتور ، كانت أمي جميلة ، أجمل من رأت عيناي ، حلوة الملامح ، عذبة التقاطيع ، رقيقة كنسمة ، كفراشة .. حبيبتي تشبهها تماماً ، نفس العينين الزرقاوين ، ونفس الشعر الأشقر ، نفس الوجه الرائق ، الهادئ ، الوديع ، الجميل ، أحتفظ بأوراق لأمي فيها بيانات مفصلة : لحبيبتي .. نفس الطول ، ونفس الوزن ، تنطبق حبيبتي وأمي كل منهما على الأخرى تمام الانطباق ، حتى في طول الأنف والهدب ، وحجم الصدر والخصر ، في طول القدم وانسيابية الذقن ، في كل الجزئيات والمنمنمات الصغيرة يتشابهان .

ما هذا الإلتماع الذى أبصره في عينيك يا دكتور ، وما هذه البسمة التي تقطر ألقاً على شفتيك ، هل ومض في ذهنك اكتشاف مفاجئ .. ربما أصابك ما يصيب الشعراء ، فحبيبتي في أوج الانتشاء والذوبان والانصهار ، كانت تخرج قلماً وورقاً وتدبج قصيدة ، أذكر أن أمي - حتى وهى تعد الطعام – تتوقف فجأة وتجرى تبحث عن النوتة الموسيقية وتدون فيها ، أعرف .. أعرف يا دكتور أن الفكرة قد تومض كالبرق .. ولكن من يا دكتور يستطيع أن يمسك البرق ويقبض على وميضه ؟ .. مررت بهذه التجربة يا دكتور ، كنت أرقب هذه الومضات وأنتظرها ، وغالباً ما كانت تفلت منى ، ونادراً ما أقبض عليها ، حينما التقيت بحبيبتي على الشاطئ أحسست بأن ومضات سريعة ومتلاحقة تومض في رأسي ، نجحت في الإمساك بها ، وكانت النفحات تهب على رُوحي ، والتجليات على قلبي ، لحظات نادرة وخالدة ، تصفو فيها النفس فتكون الخواطر والرؤى والأفكار .

.. قالت : انتظرتك كثيراً ، وسأنتظرك حتى يجف العمر ..

قلت : لن أغيب ، يوماً أو بعض يوم وأعود .

كانت تهرب إلى البحر ، قالت : كنا نعيش في مدينة القنطرة شرق القناة ، كنا نشعر بأننا جسر بين مدن الدلتا وسيناء ، أمي إسكندرانية ، وأبى سيناوى ، أحببت البحر و الصحراء .. ، شئ مهول أن يصحو الطفل على أصوات مدافع وطائرا ت ، وجنود يقبضون على بنادق ، قيدوا أمي أمام عيني ، شئ فظيع .. لم يحتمل شاعر القبيلة المنظر ، مات قبل أن يطلقوا عليه الرصاص ، مزقوا أوتار عودي وكسروا البيانو ، .. احتضنني جدي لأمي ، وعشت في الإسكندرية ، كان أبى يهوى الخيل ويقرض الشعر ويتباهى بنسبه العربي ، وجدي لأمي من أصل يوناني ، عشق الإسكندرية ، علمني العزف والغناء - كسروا البيانو ومزقوا أوتار العود - كانت أمي تعلمني على البيانو ، وأبى يصطحب العود في جلسات السمر ، ينشد للقبيلة حكاوي وغناوي .

.. أهديتها يا دكتور عوداً وبيانو ، عزفت لي ورقصت ، رقص الموج والرمل والزهر ، سمعت وشوشات النسيم ، ورأيت ابتسامة الفجر ، رأيتها يا دكتور فراشة بيضاء تحوم ، عصفوراً رقيقاً من عصافير الجنة ، لحناً سماوياً لا يفقهه إلا أولي النهى.

قالت : حينما أرقص أعبر عن معنى ، وحينما أعزف أعبر عن معنى ، وحينما أكتب أعبر عن معنى ، المعنى الذى أعبر عنه بالموسيقى لا أستطيع أن أعبر عنه بالشعر أو الرقص ، والمعنى الذى أعبر عنه بالرقص لا أستطيع أن أعبر عنه بالموسيقى أو الشعر ، نفسي ... نفسي يا صلاح أمسك بالمعنى الغامض في أغوار نفسي ولا أستطيع أن أترجمه إلى كلمات ولا إلى نغمات ، فحينما سقطت يا حبيبي من قرص الشمس ، خلخلت الراكد ، وحركت الساكن ، وأثرت الغامض ، ولم يبق إلا أن أمسك بتلابيب المعنى وأفجره شعراً لم يقله أحد قبلي وموسيقى لم تُخلق بعد .

وتركتها يا دكتور تبحث عن القصيدة الغاربة ، و المعزوفة الهاربة .. قالت : تلك القصيدة وتلك المعزوفة وتلك الرقصة ستكون هديتي لك في ليلة العُرس .

فرحاً غادرتها يا دكتور ، أبحث أنا الآخر عن رسم و تصميم لقصر تسكنه ، لم يسكنه أحد من قبل ، ولبثت يا دكتور يوماً أو بعض يوم ، وعدت أحمل تصميماتي وأفكاري و نظرياتي ، لأجدها في حالٍ غير الحال ،..

قالت :

- " اكتشفت أنك البراق الذى أمتطيه في رحلة الإسراء " ..

وتكلمت عن الصعود و العروج ، و المسالك و الدروب ، تكلمت عن الكرامات والفيوضات، والنفحات ، كنت أجلس إلى جوارها و أشعر أنها مجذوبة ، ولا تفطن إليّ ولا تشعر بي ، تحدق في اللاشيء و تبتسم ، وحين تفيق تنظر إليّ وتقول : أعد البصر كرتين ثم ...، اقترب يا صلاح ، أنت على أعتاب الوصول ، لم يبق أمامك إلا خطوة .. بل خطوتين .

وحين قرأت يا دكتور ما سودته في أوراقها ، وجدت ألغازاً وأحاجي تستعصي على الفهم .. قالت: إشارات .. وكأن في السماء مغناطيس يا دكتور ، يسحب عينيها ورُوحها ، وفي لحظة من لحظات الإفاقة القليلة .. القليلة جداً .. قالت : ياه .. ياه يا صلاح ، غبت طويلاً ، وصرت عجوزاً ، وابتسمت ، وقبل أن أنطق غابت بعينيها في السماء ، صرختُ فيها : أنا كما غادرتك شعري قصير ، وذقني حليق ، أفيقي يا حبيبتي ، في هذه الأوراق أفكاري ، وفي هذه اللوحة تصميم قصرك ،.. قالت : " قصري هناك ، أراه ، لا أستطيع أن أصفه بكلمات ولا نغمات ... أفيقي يا حبيبتي ، قصرك ها هنا على الورق !!

.. وفي ثوانٍ .. ثوانٍ معدودات ،فاضت روحها بين يدي ..

ثوانٍ .... بضع ثوانٍ فقط يا دكتور ...،...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى