ميمون حِرش - حقائبُ.Com

الحقيبة الأولى
في ميناء "بني أنصار" ركن سيارته في ذيل طابور مع سيارات أخرى محملة يقودها مهاجرون عائدون مثله من ديار الغربة، بينهم نساء قليلات وراء المقود، وكل سيارة تتبدى من الخارج كما لو فرّت من مصير مجهول إلى مصير آمن، لذلك، فضلا عن بني آدم، هناك أحمال كثيرة داخل وخارج السيارة، بل وهناك سيارات لا تكتفي بمن يقودها، بل تجر وراءها ربيباً وقد تكتفي بحمله فوق سطحها، هو حابل أيضاً بما لذ وطاب ربما، وبما تعافه النفس ربما ثانية، لذلك لا حرج من أن يتجشم هؤلاء تعب قطع كل هذه المسافة محملين به، هو شعار العودة غالباً.
أخذ "ع" مكانه في الصف، وهو لا يفتأ يتمتم بعبارات مبعثرة بالألمانية، لم يكن أحد يسمعه، بدا كأنه يحتج لغياب التواصل معه، أمامه أشكال من سيارات شتى تنتظر دورها في المرور، بعض الراكبين خرجوا من سياراتهم، وانتشروا حولها كما يفعل الهنود حول نيرانهم.. كان الليل قد أرخى ظلاله، ومنح الميناء لون شفق دائم، الأضواء زادته رونقاً في صيف هادئ يغري بالسهر، وبالسكر، والأكل وبأشياء أخرى.
السيارة التي يُكتب لها المرور تُودع كعروس من طرف المستقبلين الذين يوزعون الابتسامات مجاناً، معها بعض الأدعية أحياناً، تكون حارة لمن لا يبخل عليهم ببعض الهدايا.
"ع" حين جاء دوره صافحته المستقبلات بحرارة، رد عليهن بأن وزع على كل واحدة منهن علبة من علب المناديل، جميلة الشكل، وبعد أن توارى كقذيفة نظر في مرآة سيارته وقال: "اللعنة".
كان يلعن حظه لأنه عاد.
الحقيبة الثانية
امرأة تجاوزت الأربعين، أمسكت بالمقود بثقة، أدلقت رأسها من سيارتها، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة بريئة، لتجيب عن أسئلة بعض المستقبلين في المطار، تمتمت بعبارات ليست منسجمة، لكنها تعبر عن رغبة ملحة لمعانقة الأحباب، وتشنيف الأسماع بالريفية المخملية الرومانسية، وكذا تقبيل تربة أديم الأمكنة حيث عاشت، نظرت إلى أطفالها الصغار، كانوا يرمقونها ورؤوسهم متدلية تكاد تلامس ميكروفون صحفي منسجم في حوار معها، شرحت له مجيبة عن سؤال تقليدي:
"إنها نعمة أن يكون المهاجر فوق أرض مدينته، ويحس بأنه آمن وسط أهله".
الإنسان قد يطير، و قد يبحر، لكنه في الحالين لا يحس نفسه مولوداً إلا فوق أرضه حيث يصبح، بالنسبة إليه، كل شيء مباركاً، ولذيذاً، حتى الشتيمة حين تمتزج بهوى الريف، وتُقال بلغة الأم يصبح لها شكل آخر، فبدل أن توغر القلوب، تغسلها من الداخل لأن الرسميات أحياناً تجشم على القلوب، وتخنق الصدور، فلا بأس أحياناً من إزالة الكلفة بين المهاجر وبين أقرانه، وأترابه.
وحين ابتعد الصحفي، تنفست الصعداء كأن كل ما قالت مجرد إملاء ثقيل، نظرت من زجاج نافذة سيارتها، أخذت نفساً عميقاً، ثم فتحت الباب، مدت يدها، أخذت حفنة من تراب الأرض من شرخ اسمنتي، تحسستها في كفها، شمتها، ثم نثرتها بطريقة منسابة، الأطفال تتبعوا المشهد باندهاش، قال أكبرهم:
waw..
علقت الأم على صرخته شارحة:
"إنها رائحة الأرض تغزو القلب وتغسله من الداخل، فتجعله يرق، فتسطع داخله شمس صغيرة بحجم قلب طفل صغير يحب أمه بعمق ".
Aussi que moi mam (رد ابنها الأصغر)
الرائحة هي آخر ما يخلفه المهاجر حين يغادر وطنه، ويترك أهله، وبها يتعرف الوطن أولاده حين يعودون، ومن غيّر جلده منهم، أو عمل على تغيير رائحته يلفظه الوطن، والرفاق يمدون لهم لسانهم ساخرين، ويعتبرونهم غرباء لا مكان لهم وسط الأهل والأحباب، فليس هناك ما يثير تربة الأرض أكثر من وطء أقدام فوقها تغيرت خطواتها، وأصبحت بمقاس آخر، لأن للأرض حدسها، ورائحتها نفاذة تغزو قلوب المخلصين، بيد أنها تخز المتحولين، ومن لم يخطب ودها تدير له ظهرها، وتتقيؤه، وحين تفعل الأرض ذلك يصبح المرء بلا هوية، فمن لا أرض له لا اسم له.
تأكدت السيدة من كل هذه الهواجس الدفينة أكثر إثر وصولها حين عانقت أمها التي انتظرتها طويلا، لم تقبلها فقط بل كانت تشمها في مناطق من جسدها أحست معها بدفء الأمومة التي تزيدها القبل طعم ماء بارد زلال في صيف ربيعي تحت الظل.
مضت أيام الأسبوع الأول من عطلتها بسرعة، فكرت:
"أيام العطل قليلة دائماً مهما كانت كثيرة، إنها كما الماء تتنخل من بين الأصابع دون أن نرتوي"..
الأسبوع الثاني من عطلتها خصته لطقس تسميه " نميمة بيضاء من أجل بلدتي" تعني به التجوال في شوارع مدينتها والسير في أزقتها على غير هدى، كالمجنونة، لا تفتأ تسأل عن أحوال كل الناس، من تعرف، ومن لا تعرف، وسؤالها المشترك الأول لازمة هو: "هل تحس بالفرق بين اليوم، والأمس؟.. هل مدينتنا تتغير إلى الأحسن؟..
مدينتها- الناظور- تغيرت كثيراً، بدا العمران يغزوها، والكورنيش الجديد جملها كما العروس، في الليل لم تعد تشكو المدينة جحود أهلها، لم تعد تُترك كما في الخوالي مدينة مهجورة في الليل، والنساء بتن يؤثثن شوارعها في جولات مع الأزواج، وصحبة الأولاد ذهاباً وإياباً في الكورنيش، خُطاب المدينة أصبحوا كثراً و مهرها في الصيف يزداد غلاء، تطالب العائدين إليها بثمن غالٍ، هم يدركون تباهيها بهم، تنتعش بعودتهم، وبحضورهم يركب الرواج أجنحة، وتندلق التجارة، وتنتعش في أمكنة شتى بسوق المركب، وسوق أولاد ميمون، وفي القيسارية، فلا تكاد تجد كوة للتحرك بسبب الاكتظاظ؛الباعة والمشترون يصبحون جزءً من الديكور في هذه الأسواق، والأمكنة، في بعض زواياها، تتلصص منها عيون جاحظة ترقب الفتيات اللواتي يتوزعن بين من ترتدي أزياء تكاد تخفي كل شيء، وبين من تلبس من أجل إحصاء "الممتلكات" حتى تُعرض في المزاد العلني مما يغري بالمعاكسة التي تغدو في الصيف حارة، وحارقة.
ومع كل هذه الحركة، تجد من أهل التجارة من يشتكي، ويعزو بوار تجارته ليس للأزمة الاقتصادية العالمية، بل لبخل المهاجرين، وهم يرون أن العائدين لم يعودوا كما كانوا، برأيهم هناك حلقة مفقودة فيهم، تغير شيء ما فيهم، لم يعودوا أجوادًا كما في الخوالي، إذ لا يقبل أحدهم على الشراء إلا بعد أن يساوم البضاعة بشكل مستفز، وقد لا يقبل عليها إلا بعد أن يكون سبباً في ارتفاع ضغط البائعين، أياديهم لم تعد تُبسط بسهولة، صارت مغلولة أكثر من اللازم، حرثتها لعنة البخل، وخضبتها أخاديدُ الإمساك لذلك لم تعد تتحسس الجيوب إلا لماماً، كما لو أن عقارب تربض هناك بسلام؛ بهذا يتحدث بعض الباعة هنا في المدينة، وهو حديث من قيل له - خطأ- من لم يستنفذ جيوب المهاجرين المغتربين لم يذق طعم حلاوة هذا الصيف.
علقت المرأة على هذا المنكر قائلة:
"هؤلاء الباعة مساكين، هم يظنون أننا، هناك وراء البحار، نغرف البحر مالا، وننحت الصخور ذهباً، فلو يدركون مبلغ ألمنا في كسب بعض "الأورو".
الحقيبة الثالثة
تشي سحنة صاحبها، وطريقة ملبسه أنه ليس من هنا، كل مرة يعود فيها يجتهد، في أن يجعل نفسه غريباً عن أترابه غربة كاملة..
بعد مدة من مكوثه في البلدة، قر قراره بعد تردد لأن يحضر عرساً أحياه شاب من شباب الحي، كان يوماً، قبل أن يسافر، صديق طفولته، ولولا نداء هذه الصداقة ما كان ليحضر أبداً؛ إنه، منذ سفره، بات يعتبر طقوس الأعراس في بلدته ضرباً من ضروب التخلف حين يقارنها بما يحصل هنالك حيث يعيش وراء البحر..
وصل مكان العرس متأخراً، وبدون هدية، نظر إلى أترابه، وسلم عليهم دون أن يصافحهم، كانوا كثراً، لم يكن يرى منهم أحداً، كان مثل هرٍ يحاكي صولة الأسد، مترفعاً كأعجاز نخل.
أومأ إليه العريس أنْ تعال فسار إليه وهو يهز عِطفيه، أحس نفسه فوق أرض لا تسعه بسبب صلف مجاني.
أخذ مكانه بين أترابه بعد أن هنأ العريس، ثم أثار أعصاب حتى الذباب حين بادر أترابه بالقول دون مقدمات:
"نحن عندنا هناك في الضفة الأخرى، الأمر مختلف عما لديكم هنا".
التقط أحد الحاضرين كلامه، ثم همس لجليسه قائلاً:
" (عندهم وعندنا)، إنها قسمة ضيزى والله، هم عندهم، ونحن عندنا، ألسنا من طينة واحدة؟!.
يرد الآخر:
بعضهم يقول ذلك عرضاً دون قصد، لكن غيرهم- وهذا واحد منهم- يعنون ما يقولون، ويحرصون على أن نسمع منهم ذلك متخيلين أنهم أفاضل ماداموا يعيشون وراء البحار..
أضاف متنهداً:
أجلاف، ومساكين لأنهم ينسون الطينة التي جُبِلوا عليها.
أليس من حقهم أن يتبجحوا؟ (تساءل أحدهم ).
أجابه رفيقه:
من حقهم ذلك، لكن عليهم فقط أن يعلموا، أن أكاذيبهم أصبحت بائخة مثل نكتة، ومن كثرة شيوعها، لم تعد تثير ضحك أحد، ببساطة لأن العالم قرية صغيرة الآن، ونحن نعرف جيداً- وهم أيضا يعرفون- ما يحدث هنا عندنا، وما يحدث هناك حسب تقسيمهم، فعلى من يضحكون، فليوقفوا ترديد أغانيهم السخيفة".
شاب أنيق في زاوية أخرى علق بغضب وهو يحدق في عائدهم:
ما أغرب حال بعض العائدين إلينا!
التقط شاب آخر يجلس قربه الكلام وعلق قائلاً:
والله صحيح، البعض منهم مخمورون بنشوة العودة إلى مدنهم بنوع من التباهي، يلبسون سراويل قصيرة تثير الضحك، ويضعون الساق على الساق، ليسردوا لنا نحن - المغضوب عليهم- حكاياهم عن مغامراتهم، وهي بالمناسبة كلها بطولية...
ضحكوا بهستيرية، وقال أحدهم:
أضف أن منهم من لا يتكلم، لكن الصمت، والحركات، والإيماءات، ونظرات العيون تفضح المستور.
قال أكبرهم سناً في المجلس:
إيه، يا أولاد، حين تقتنعون وتفهمون لماذا يفعل أحدهم ذلك ستدركون أنه معذور، فلا تدعوا صدوركم بالعتاب يمور، وليكن كل واحد منكم الناصر والمنصور.
الحقيبة الرابعة
فتح حقيبته للمرة الرابعة بعد أن أحكم إغلاقها، وربما أكثر، لم يعد يعرف، ومها تكن فهي المرة الأخيرة التي يفتحها.. نظر في ثيابه، وبعض الهدايا ثم بعثر كل شيء كالمجنون، ألقى بعضها عرض الحائط، مد عنقه من نافذة شقته، وصرخ كممثل:
" لن أسافر..
إنه قدري
لست عائداً
احذفوا، إن شئتم، اسمي من اللائحة،
فَمُذْ كنتُ أفلحتم في تجريدي منِ اسمي
وحتى من الرائحة.."
وطني مجرد حقيبة، علمني أن أتأبطها،
وأهيم كالمجنون في أرض غيري"...
الحقيبة الخامسة
نظر إلى حقيبته فحار بين عقلين، الأول يقترح عليه العودة، والثاني يجمل له تأجيلها إلى أجل غير مسمى...
نظر في المرآة، ألفى نفسه يحمل رأساً واحداً، لكن بعقلين، حمد الله لأن غيره يعدمهما معاً، ومع ذلك استسلم لعقل ثالث تبدى في المرآة، لم يكن له، ولكنه استساغه، وقرر نزولاً عنده أن يسافر في الغد،
وحين كان ذاك الغد غير رأيه لأن في حلمه انصاع لعقله الرابع.
الحقيبة السادسة
( ق ) لا اسم له في البلد المهاجر إليه، لا يملك حقيبة، ولا بيتاً، ولا عملاً لذلك آخر ما يشغله هو السفر، ولكنه مع ذلك يفكر أحياناً في العودة، يعتبرها، كما الموت، حقاً مؤجلاً.. هو الآن مهيض الجناح، وحين يفرع ريشه سيعود..، مؤكد سيعود لكن ليس خاوي الوفاض...
الحقيبة السابعة
مشرعة، لكن فارغة من الداخل، تنتظر يوماً مكتوباً، يوقع ديباجتَه فارسٌ يعشق السفر، وفي انتظار هذا الآتي لا تزال تحتفظ بالأرقام السرية لقفلها، لن تهبها سوى لمن يستحق، مهرها الورقة الخضراء، ولا بأس أن يتغير لونها بشرط أن تكون كثيرة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى