د. عادل الاسطة - رام الله : قراءات متعددة

في العام 1988 أثارت قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر " ضجة كبيرة لا تكاد الضجة التي إثارتها رواية " جريمة في رام الله " تذكر أمامها .
ترجمت قصيدة درويش ، خلال شهرين ، إلى العبرية سبع ترجمات مختلفة ، كانت كل ترجمة تعكس قراءة صاحبها للقصيدة وفهمه لها .
في ذلك العام كنت أدرس في جامعة ( بامبرغ ) بالمانيا ، وقد لفتت قصيدة الشاعر وترجماتها أنظار المستشرقة الألمانية ( انجليكا نويفرت ) التي أنفقت عامين في الجامعة العبرية ، بسبب تعاطف جيل الشباب الأوروبيين ، في العام 1968 مع اليهود ، وتعلمت خلال العامين العبرية وإجادتها ، وكان أن أنفقت ( نويفرت ) معنا فصلا كاملا في تحليل " عابرون في كلام عابر " مستفيدة منا ، كطلاب عرب ، في فهم القصيدة .
كان السؤال اللافت الذي أثارته المستشرقة هو :
- من هو المتكلم في القصيدة ؟ وباسم من يتكلم ؟
- هل يتكلم باسمه الشخصي أم يتكلم نيابة عن أهل الضفة الغربية وقطاع غزة المنتفضين ؟
- وعلى من ينسحب الضمير في قول درويش " اخرجوا من برنا، من بحرنا " ؟
- هل يقصد ببرنا وبحرنا فلسطين كلها والبحر الأبيض المتوسط / فلسطين أم يقصد الضفة الغربية وقطاع غزة ؟
كانت كل ترجمة من الترجمات السبعة تمثل قراءة المترجم للقصيدة ، ولما اطلع الشاعر الذي يتقن العبرية على بعض الترجمات سخر من مترجميها ومن فهمهم للقصيدة ، ورأى أن قسما منهم ترجم ما في ذهنه ، و قول القصيدة ما لم تقل ، وقد جمع درويش آراءه في الترجمات والتأويلات في كتاب جعل عنوانه عنوان القصيدة التي لم يدرجها في أي ديوان " عابرون في كلام عابر " .
ثمة مقولة نقدية ترى أن القراءات تتعدد بتعدد القراء ، فالعلاقة غدت ؛ في نظر أصحاب نظرية التلقي ( ياوس وايزر ) ، بين النص والقاريء ، وما عادت بين المؤلف والنص ، ولو جمعنا القراءات التي أنجزت حول رواية " جريمة في رام الله " للاحظنا تعددها واختلافها ، تعدد القراء واختلاف وجهات نظرهم ومواقفهم . والسؤال هو :
- ماذا سترى لجنة النقاد في الرواية ، وهل ستقطع جهيزة قول كل خطيب ؟
ويمكن أن أقول بوضوح :
- قل لي من هي اللجنة وما هي توجهات أعضائها لأقول لك مسبقا ماذا ستقول .
في مساق مناهج النقد الأدبي غالبا ما أتوقف أمام مناهج عديدة لقراءة النص الواحد ، وكل منهج يقدم قراءة وفق ما يراه .
حين يقرأ النص ناقد تحليلي خالص فإنه لن يلتفت إلى الموضوع في الرواية ، فما يهم الناقد هذا هو تناسق أجزاء الرواية ، وجمالياتها وتكامل عناصرها وساعتها . الجانب الجمالي هو ما يعنيه والسؤال الذي يثيره هو :
- هل النص قائم بذاته ؟ وهل وظف الجنس لخدمة العمل الفني ؟
يختلف الناقد النفسي المحترف في تحليله للنص . إنه سيدرس الشخصيات واحدة واحدة وسيحللها اعتمادا على احاطته بعلم النفس . هل رؤوف الذي رأى يد دنيا في الحافلة وعشقها لدرجة أنها سيطرت على عقله ولم يعد يرى امرأة أخرى مثلها ، هل رؤوف هذا الذي تحول إلى مثلي إنسان سوي ؟ ولماذا آثر الانسحاب من المدينة عائدا إلى قريته ؟ ما سر عدم انسجامه مع الواقع الجديد ؟ أهي صدمة الريفي المحافظ من المدينة المنفتحة ؟ وحين يحلل الناقد النفسي المحترف شخصية نور / صهيب فإلام يعزو انحرافه وتحوله إلى المثلية الجنسية ؟
هل يعزوها إلى أسرته المتدينة المتشددة أم إلى رفاق السوء في المدرسة ؟ وما الذي دفع وسام إلى الانتحار بعد مقتل صديقته ربا ؟
وأما الناقد الأدبي النفسي فسيدرس سيرة عباد يحيى الكاتب وسيسرد بعض المحطات المؤثرة فيها ليحلل شخصيته ، ويبين تأثير أحواله النفسية على كتابة هذه الرواية وروايات الكاتب الأخرى ، فلكي نتذوقه فنانا علينا أن نعرفه انسانا .
وأما الناقد الاجتماعي الماركسي فسيرصد التحولات التي شهدتها رام الله في العقود الثلاثة الأخيرة ، وتحولها من مدينة صغيرة أشبه بالقرية إلى مدينة كبيرة ، وملاحظة التغيرات الاجتماعية التي رافقت هذا التطور ، وانعكاس هذا كله على سلوك الأفراد، وسيدرس التطورات الاقتصادية الكبيرة التي المت بالمدينة وانعكست أيضا على العلاقات الاجتماعية .
الناقد الأخلاقي المحافظ الذي يربط بين الأدب والأخلاق لن يرى في رواية " جريمة في رام الله " أدبا . سيرى فيها شذوذا وانحرافا ، وإن كان واسع النظرة فقد يقول : هذا ما يؤول إليه الشباب حين تتحلل الأسرة ولم يعد الابن خاضعا لسيطرتها ، ولكنه من المؤكد سيرفض الرواية ، وخلافا لهذا الناقد الناقد الليبرالي الذي درس في الغرب الذي يرى في سلوك رؤوف ونور ووسام وربا سلوكا تعرفه المجتمعات الحديثة في المدن الكبيرة ، وسيرى أن الرواية انعكاس لواقع المدينة في تطوراتها وتشكلات سكانها الجديدة ، وهذا أمر ليس بمستغرب .
منذ فترة طويلة وأنا اهييء نفسي لكتابة مراجعةدراسة عنوانها " جوانب الانحراف العقدي والأخلاقي في شعر محمود درويش. " للدكتور يوسف شحدة الكحلوت من غزة. لقد حاكم د . يوسف الشاعر وأشعاره من منظور أخلاقي ديني وخلص إلى النتيجة التالية :
" الأنبياء عليهم السلام كانوا محط سخرية واستهزاء من الشاعر " و " انحطت أخلاق الشاعر في دعوته للاباحية الجنسية ، ومعارضته للزواج ، وقد مارس ذلك قولا وفعلا ..".
ماذا سيحدث لأشعار محمود درويش ولمتحفه إن غدا د.يوسف وزيرا ؟
5 / 3 / 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى