أمل الكردفاني- دور ثانوي- قصة

إنَّ المسرح الذي تتحرك جدرانه وتتراقص قاعدته، لا يمنحك كممثل القدرة على لعب دور جاد..إنه مثير للضحك..وهكذا اختار هذا المخرج المجنون أن يكون مسرحه كأغنيات تو-باك.. لقد ضحك المتفرجون حتى ضرط بعضهم، وتقيأ البعض الآخر وأغمى على الفتيات الرقيقات، ونحن نتأرجح فوق خشبة المسرح المتراقصة، نسقط يمنة فنصطدم بالجدار، ثم نرتد يسرة فنسقط في الجدار المقابل، وبعضنا سقط فوق الجماهير، فسددوا له لكمات وصفعات وهم يقهقهون ويجرعون زجاجات الخمر ثم يمررونها لبعضهم. كان عليَّ أن أتكلم كثيراً، فدوري مليئ بالكلام..الكلام..الكلام الذي لم أفهمه كما لو كنت أحد شخصيات بيكيت...أن اتحدث..أثرثر في الواقع..لكنني نسيت كل شيء وتداخلت الكلمات واختلطت الجمل، وصاح المخرج: هذا هو..هذا هو..واصلوا.. وصاحت الجماهير..والمسرح يتراقص..يعلو ويرتفع ..الجدران تميد، تلطمنا ونلطمها..إحدى الممثلات وهي شابة مستجدة، أصبحت تصرخ بهستيرية..حاوَلت الهرب من الكواليس، لكن الكواليس أُغلقت، حاولَتِ القفز من الخشبة لكن الجماهير مزقت ملابسها ثم اغتصبوها ورموا بها للمسرح مرة أخرى..فسقطت مغشياً عليها.. صاح ممثل عجوز مطالباً الكهربائي الذي يحرك المسرح أن يتوقف، غير أن العامل أخذ يقهقه بغبطة بالغة وزاد من كهرباء الخشبة المتحركة، فازدادت سرعة حركتها..كان ذلك جنوناً.. أصابت اللوثة الجماهير..كلما سقط منا ممثل كانوا يضحكون..كلما سال الدم من أفواهنا ورُكَبنا كانوا يرموننا بقمامتهم ويصرخون..فتح الشرطي الباب فانهمرت حشود من الناس لداخل المسرح..وازداد الهرج..صاح المخرج: شغلوا أغنية بإيقاعات صاغبة.. وبدأتُ أشعر بالغثيان...الغثيان الشديد..كنت أحاول حماية صبي في الثانية عشر من عمره..كان دوره ثانوياً وعابراً لكنه تورط معنا.. الصبي كان صامتاً بذهول...وحين ضجت الصالة بالإيقاعات والصراخ..اتسعت عيناه وأضحى يصرخ بهستيرية...واتبعه المخرج: هيا..لا تتوقفوا.. واصلوا التمثيل يا كلاب.. لن تجدوا مثل هذه الفرصة مرة أخرى..أنتم تدخلون إلى العالمية يا كلاب.. انبحوا انبحوا..هيا انبحوا...هيا أيها التافهون..أنتم تحصلون على قيمتكم الآن بعد سنوات طويلة من التشرد..صحت: "تعال وشاركنا المجد أيها.." غير أن الجدار ارتطم برأسي...ورأيت الكون يظلم..والأصوات تختفي...
...
فتحت عيني بصعوبة..رائحة الدم والبول والغائط تفوح فأدرت راسي ورأيت جثث الممثلين..والصالة خالية.. أما المخرج فكان جالساً على البعد، يدخن بصمت ويضع ساقاً فوق ساق..نظرت إليه ببرود. فانزل ساقه عن الأخرى ونهض وغادر وهو يقول مقهقهاً:
- لن تصنعكم سوى الخيبات يا فتى..عد إلى الواقع..
....
كانت الشوارع باردة..ولكن جثة الصبي فوق كتفي كانت أكثر برودة..كان عليَّ أن أدفنها..لكن الشوارع كلها معبدة..لقد اخترع الإنسان الدفن لسبب ما، وربما لعدة أسباب، وفي كل الأحوال، فعلى جثة الصبي أن تتحلل.. أن تتحول إلى هباء.. لماذا؟ لست أدري...كان وجهه محطماً تماماً، أسنانه في أذنيه وأنفه تحت شفتيه..وأمَّا عيناه فكانتا محمرتين ببقع الدم المتخثر..
....
أسبلتُ جثته على الأسفلت وسط الطريق السريع..ووقفت بعيداً.. عَبَر الليل ومن تحت قبته عبرت مئات الشاحنات السريعة..كانت كل عجلة من عجلاتها الضخمة تحمل قطعة من جسد الصبي..وحين أشرف الفجر تقدمتُ قليلاً ولم أرَ أثراً للجسد سوى بضعة قشور من الجلد وسناً صغيراً ونقاطاً من الدم الملتصق بالأرض.. فأحسست بالإرتياح..لقد أتممت رسالتي في الحياة..أتممتها كما يجب...

(تمت)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى