أنور محمود زناتي - النفس فى التراث العربي.. من لم يختر مستقبله لم يجد ماضيه

قدم علماء العرب والمسلمين إسهامات كثيرة في مجال علم النفس تبهر كل من اطلع عليها، فقد تشكّل علم النفس في التراث الإسلامي كما تشكلّت معارف المسلمين المختلفة، وعلم النفس في التراث الإسلامي لم يكن صنعة يجتمع عليها فئة من الدارسين كما كان النحو صنعة تجمع النحويين والشعر صنعة تجمع الشعراء، ولكن استخدم علماء التراث المناهج بأسلوب علمي كالاستبطان، والملاحظة ، ودراسة الحالة إلا أن هذا العلم توزع بين المؤلفات التراثية المعنية بأسس السلوك البيولوجية والكتب الفلسفية، والفيزيائية والرياضية وقد عالج علماء التراث الظاهرات النفسية كل من زاوية اهتمامه العلمي، وكان للمسلمين فضل السبق والإضافة في كثير من مجالات علم النفس.

وتعد كتب التراجم وطبقات الأعلام التراثية، وبعض هذه الكتب غنية بمادتها السيكولوجية، مثل طبقات الأطباء (ابن أبي أصيبعة وابن جلجل) وبعضها يتسع ليشمل تراجم جميع أعلام الفكر، وتوفر هذه المؤلفات قاعدة متينة تمكننا من متابعة تطورات المفاهيم

وكتب الأدب والمصنفات الأدبية مثل: كتاب الأغاني، الإمتاع والمؤانسة، والعقد الفريد، وتحتوي هذه المصنفات على تفاصيل هامة كانت قد أهملت أو اختزلت وكذلك المؤلفات الفلسفية ، والتي تضم آراء الفلاسفة في النفس، إضافة إلى بعض النظريات الهامة، والتصورات والتي تشكل أساساً نظرياً لشرح التصور الإسلامي للإنسان وحياته النفسية.
ابن سينا (370-428هـ/980-1036م) :

ولعل خير مثال على ذلك جهود ابن سينا في هذا المجال فقد سبق علماء الفيزيولوجيا والسيكولوجيا المعاصرين في قياس الانفعال على أساس قياس التغيرات الفيزيولوجية المصاحبة له، ففي علاجه لأحد المرضى شك ابن سينا بوقوع المريض في الحب الذي تحول إلى حالة عشق، وحاول معرفة اسم الفتاة التي يعشقها المريض وابتكر طريقة طريفة، وهي أن يقول للمريض عدة أسماء لبلاد وأحياء وفتيات، وكان يقيس أثناء ذلك سرعة نبض المريض لمعرفة مقدار الانفعال الذي تثيرة هذه الأسماء، وقد استطاع بهذه الطريقة أن يعرف اسم الفتاة التي كان يعشقها المريض، والمكان الذي تعيش فيه، وتعتبر هذه الطريقة إرهاصاً مبكراً لاختراع الجهاز الحديث المعروف باسم (جهاز استجابة الجلد الجلفانية) والذي ؤيسمى أيضاً (جهاز كاشف الكذب)، وأشار ابن سينا كما أشار الفارابي من قبل إلى الأسباب الأهم لحدوث الأحلام، والتي توصل إليها العلماء المحدثون فيما بعد ، ومماذكره كل من الفارابي وابن سينا أن بعض الأحلام تحدث نتيجة لتأتير بعض المؤثرات الحسية التي تقع على النائم، سواء كانت هذه المؤثرات الحسية صادرة من الخارج أو من داخل البدن ،قال ابن سينا في هذا الصدد( ...ومن عرض لعضو منه برد أو سخن بسبب حراً أو برد حكى له هذا العضو منه موضوع في نار أو في ماء بارد )وقد دلت البحوث التجريبية المعاصرة على صحة ذلك، كما قال كل من ابن سينا والفارابي بالرمزية في الأحلام .

ويبتدع ابن سينا جديدا فى علاج مريض الميلانخوليا، والذى امتنع عن الطعام والشراب حتى نًحُل، مع هذاء يتصل بكونه بقرة، وبعد أن يحار الأطباء فى علاجه، يذهب إليه ابن سيناء " وكان فى ذلك الوقت وزيرا" فى إهاب قصاب ( جزار ) ومعه مساعداه، وكان قد أوصى أهله بان يخبروه بأن الجزار قادم لذبحه.

وقد " ركب الأستاذ ( ابن سينا ) وجاء فى موكبه المعتاد إلى قصر المريض ثم دخل مع رجلين والسكين فى يده وقال أين هذه البقرة لأذبحها، فقلد الشاب المريض خوار البقرة، مما يعنى أنه هنا ، فقال الأستاذ جروها إلى فناء القصر وأوثقوا يديها ورجليها وأضجعوها ، فلما سمع المريض هذا جرى إلى وسط القصر واضطجع على جنبه الأيمن … ثم جاء أبو على ( ابن سينا ) وسن السكين على السكين ثم جلس ووضع يده على خصر المريض كعادة القصابين وقال " وه ، يالها من بقرة هزيلة، إلا أنه لا يحل ذبحها ، أعلفوها حتى تسمن … " وتتتابع القصة التى حكاها النظامى العروضى السمرقندى فى الحكاية السابعة من المقالة الرابعة من كتابه " جهار مقاله ".
مسكويه ( ت 421 هـ / 1030م ):

واشتهر مسكويه بكتابه ((تهذيب الأخلاق)) الذي اهتم فيه بالنفس وما يتعلق بها من عوامل فيرى ((أن النفس وإن كانت تأخذ كثيراً من مبادئ العلوم عن الحواس فلها من نفسها مبادئ أخرى وأفعال لا تأخذها عن الحواس، وهي المبادئ الشريفة العالية التي تبنى عليها القياسات الصحيحة..

ومن رأيه أن النفس العاقلة فينا هي بمثابة المجهر الذي يستدرك شيئاً كثيراً من خطأ الحواس في مبادئ أفعالها .. ويضيف في تعريفه للنفس بقوله: ((فالنفس ليست بجسم ولا بجزء من جسم ولا حال من أحوال الجسم، وإنها شيء آخر مفارق للجسم بجوهره وأحكامه وخواصه وأفعاله)) (ابن مسكويه، 1985، 4).

ويقسم ابن مسكويه النفس إلى ثلاثة قوى كما يلي:

((القوة الناطقة)) التي يكون بها الفكر والتمييز والنظر في حقائق الأمور، و((القوة الغضبية)) التي يكون بها الغضب والنجدة والإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وضروب الكرامات، و ((القوة الشهوية)) التي يكون بها الشهوة وطلب الغذاء والشوق إلى الملاذ في المشاكل والمشارب والمناكح وضروب اللذات الحسية.

ولكل قوة من هذه القوة فضيلة خاصة بها. فالقوة الناطقة فضيلتها الحكمة، والقوة الغضبية فضيلتها الشجاعة، والقوة الشهوية وفضيلتها العفة.
أبو حامد الغزالى ( ت 505 هـ / 1111 م ) :

كما أن المستويات الثلاثة للنفس والتى يشير إليها فرويد، الهو ، والأنا، والأنا الأعلى، نجد ملمحا لها فيما يورده أبو حامد الغزالى فى الجزء الثالث من كتابه إحياء علوم الدين، والذى ترجم للألمانية عام 1913، عن النفس اللوامة ( الأنا الأعلى ) والأمارة بالسوء ( الهو ) والنفس المطمئنة ( الأنا ) .
الكندي :

واهتم الكندي بالتربية والتأديب، وفي هذا الصدد يذكر الأهواني أن طريقة التأديب إذا وقع من الصبي مخالفات هي التغافل أولاً، ثم التوبيخ، ثم الضرب، ((لأنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة)) ويُمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل.

وما أكثر ما يمكن أن نستشهد به من أراء لمستشرقين ومشتغلين بتاريخ العلم فى الغرب عن فضل الحضارة العربية وإسهامات علمائها فى شتى مناحى العلوم ومنها النفس قاله البارون كارا دوفو وهو أحد أعلام الاستشراق الفرنسى وممن اهتموا بابن سينا فى مطالع قرن ماضٍ ، اذ يرى "ان الميراث الذى تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به ، أما العرب فقد اتقنوه وعملوا على تحسينه وانمائه ، حتى سلموه للعصور الحديثة " ( 2 ) سارطون ـ أحد اكبر من اهتموا بتاريخ العلم: " إن بعض المؤرخين يحاولون أن يتسخفوا بفضل الشرق على العمران ويصرحون بان العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئا، إن هذا الرأى خاطئ ... ولولاهم لتأخر سير المدنية بضعة قرون "" ( 3 ) .
من لم يختر مستقبله لم يجد ماضيه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى