غانم عمران المعموري - التَّمرد على المألوف في "كلّما قلتُ قالت إلى أين؟" للشاعر العراقي البابلي أنمار مردان..

تتمثل شعرية الناص من خلال سعيه الحثيث في تشكيل رؤيا قادرة على محاورة الذات والعوالم المُحيطة بها النابعة من مصادره الثقافية والاجتماعية والفكرية والفنية لخلق مزاوجة بين الموهبة الجيّاشة الّتي تتدفق من روح شفافة مُلهمة وبين مرجعياته اللغوية وتجربته الشعرية المستمدة من عمق الحضارة الإنسانية لصقلها وتحديد خصائصها " من جماع التجربة الإنسانية والتي يعيشها الشاعر بتكوينه الثقافي والسيكولوجي والاجتماعي وخبراته الجمالية في الخلق والتذوق ومعدل رفضه أو تجاوبه للمجتمع " 1.
تُمثل عنونة مجموعته " كلّما قلتُ قالت
قالت إلى أين ؟ " الصادرة من الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – بغداد لعام 2021 والمكونة من ثلاثة وعشرين قصيدة
الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل القصيدة وما تتضمنه من دلالات ومعاني واستعارات وانزياحات وتضادات..
جاءت العتبة الأولى لتُشّكل لنا صورة شعرية حوارية قُطبها الأنثى وغير محصورة بمكان ما أو زمان لإرتباطها وبُعدها العام الممتزج بالإنسان الماضي والحاضر والمستقبل والإبتعاد عن جغرافية المكان المُحدد لإنطلاقها في فضاء واسعة..
جاء الإهداء الذي يُعتبر من المنصات الحيوية التي تُحدد البُنية النفسية ومسار الناص " ألى ( بلند ) وهو يحمل اسمي " لحبه في الامتداد الفني والشعري لشخصيته التواقة لحب الفن والأدب عن طريق ولد يحمل أعباء مملكته الشعرية التي حرص على ديمومتها..
انفتحت قصيدته " جثةٌ تدسُ اصبعَها في السماء " إلى عمق التجربة الإنسانية في كل مراحلها الاجتماعية والتاريخية والنفسية وخليط من التمظهرات الخارجية والداخلية لإستيعابها من جهة " و مكثفة للوجود المعيش الذي يُعبر عنه بوصفها إنعكاساً للنسيج الحضاري المُعقد و المتداخل " 2.
كما في المقطع من القصيدة المذكورة :
" مِن مصيرٍ شقَّ جبينكَ مذُ الطفولةِ الخرساء
ها هي الحاسةُ الساسةُ تتعطلُ من جديدٍ
تثني عنقَها بشراهةٍ
وتكتبُ لهفتَها على الواقفين تباعًا
ما من شيءٍ يثيرُالشفقةَ أكثر من هذا ..." 3.
وانتقل الشاعر من خلال أرضه الخصبة القائمة على الحركية والدينامية من الاختلاف والتنوع المعرفي لبلورة رؤياه مستعيناً بالشخصيات التاريخية والأساطير والرموز والعناصر السردية للعلاقة الوشّيجة بين حركة التجديد الشعرية الّذي ينتمي إليها الناص بالتراث لغرض تأثيث علائق بين الماضي والحاضر والمستقبل ولا نعتبر الماضي قد أنتهى وإنما " هو الطاقة الابداعية التي تجسدت في منجزات لا تُستنفد بل تظل فعالة متوهجة وجزءاً من حركة التاريخ " 4.
أراد الشاعر أن يستثمر الألفاظ والمفردات التي لها بُعد مثيولوجي فني كما في قصيدة أندراوُس والّتي تعني الرجل باليونانية ويلقب في التقليد الأرثوذكسي بأول المدعوين وهو أحد رسل يسوع المسيح حتى جاءت صوره الشعرية منفتحة إلى عدة صور كما في :
يا أندَراوس
خذ أصابعك إلى الاتهام
خذ حقيبتي فهي بين بسمةٍ وأخرى
تنقلني صدفةً من عُكازٍ إلى عُكاز
ثم ودع ابتسامتك على الطريق
وقل لهم أنكم مخطئون
إنكم أغراب على هذه اللعنةِ
إنكم لم تغسلوا القمرَ من ذنوبِكم
إنكم خسرتُم بكاءِ الأدعيةِ الغافلةِ " 5.

كما أن الناص لجأ إلى تكرار( الكلمة , إنكم أغراب , إنكم لم تغسلوا , إنكم خسرتُم ) للإشارة والتعبير عن حدة الموقف الشعوري والتوتر الانفعالي في عمق الذات وبدلالات مختلفة بالمعاني ولكن لها وقع نفسي خاص وبإيقاع موسيقي داخلي وغالباً ما يلجأ الشاعر التجديدي إلى هذا التكرار، ليحقق لقصيدته تكاملها الإيحائي والتوازن ويبعث إيقاعاً مؤثراً في نفسية القارئ، وشدّه إلى جمالية التكرار وبُعده الفني ويُحقق الإنسجام في بُنية القصيدة ..
وامتد الناص في إيقاعه الشعري إلى تكرار الحرف كما في قصيدة " أنطق, وللبقيةِ الحريق " :
وأنا لا أُجيد طبول الوصايا
ولا لعبة الرملِ على جثةِ البدوي
ولا الهذيان في كومةٍ باردةٍ من النساء
ولا أُ حبذ مُقتبل عمري الذي تورم بطعناته
حتى يصل بنا الشاعر إلى نهاية القصيدة
فالملطخون بنارِ غرامِهم
أحياءٌ عند جرحهم يلمعون ....
يؤدي تكرار الحرف دور جوهري بنيوي في القصيدة التجديدية وفي ديناميتها وحيّويتها حيث أن “التكرار لا تقتصر وظيفته على تلخيص الغرض، أو توكيده بهدف التأثير في المتلقي وتنبيهه،ولا على اعتباره لازمة تفصل المقطع عما يليه، وإنما يؤدي التكرار دوراً بنائياً داخل بنية النص الشعري بوصفه يحمل وظيفة إيقاعية وتعبيرية؛ الغرض منها الإعلان عن حركة جديدة تكسر مسار القراءة التعاقبية،لأنها توقف جريانه داخل النص الشعري، وتقطع التسلسل المنطقي لمعانيه،وهذا كله يتطلب البحث عن عمق الدلالة النفسية لأثر التكرار في تحقيق جمالية النص وقوته البلاغية”6.
أما إظهار ملامح الشخصية وتعبيراتها بإيقاع موسيقي صوري وكأنه مصور فوتغرافي يتتبع بوصف دقيق دلالي وتجسيدها بأدق التفاصيل كما في قصيدته : " بورتريه " :
الخريف في أوجِ زحمته
الدمُ المدنسُ في بكارةِ راهبةِ المعبد
يحلمُ بالخروجِ إلى أقرب قمامةٍ ..
البريدُ كان ثملاً هذا المساء
ولا انتظارَ في وحشةِ الجوع ...
مثل تابوتٍ
لا تتفوه فحولته بشيء
حين يعود فارغًا
هكذا أرى النباح أنا ..,7.
يستمر الشاعر في هذيانه الثوري والتمرد على كل مظاهر الفساد والأقنعة المُزيفة التي تتستر بلباس الدين للوصول إلى غاياتهم الدنيئة كما في المقطع الأخير من القصيدة :
ولا قناع يحمي رؤوسهم النووية من حقيقة الرب
أعذروني
فأنا لا أرغب بالتنقيب عن الجنة في قبرٍ صغير ! ..

يتفاعل المتخيل الشعري لدى الناص مع الحياة والوجود وعلى أسس جمالية قوامها اللمحة الفكرية الّتي تُعد شرارتها الأولى في انطلاق صور شعرية تتخذ من التضادات والانزياحات والتشبيهات والمجازات منطلقاً في تكوين البُنية الشعرية لأن الشاعر يستطيع صهرها وتحويلها صوراً منفتحه من الصورة الأصلية للتعبير عن أهدافه ومقاصده عبر متخيل خصب فالحب الّذي ينشده من امرأة مجهولة تجعله متمسكاً بالحياة ومرتبطاً بها لأن المرأة تُمثل المستقبل الزاهر الممتليء بالحنان والعطف بعيداً عن الكره والحقد والقتل والدماء وإن ذلك واضح في قصيدته " أُشك أن أنادي لِمَ " :
-8-
لِمَ لا أبلل الدنيا
لاسترد شهوتَها بالبقاء
وألتقط مذاقها من وحشتِهِ
لأضعه قلادةً في صدركِ
ونلتصقُ أنا وأنتِ أمدًا طويلًا.8.
ويعود بنا الناص إلى تكرار الجملة في قصيدة " لم أكن وحدي " حيث أنه يحقق إيقاعاً موسيقياً متناغماً ومنسجماً بين مقطعاً وآخر ويبعث في الكلمات روح النمو والتطبيق، وبهذا يحقق التكرار وظيفته كإحدى الأدوات الجمالية اللغوية الناقلة التي تُساعده على التشكيل النسقيّ والبُنية الشعرية السليمة المُعتمدة على تحديد موقفه وصوره "لأن الصورة الشعرية على أهميتها ليست العامل الوحيد في هذا التشكيل" 9.
لم أكن وحدي :
كان عليَّ أن أزرع وجهي في الهواء
وأتنفس ضفيرتَكِ بخطواتٍ لا تعد ولا تحصى
كان عليَّ أن أفكر جيدًا حين وقفت متحايلاً على نفسي
بين أسيجةٍ تلهثُ الطوابير المزيفة منها
وأشتمُ كل الاماني التي فقدت عذريتها أمامي
كان عليَّ أن لا أشتري الشروق ...10.
لم تغيب الثورة والتمرد ضد القيّم البالية والخرافات والفساد المجتمعي والحكومي من مُخيلة الشاعر فقد أفرد لها حيزًا كبيراً ضمن قصائده ويصب نقمته على المتملقين والمُزيفين وعبيد السلطة والمال الذين يضعون الحكام في مقام الأنبياء ليؤسس من قصائده علاقة التوتر وعدم الرضا بين المثقفين وبين الفاشلين والسُرّاق ليضمرها بصور شعرية لكن ضمن إيقاعها الشعري ونسقها المنتظم وإن ذلك واضح في القصيدة " رسالةٌ ألى الحاكم " :
أطلبُ من الحاكمِ
أن يلتقط صورةً لجثتي
وبقرارٍ جمهوريٍّ
يعلقُها في الطرقِ والأزقةِ والحانات
ويطبعُها كمنشورٍ سريٍّ
لأن صورتي وأنا جثةٌ
سترممُ الخرابَ والفوضى ...11.
وكذلك قصائد ( ذاكرةٌ متعطشةٌ للضياع , علينا ولكن, في آخر الشهر, لا ظل في جوف الماء, ما أضاع ولم يقل, محاولة لقتل شهقة الشمس, ذاكرة للكسر, يوميات متظاهر عراقي, أزرعُ نومي ليخضر حلم أبيض, ...)

حتى تتجلى أجمل الصور الشعرية الثورية النابعة من قلب يُقطر دمًا من أجل أرض العراق وشعبه وتمثل الضجر من الحال السائد وتطلعه إلى تغيير شامل يعيد الحياة إلى المُدن ويقضي على الفساد كما في قصيدته الرائعة " سردٌ ملون لا أكثر " :
الوطنُ الغائبُ عن مخيلتي يفضحُ سرَهُ إليَّ يتذكر أحلامه
فأحلامه مجردُ رؤيا تتمخضُ في ذيلِ العالمِ
لم يكن يدركُ إن ما جناه من الوصايا سوى مقبرةٍ تقعُ في
الدركِ الأسفلِ,11.
تُشكل اللغة الشعرية في نصوص الشاعر المُضمرة خلفها إيحاءات تعبيرية هادفة لوحة جمالية تعكس ثقافته اللغوية عن طريق اخراج الكلمات من أُطرها الجامدة إلى فضاء التحرر من أوضاعها المعجمية إلى ساحته وامكانيته المتجددة لإنشاء علائق متطورة بين الدال والمدلول بطريقة المجاز والانزياح لخلق تجربة شعرية ناهضة بكل سُبلها التي من شأنها أن تٌحقق في نفس المتلقي والمتذوق هَزّة ولذة في كل أحاسيسه ومشاعره ..
ينسج الناص قصائده وفق رؤية نابعة من ذاته وتُعد صرخة احتجاج ضد الظلم والطغيان وكشف للواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه ويتأثر به وبيان حقيقي عن حركة المتظاهرين للمطالبة بحقوقهم المشروعة بلسان نقي لا يُساوم على الحق وقد استذكرت قصيدة للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي ( الضفادع ) يقول فيها :
رأيتهم من عرق الجياع
ومن دم الكادح, يبنون لهم قلاع
أعلى من السحاب
حتى إذا طلع الفجر
رأيت هذه الضفادع العمياء
تغازل الجياع
وتفرش الأرض لهم
وبالورد والريحان.
لذلك كان دأب الشاعر هو البحث عن الجديد الذي يتلائم مع التطورات الاجتماعية والسياسية كعنصر فعال في بناء مجمتع متماسك يتمتع بكل مقومات الحياة الكريمة.
أتمنى للشاعر المزيد من التقدم في مجال الشعر والأدب .



المصادر
1- شكري غالي, شعرنا الحديث إلى أين ...؟, منشورات دار الآفاق الجديدة , ط1, 1978, ص76.
2-حمر العين خيرة , جدل الحداثة في النقد الشعر العربي, منشورات إتحاد الكتاب العرب, 1996, ص 52.
3-أنمار مردان, كلما قلت قالت إلى أين ؟, منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق, ط1, 2020 , ص 7-8.
4-حمر العين خيرة , مصدر سابق, ص 25.
5- أنمار مردان, كلما قلت قالت إلى أين ؟ مصدر سابق , ص 12.
6- ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص306.
7- أنمار مردان, كلما قلت قالت إلى أين ؟, مصدر سابق ص19.
8- أنمار مردان, كلما قلت قالت إلى أين ؟, مصدر سابق ص27.
9- الجيار،مدحت،1995- الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي،دار المعارف،مصر،ط2،ص47.
10- أنمار مردان, كلما قلت قالت إلى أين ؟, مصدر سابق ص30.
11- أنمار مردان, كلما قلت قالت إلى أين ؟, مصدر سابق ص33.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى