د. رسول محمد رسول - التنوير والدِّين.. أيّة وصاية مُمكنة؟(1)

في نهاية القرن السابع عشر وصولاً إلى نهاية القرن الثامن صار التنوير يدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الوصاية (Guardianship) وفرض سُلطته تداولاً على الإنسان، وهو يعني أن مفهوم الوصاية كانت حفلت به الأدبيات التنويريّة في تلك المرحلة، لا سيما، وفي حدودٍ ما، عند جون لوك عبر رسالته في التسامح، وإيمانويل كانط عبر إجابته عن سؤال: ما التنوير/ الأنوار؟ وغيرهما من فلاسفة التنوير الغربي في تلك المرحلة.
لقد رفض الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 ـ 1704) والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 ـ 1804) وصاية الكنيسة على الإنسان، إذ، ومن دون الدخول إلى تفاصيل ذلك، يبدو الدين واضح البنية والسطح لمن يريد التعرّف إلى أصوله وحدوده.
ترانا ننظر في عالمنا العربي وقد أخذ الدين يستعيد شأنه في ظاهر المشهد الحياتي على نحو ما بحيث أصبح يثير الاضطراب، وليس في ذلك مشكلة؛ فالدين حقيقة روحية موضوعية في حياة الإنسان لا فكاك منها؛ إذ لا يمكن "الشطب الراديكالي للقداسة" الدينية (تزفتان تودوروف: روح الأنوار، ص 143)، إلا أنه يُفهم من وجود الدين، لا سيما بوصفه أيديولوجيا متطرّفة في حياة المرء، أنه بات يستعيد الوصاية على الناس بنحو صار مجلبة للضر، وهذا الضُّر لا يسوقه الدين في حدِّ ذاته، إنما في ممارسته - التديُّن - من جانب حامله ومسوّقه؛ فلا يمثل الدين وصاية على الإنسان لكون الدين ذاته لا يمشي في الشارع كما لو كان رجلاً يحمل عصاه الغليظة ويروم بها إخضاع الناس إليه عبر العصا، فليس للدين سوطاً ولا عصا طعن ولا سيف.
من ذي قبل، عرفنا أن الدين الإسلامي الذي قال: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين (البقرة: 256)، بمعنى لا يستطيع أي طرف إكراه الناس على الإيمان بالدين فهذا الأخير يتضمّن حرية الإيمان ويمنحها للناس عبر الاختيار، ما يعني أن الدين شأنه الحرية في طبعه. ولا أريد بذلك تحقيق رغبة إلحاديّة أو أدعو إلى الإلحاد، لأن الدِّين لا يفرض وصايته، وفي الوقت ذاته، لا يريد من الإنسان أن يفرض إرادته عليه كوصاية في وجود الدِّين من عدمه؛ فالدِّين حر الوجود مبذول الاختيار، وتلك من عناصر قوته الدائمة.
إن الدِّين في وجوده العام، وبوصفه إيماناً، قال خطابه بتمامه من دون نقصان، لكن المتن الدِّيني لا ينبغي فهمه - بحسب الفاهمة التديُّنية - كمنظومة رياضية صبّت كينونتها في لغة رقمية يمكن حسابها من دون أخطاء، فالدِّين اعتمد وسيطاً لغوياً للتعبير عن مكنونه، وله بنية علامات دالة على وجوده، ومعلوم أن الوسيط اللغوي حمّال أوجه في دلالاته، وهنا ينفتح الدِّين للتبيين والشرح والبسط والتفسير والتأويل بغية الوصول إلى ذلك المكنون، ولا ريب أن الإنسان هو الذي يُمسك زمام هذه المسالك منذ انبثاق شمس الأديان.
التأويلية النبويّة
وفي هذا الإطار، جاء اصطفاء الأنبياء المُرسَلين من الله ليبينوا ويشرحوا ويؤولوا مكنون الدِّين الذي قد يبدو عصي الوضوح على المؤمنين به أو المناوئين له، فصارت تأويلية الأنبياء رأسمالاً عضوياً مجاوراً لرأسمال متن الكتاب السماوي في كليّته مع احترمنا للفرق بينهما.
إن التأويلية النبوية لا تخطئ التبيين والشرح والتأويل بسبب العناية الإلهية الممنوحة للأنبياء المصطفين لأنها الأقرب إلى تجربة الدلالة كما قصدها الله وهو صاحب المتن الدِّيني رغم أن الله قال في كتابه، على سبيل المثال، وفي أحد مواضعه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ (البقرة: 7)، لكن المقصود بذلك هو الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سوى النفر الذي يصطفيه الله من عباده للعِلم به ويُعلمهم بسرّه، ومنهم الأنبياء، وهذا ما يمكن أن اسميه الوصاية من داخل المتن السماوي، وهي وصاية عضويّة تكشف عن تحقّق درجة من الانسجام والتناغم والتوافق داخل كليّة المتن الدِّيني، أقصد: الله + الأنبياء، ولا غبار عليها وهي وصاية لله على خلقه.
لقد بقيت هذه المرجعيّة فاعلة في الثقافة الإسلامية، ولكن سرعان ما أخذت تتنامى لدى غير النبي المصطفى، فهيّأ النبي محمد (ص) للمؤمنين بدين الإسلام نخبة من القرّاء والمبينين والشراح والمفسِّرين والمؤوّلين والمتفقّه، وصار ظهورهم يتنامى في القرن الأول الهجري ابتداء من بدء إشراف النبي محمد (ص) عليهم حتى صاروا، تالياً عليه، مرجعيّة استمرّت فاعليتها حتى يومنا (انظر كتابنا: المثقفون في القرن الأول الهجري)؛ مرجعيّة نحن نصفها، أيضاً، بأنها عضويّة، ولكن من نوعٍ تالٍ؛ لأنها تنهل من مرجعيّة (القرآن) الكريم وسنّة الرسول الأمين (ص)، وكذلك تجتهد بما لا يتناقض مع كليّة المتن الديني (الله + النبي) لقول أصول وفروع الدين للناس بما لهم من حرية وأصالة واختلاف اجتهادي معقول في التفسير والتبيين والتأويل.
يبدو التفقّه في الدِّين شرعة مُمكنة، وهو لا يمثل وصاية سوى أنه وصاية طبيعية لأنها عضويّة تنهل من صميم الدِّين سُلطتها بلا تورّط الفقيه بأن يحمل العصا بوجه الناس، لكن هذه الوصاية العضويّة التالية ستفقد شرعيتها عندما تفعل ذلك، وتحمل العصا بنحو يخالف حرية منطق لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين (البقرة" 256)، وإنْ فعلْ فهي مُمارسة تكريسية ضارّة غالباً ما يفعلها رجال الدِّين وهم منخرطون في مؤسساتهم الدينية والحزبية أولئك الذين يسعون لأن يظهروا بوصفهم سُلطة على رقاب الناس، وكذلك رجال الحُكم في الدولة الإسلامية عندما يُظهرون وصايتهم على الناس بوصفهم سُلطة فوق - طبيعية (Sur-natural). إن عمل هؤلاء يبدو نفوذ وصاية إكراهية على الغير أو النظير في الخلق، وهي سُلطة الوصاية غير المرغوب فيها حتمًا.
الدين انفتاح وحرية
الدين هو انفتاح على الغير؛ انفتاح المُطلق المفارق على المُحايث، ورسالة الله تصل إلى الناس عبر نبي مُرسَل معلوم الاصطفاء، ويسمح الدِّين بالإيمان بها وفهمها وتعقلّها على نحو مباشر لكونها مبذولة القراءة لكُل الناس بفعل الإشهار المقدّس الذي ارتضاه الدِّين لنفسه، وإن غَمُض أو أشكل على الناس أي جانب من رسالة الدِّين فالأسوة بالنبي أولاً وفقهاء الدِّين ثانياً أولئك الذين يتخذون من التفقّه في خطاب ورسالة الدِّين صنعة أو مهنة (Occupation) لهم، لكنّهم وعندما يجعلون معرفتهم سُلطة وصاية مُطلقة مقوَّمة بالعصا والسيف والبندقية فإنما هم يخالفون دورهم الذي لهم عند الله.
إن الدِّين لا يبدو سوى ماهيّة تنويرية من حيث اهتمامه بالإنسان، لا سيما الفهم والعقل لدى الإنسان، وبما أن الدِّين يضع الإنسان على مسطرة مستقبله، فهو يمتلك رسم الغد للإنسان، سواء الغد الدنيوي أو الأخروي، من دون أن يكون هذا الرسم وصاية سوى ما يتعلّق بصميم الدين الخاص بمصير الإنسان بعد الموت.
لا يمثل الدِّين أيّة وصاية لطالما تنطلق هذه الوصاية من عضويته الأصلية التي له مع الغير، لكنه سيكون وصاية عندما تخرج العلاقة العضويّة مع الدِّين إلى ساحة أن يكون الدِّين سلطة مُباحة تتحكُّم بالغير على نحو مُطلق، سُلطة يمارسها أتباع الدِّين الذين يصطنعون علاقتهم العضويّة به تصنُعاً، ويجعلون صنعتهم هذه سُلطة لإخضاع الغير قسراً تبغي منه الذيليّة إلى وصايتهم؛ فالعلاقة مع الدِّين إنما هي علاقة مباشرة مع كلام الله لفهمه من جانب الإنسان الذي يؤمن به، وإن حدث عدم فهم الدين، وعلى نحو مباشر، فيمكن أن تكون العلاقة ممتدّة إلى النبي المُرسَل وأتباعه المتقين الصادقين، قولاً وعملاً، للاستعانة بمنظومته التأويلية العضويّة لمتن الدِّين.
ولما كان للنبي (ص) عترة تقية صادقة يثق بها هو نفسه، فهذه العترة يمكن الاستعانة بها لفهم الدِّين من دون وصاية قسريّة مطلقة لأن مرجعيّة الدِّين الأصل والمرجعيّة النبوية تبقى غيثاً مفضال الإمكان للتعامل معه وبه لسقي الروح المقفرة، أما إذا تم التعامل مع مرجعيّة فقهائية تالية تقدِّم نفسها برسم الوصاية، فذلك هو الذي لا ينبغي اعتماده، خصوصاً عندما تتلبّس - هكذا مرجعيّة - رداء الكيان الحزبي أو الإيديولوجي أو أي إطار مؤسساتي آخر غيرهما كما هي الفقهائية المنغلقة وغيرها من فقهائيّات الظلام التي غزت العالم منذ مطالع القرن العشرين؛ بل قبله، ومن هم على غرارها تالياً كحركة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وأحزاب الحكم العراقي بعد 2003، وبقية الأحزاب الأخرى التي يضمّها المشهد الإسلامي في غير مكان بالعالَم المعاصر راهناً، وكل ذلك لا يمثل مرجعيّة دينية تقية صادقة سوى أنها مرجعيّة وصاية على الآخرين تُصرِّف الدِّين إلى الوجود كهويّة وصاياتيّة تبتغي من الآخرين اتباعها على نحو أعمى حتى إن هذه الطاعة العمياء وصلت إلى مستوى نحر المسلمين على مسارب الطرقات كما رأينا ذلك مع تجارب تشكيلات (تنظيم القاعدة) ومن ثم (تنظيم داعش) ومشتقاتهما تباعاً وكلاهما أفرغ الدِّين من مضمون الحرية الذي يضمّه بحيث قوّلته وشغّلته هذه الجماعات بما لا يريد قوله ولا تشغيله، فبدلاً من النور حلَّ الظلام على المجتمع، لكون علاقة هذه المكوّنات مع الدِّين ليست عضويّة حقّة؛ بل هي قراءة تأويلية غير مُنضبطة غارقة في غلوّها وتطرّفها وهيمنة ذاتها الغريزية التي تقوّل الدّين بما لا يريد قوله، وتلك واحدة من آليّات الوصاية سيئة الصيت.
إن التنوير لا يمكن له يمضي في دروبه تحت راية وصاية الدِّين على الإنسان بالمعنى المتطرِّف الذي ذكرناه؛ فالدّين تجربة ذاتية - شخصية مع الله. ولكن هل الدِّين، في حدِّ ذاته، وصاية قسريّة على الإنسان؟ لا أعتقد بذلك؛ فالمُتدين يمكن أن يفهم الدِّين ويؤوّله كوصاية عليه بوصفه فرداً لا ينبغي أن يريده جمْعاً معمماً سائداً على الناس، ويعمل على بسيط وإشهار ذلك بين الناس، فيقدّم نفسه وقراءته للدِّين بوصفهما وصاية على الإنسان عبر إنشاء صومعات تفرض كيانها الجماعاتوي بوصاية على الآخرين، وتلك معضلة تعذِّب الإنسانية كُلها لكونها تنخر قيمة الحرية التي للدِّين وتؤوّلها تدميرياً على نحو سُلطوي غير مرغوب فيه لتعطل طاقة الدِّين الحقة في الحياة.
الله ليس ضريحًا
إن التنوير ليس وثنياً ولا يبغي الوثنية، ولا يصطفي إلهاً غير الله، ولا ينظر للعقل بوصفه أحد الآلهة المقدّسة ليبرمه بديلاً عن الله ويدعو الناس إليه، فلا إله غير الله.
التنوير يدعوا إلى العمل بالعقل ضمن مُمكناته التي وهبها الله نفسه للإنسان ودعاه إلى إعمالها فهماً في مُعاش الحياة للتحرّر من الأوهام والخرافات والأساطير وسلطة الخيال الجامحة التي تنتج الخداع والخوف واليأس من مكانة الإنسان المأمولة خيراً في الوجود.
لا يهدّد التنوير أحد من الناس سواء كان فرداً أم جماعة عندما يطلق العنان لقرار الإنسان الذي الذي يتخذه لكي يتحرَّر من الخرافة والأساطير والشِّرك بالله، التنوير ليس ضد الدِّين ولا يُهدّده، وإن جرى فذلكَ وهم لا بد من برمه وتفكيكه بغية تقويضه لعزله ونسف أباطيله.
كما أن التنوير لا يعكّر صفو الإيمان بالله، ولا احترام مقدّسات الله وعلاقة الإنسان الشخصية بها. إن التنوير يقدّم نفسه كنمط تفكير وفهم وتعقُّل يوازي الفكرة الإيمانيّة بالله لطالما أن الإنسان هو قاسمهما المشترك. لذلك لا يؤمن التنوير بكُل ما هو وهم وخيال أسطوري وخرافي الذي لا يرضى به حتى الإيمان بالله نفسه؛ بل يناقضه، ويقف على الضد منه، وبذلك لا يقدّم التنوير نفسه كوصاية مُطلقة؛ فالتنوير ليس وصياً على أحد، لا بالعصا، ولا بالسيف، ولا بالتابعية والذيليّة العمياء.
التنوير يقين مفكَّر فيه يؤدِّيه الإنسان لكونه صانعه بغية التحرّر من ربقة خيبة السكون لصالح نبض التقدّم، ومن الظلام لصالح نور الحرية، ومن الخرافة والأسطورة لصالح التفكير العلمي المُمكن تداوله في مُعاش الوجود على نحو عملي مُحايث من دون الإخلال بمكانة حضوريّة الله في الوجود.
التنوير لا يحبس الله في سجن ما لكي يعزله، ولا يضعه في ضريح ليحنطه ويعبده كما لو كان ضريحاً، الله ليس سجيناً عند أحد من الناس، ومن ثمَّ إن التنوير لا يسعى إلى زحزحة الدِّين عن طريقه ومكانه؛ فكلاهما يحتفي بالإنسان ويروم له الخير والخلاص من الخوف والخرافة واللامعقول.
وإذ ترانا نفهم التنوير بوصفه حكمة فلسفية، فما أجمل مقولة الفيلسوف ابن رشد عندما قال في كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال: إن الحكمة هي: "صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة.. وهما المصطحبتان بالطبع المتحابّان بالجوهر".


محاضرة في (جمعية الثقافة للجميع)، بغداد، الأربعاء 21 أغسطس 2019.


د. رسول محمد رسول

نشرت في مجلة (العربية)، الرياض، العدد: (522)، 1 آذار/ مارس 2020. ص 58 – 63.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى