عبدالله البقالي - أنا والمدينة

يمكنك الان في هذا الوقت المتبقى أن تضحك أو تغضب. تبكي او حتى ان تحول الموت الى لعبة ان شئت. فلا شئ هناك يمكنه ان يشكل لك افقا تركض صوبه. و لا الأطياف المكدسة في الماضي يمكنها ان توجد طريقها اليك لتنفعك او تملأ بعضا من الفراغ الذي صار هو كل حصيلتك التي عدوت العمر كله من اجل بلوغها.
تتحفظ للحظات على ان يكون هذا هو كل واقعك. تصمت طويلا و انت تنظر الى دراجتك و قد بدت معرضة عنك و سئمت الدوران ما دام لا مهمة محددة تجعلها تحركمن أجلها عجلتيها. تتامل الأوراق و الكتب المغرقة في الفوضى و قد بدت هي الأخرى تتساءل عن جدوى وجودها في هذه الغرفة الغارقة في العزلة و الوحدة. تنقل بصرك الى مذياعك الذي كنت قد تلمست منه بعض الأنس، قبل ان يتضح لك أنه منشغل بعالم غير عالمك. و ان كل المتحدثين عبره يفعلون ذلك و كأن الحياة مشكلة من فقاعات، و كائناتها من ورق. و حتى حين اقتنيت أسطوانات أغانيك المفضلة، فقد بدوت و كانك أردت القول أن الواقع الحالي لا يمكن ان ينتج الجمال. و ان الرقي هو ابعد من أن يكون سمة من سماته.
لم تنجح منذ اعوام في رسم اي تقاطع لك مع العالم. و حتى الناس الذين يتحركون في العالم الخارجي، لا ألفة بينك و بينهم. وهو ما نبهك إلى انه لم يعد لك اصدقاء. ماذا تفعل إذا في هذه المدينة؟ و هل الواقع يمكن ان يكون مختلفا في مكان آخر، ام أنك لم تعد تستقبل إشارات التفاعل مع الحياة؟
يتعاظم الصمت. تجده مخيفا. ترغب في أن تكسره.. ان تقوم بأي شئ.. ان تصرخ .. أن تأتي حركة ما بدافع التأكيد على أنك لا زلت هنا. و أنه ما زال بإمكانك أن تفعل شيئا ما.. مهمة ما. لا يهم ما إن كان العالم في حاجة إليها، أم انك في وضع المحتاج إلى العالم.
تستوقفك الفكرة. تسال نفسك بصدق: هل لا يزال لك دور ما في هذه الحياة، ام أنك تتحصن و تخلق مبررات من أجل تبرير استمرارك فيها؟
تجد السؤال في منتهى الاستفزاز. تقطب حاجبيك. توضح لنفسك أنك لم تات لهذه الدنيا بموجب عقد موقع مع طرف ما، يلزمك بموجبه تنفيذ برنامج او تحقيق هدف. و ان هذا يمنحك كامل المشروعية في أن لا تفصح عن شئ. بل و يمكنك أن تفسد او تصلح. تبيني او تهدم. المهم هو ان تمارس العيش إلى ان يهجرك.
يرضيك الجواب لحد تبدو معه و كانك وجهت لكمة عنيفة لخصم عنيد.. عدت لتنظر مجددا الى فضاء الغرفة. تناهى اليك سؤال آخر. كيف انتهى بك المطاف في هذه الغرفة المعزولة من العالم، و قد كان بامكانك أن تعيش في الوضع النقيض في مناسبات شتى؟
تنغلق مسالك هروبك. يهيمن الصمت من جديد. تتذكر ان اليهودي حين يبحث عن حل لافلاس حاضره، يراجع دفاتر الماضي. لكن دفاترك غير قابلة للمراجعة مادامت كل الاسماء المدونة فيها قد تحولت الى اطياف لايمكن مصادفتها الا في مسرح يقع خارج رصد الحواس. و ينتابك اليقين بان تلك الاطياف هي الاجدر بالاجابة عن هذا السؤال. فهي التي لقنتك كيف تجري وراء الرصيد البشري بدل الرصيد المالي. و ان الحياة بصمة و ليست كما زمانيا. و ان يكون لك قلب يسع الدنيا و ليس دنيا تلسع القلوب.
تنتبه الى انك كشفت كل اوراقك بوجودك المعادي. و انه نتيجة لذلك، فانت قد تخسر حتى غرفتك تلك. لأنه بعد ان يكتشف مكانك في الصباح، سيعمل على تحنيطك و نقلك الى متحف مدينتهم، ليعرضوك كنموذج لفصيلة بشرية منقرضة. لذلك عليك بأن تعجل بمغاردة المدينة قبل طلوع الشمس إن رغبت في سلامتك..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى