محمد مسوكر - البحث عن رقصة!

“عاطفيون بلا قصد
غنائيون عن قصد! “
درويش


“الجلوا“، هو الإسم الذي كان يطلق على الرقصة - “هناك حرف لا ينطق في اللغة العربية إستبدلته بحرف الجيم“ ، وهو ينطق من سقف الحلق أي إلتصاق بطن اللسان بالسقف كما ننطق الحرف الأول من إسم الصين بالإنجليزية أو حرف التاء والشين في تشالز - هذا لتقريب النطق وعمداً فضلتُ عدم إستخدام التاء والشين في. الاسم ، لا أريده أن يكون (تشالوا ) .
أنا أبحث عن تلك الرقصة ، عن مصدرها. كانت منتشرة في مدينتي كسلا والقضارف - شرق السودان -في أواخر السبعينات ، وربما في أماكن أخرى من العالم ، لا أعلم ، سأصفها بالحروف كما فعلت مع أحد الأصدقاء، فهو عندي (زي مناقير الكنار)، يحتفظ (ببوصلات سكك الأغاني )، والرقصات، ربما لأنه مترّب بغبار أمدرمان - وفرقان كردفال. قلت له ونسيت أن أحدثه عن ضوء الرتينه، ربما لو فعلت لأضاء كما أضاء الشاعر عبد الله الكاظم وصوت صديق عباس؛
- “ اللا لايا لالا جبينه - الضواية ضئ الرتينه“.
صديقي أضاء بطريقته كما سيأتي.
الرتينه وضوئها الدائري تخلق ظلال في ساحة اللعب التي تتوسط صفان متقابلان، صف البنات وصف الأولاد، كل البنات جلوساً على الكراسي والأولاد الصف الأول فقط، وإيقاع الدلوكة، يبدأ الرقص زوجي، الساحة لا تقبل غير إثنين، تتحرك البنت نحو الأولاد، أو العكس عند بدأ اللعب، ويبدأ أهل المناسبة أو المقربون من الأحبة.
الراقص الأول يتحرك بإتجاه الصف المقابل له على إيقاع الدلوكة، ويتوقف عند القفلة في الإيقاع، ويبدأ الحركة مجدداً، ثم يتوقف، ويبدأ، وهكذا.. وعند بلوغه الصف المقابل، يختار ، يشير بيده، أو يسقط منديلاً من القماش، وتبدأ رحلة العودة بذات الإيقاع، وتكون أصابعهم متشابكة وبنفس الطريقة الأولى، ويتخلل الرقصة همس تتخيّله البنات وينسجنّ منه كلمات الأغنية:
- “الجلوا دي تاري ونسه“
وعندها يقفل الإيقاع ويتوقفا هنيهةً، ثم تبدأ الحركة مع بداية الغناء مجدداً:
- “ درب بيتكم بحصلك“
ويتوقف هنا، بعد تصاحب الإيقاع خلفة أو كما تسمى خمجة: “ألبس توبي أونسك“
وقفة “وين يا غادة درب بيتكم بقى لي عبادة،
وحات ربي - ستي نورو بيتو بعيد
وأنا عايز أزور وحات ربي“
في المقطع السابق يكون الهمس بلغ منتهاه ، وترى الصبية تبتسم، ونظراتها تميل ناحية الأرض ،وينتهي الشوط بإختيار شريكة العودة.
أهل كسلا لهم إضافة مختلفة، فالرقصة أسرع، وبها جرى خفيف، وتبادل الأيدي في حركة تغيير قصيرة بها إلتفاف.
من أين أتت تلك الرقصة؟
وأين ذهبت؟!
هذا كان سؤالي لصديقي!!
الضوء الذي أرسله، كان نصّاً له رائحه، كتبته عبير اسبر، روائية وسينمائية سورية ، نص لا تستطيع أن تكتب عنه مثلما قالت الكاتبة أنها لا تستطيع أن تنتمي إلى مكانها الأول لأنه لم يكن جميلاً بما يكفي، وتسأل كيف تحب بيتاً ماتت فيه أمُّكَ للتّوِ؟
وأن تعشق مدينة إنقسمت شوارعها بحدة كما تنقسم الدماء في الرحم الواحد؟.
وتحدثت عن التاريخ المخاتل (الطوائف) وإنصياعه لطبخات سياسية معقدة.
ليس سهلاً نقل النص هنا ولكنه يخترقك لتسقط، وتشعر بسقوط الشام ،أو تساقطها المستمر منذ إنصياع التاريخ المخاتل.
تحدثك عبير أسبر، عن حضور المكان في روايتها الأولى، وبذاءة المراهقين، والعزلة، وشجرات التفاح، وغياب المكان لصالح أربعة شخصيات في روايتها الثانية، وبين قصاصاتها وترحالها، وضفائر إبنة دمشق اللاهية، وحب غير جارح، يعود الشام بقوة في وعيها وهي في صقيعٍ بعيد.
الإغراء بالكتابة والموت والحب والحياة، هذا ما أضاء به نص عبير أسبر، ليلي.
هل الرقصة من كردفال؟ كان هذا ظني.
لا تنسوا أيضاً أين ذهبت تلك الرقصة التي ظهرت في نهاية السبعينات.؟
كنت خارجاً للتّوِ من قتامة المشهد في شرق السودان، وغربة العصي على الفهم لتفاصيله الكثيرة، وقلب السودان المدجج (بالتاريخ المخاتل).
وتذكرت حلمٌ ساذج بالغناءِ، أضاع رقصته الأولى!
أو كما قال درويش أيضاً:
“لنا نصف حياة
لنا نصف ممات
ومشاريع خلود وهوية
وطنيون كما الزيتون
ولكننا مللّنا صورة النرجس
في ماءِ الأغاني الوطنية“



- محمد مسوكر
( كاتب قاص، وروائي)
أعلى