علي بنساعود - هناك نكمل السهرة

كانت العتمة تخيم على البيت، أضواء خافتة ملونة مبثوثة في أركانه، صور ولوحات كثيرة معلقة على جدرانه، كان ينظر إليها بحب واستمتاع...
حين تأملتها، بدا لي جلها عبارة عن بورتريهات لأطفال ونساء ورجال، توقعت أنها لبعض أهله وأصدقائه ومعارفه، غير أنه فاجأني بأنها لأشخاص مجهولين! اشتراها من سوق للأشياء المستعملة!
ظهر له أنني استغربت، وربما سمع صوتي الداخلي يقول له:
_ كيف لك أن تضع في بيتك بورتريهات لأشخاص لا تعرفهم، ولا علاقة لك بهم؟!
قال منتشلا إياي من شرودي:
_ يجب أن تفهمي أن ما أتأمله، ويعجبني في هذه اللوحات، ليس هو صورة هذا الشخص أو ذاك، بل جمالية تعبير العمل الفني...
في الحقيقة، كانت هذه البورتريهات، تروي قصصا، تعبر عن مشاعر إنسانية قوية... كان بعضها لمجموعة من اللاجئين، تعرض حياتهم الصعبة، وطوابيرهم الطويلة، وتعبيراتهم الحزينة القاسية بطريقة فنية موحية.
بورتريهات أخرى، على الجدار الأيمن للممر، بالأبيض والأسود، كانت تحكي قصص فقراء يعيشون في الشوارع، في عيونهم نظرات أمل!
لوحات ثالثة كانت لأطفال هجَّرتهم الحرب والجفاف أو الفقر، بعضها يحمل أسماء شخصية، لا أدري أهي أسماء هؤلاء الأطفال أم مجرد عناوين...
لوحة مثيرة شدتني، وكانت لمجهولين، يبدوان مسكونين بأرواح غريبة، واحد ينظر جهة اليمين، والثاني جهة اليسار، بينهما امرأة تنظر إلى نفسها باستغراب...
على الجدار الأيسر، صور لمشاهير:
هذه لمبدعة ماتت منتحرة، يبدو أنها التقطت لها في لحظة شرود حالم، هربا من واقع غير مسعف، أكيد أنها عجزت عن مواجهته... وتلك، لامرأة لم أتعرف عليها، وما سألته عنها، كانت عيناها ضيقتين، ونظراتها منكسرة، لعلها نظرات حزن وخيبة... أحسست بها راغبة في الابتعاد عن الآخرين...
_ ما رأيك؟
انتشلني سؤاله من شرودي، فقلت:
_ ذوقك راق صديقي، هنيئا لك هذه التحف... لكن، هل لاحظت أن جميع شخصيات هذه اللوحات، تأسرك عيونها، وتشعرك بغموض يشدك إليها؟
أجاب:
_ طبعا، لاحظت ذلك، وأنا مؤمن أن العيون من أقوى أدوات لغة الجسد، بل إنها نوافذ الروح، تعبر عما يدور في دواخل الإنسان من مشاعر، من دون حاجة للشفاه...
خفضت بصري متمنية ألا يكون انتبه إلى نظراتي المضطربة، المشتتة بين اليمين واليسار، وما تعبر عنه من قلق وعدم ارتياح... فكرت أن أطلب منه أن نخرج، غير أنه فاجأني بالقول:
_ منذ أن جلسنا وأنت شاردة، لم تتذوقي شرابك، ما رأيك أن ندخل البيت، لتكتشفي مملكتي، وهناك نكمل السهرة...؟!
حملتُ حقيبة يدي وغادرنا...
كانت الشقة غير بعيدة عن المقهى...
ساعدني على خلع معطفي وعلَّقه بعناية، نزعت حذائي وانتعلت شبشبا وضعه رهن إشارتي، ذهبت إلى غرفة، غيرت ملابسي، ارتديت قميص سهرة شفافا، ثم دخلت الحمام، أصلحت ماكياجي...
وأنا آتية نحو الصالون، حيث كان، هتف: وااااااااااو... ووقف مبحلقا فيَّ، فاغرا فاه... تقدم نحوي، شد يدي وأدارني، حول نفسي، دورتين، غامرا إياي بنظرات الإعجاب...
بصدق، فرحت أن استداراتي الجميلة دغدغتهُ... تذكرت وجوه جل من سبق أن عرفتهم، وطلبوا مني، تلميحا أو تصريحا، العمل من أجل إنقاص وزني...
انتشلني من شرودي حين قال: فكرت، الآن، أن أرسمك، لكن ملامح وجهك سريعة التبدل، لعل انفعالاتك ومشاعرك المتواترة تنعكس عليها، كل حين، غير أن في أعماقك روحا فاتنة، هي التي تهمني أكثر، وسأحاول القبض عليها، الليلة، فقط سأنتظر اللحظة المناسبة، لحظة أريدك فيها هشة من دون أصباغ...
وكساحر، أشار بسبابته نحوي،
انفتح حزامي،
سقط القميص عن كتفي،
بقي صدري وظهري عاريين...
أكمل نزع غِلالتي...
شرع يدور حولي،
منخطف النظرات،
مسلوب الإرادة...
بدا لي ذكر فراشة أحب النار،
أغواه لهيبها...
تساقط رماد جناحيه،
وقعت جثته على اللوحة...



علي بنساعود
  • Like
التفاعلات: حسن جبقجي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى