د. عادل الأسطة - اليهود في الرواية العربية ـ 2 ـ واسيني الأعرج في "البيت الأندلسي"

"البيت الأندلسي" عنوان رواية لواسيني الأعرج صدرت في العام 2010 عن منشورات الجمل في بغداد، وتقع في 447 صفحة، يكتب فيها واسيني عن موريسكي غادر اسبانيا إبان محاكم التفتيش، وأقام في الجزائر، وقرر أن يبني بيتاً على غرار بيت رآه والفتاة اليهودية التي أحبها هناك، في الأندلس.

وسيقام هذا البيت في مدينة الجزائر وسيصمد أمام الزمن قروناً عديدة يتعرض خلالها إلى تغيرات وتبدلات، ويؤول، زمن استقلال الجزائر، إلى الهدم. كأنما لسان حال الرواية، وهي تعرض للتحولات التي ألمت بالبيت خلال قرون، يقول: إن عرّبت خرّبت.
يصدر واسيني روايته بسطر دال هو "إن البيوت الخالية تموت يتيمة" ويدرج تحته اسم من بنى البيت وهو (غاليليو الروخو) (سيدي أحمد بن خليل) ويورد أسفل السطر بيت الشاعر أبي البقاء الرندي: "وهذه الدار لا تبقي على أحد/ ولا يدوم على حال لها شان".
والرواية من ألفها إلى يائها تطنب في قول ما قاله الروخو وما توصل إليه الرندي. لم يبق أحد ممن بنوا البيت وأقاموا فيه، بل إن البيت لم يدم على حال، وقد آلَ إلى زوال.
بطل الرواية، باني البيت، هو صاحب المقولة ـ طبعاً الرواية تقوم على أساس التوازي بين زمنين؛ زمن تاريخي يعود إلى 400 عام، وزمن يتطابق وزمن الكتابة تقريباً. الزمن التاريخي هو زمن طرد المسلمين من الأندلس ولجوئهم الى شمال افريقيا، وزمن الكتابة هو سنوات ما بعد استقلال الجزائر، وما بين زمن الهجرة وبناء البيت وزمن هدم البيت / زمن الكتابة أزمنة عديدة يعرض لها السارد/ون من خلال الإتيان على ما ألم بالبيت من تغيرات خلال أربعة قرون.
من هو غاليليو الروخو؟ وما هي صورة المرأة اليهودية؟
نتعرف في بداية الرواية الى حياته، فقد كان هذا "الموريسكي بحاراً طيباً شارك في حروب كثيرة قبل أن يتخلى عن الديانة المسيحية ويسلم عندما دخل إلى الجزائر. كان متزوجاً من يهودية تركت كل شيء وراءها وتبعته لتعيش معه قسوة المنفى..." ص19 و"هذه اليهودية هي حنا سلطانة" لها وجه سمح وشعر أحمر" ص44، لها صوت لم يكن يضاهيه صوت آخر، وكانت في لباسها الفضفاض المصنوع من الحرير والساتان الهندي والصيني، المطرز بالياقوت واللؤلؤ وأحجار البندقية الجميلة، كانت كأنها جسد معشق بكل الألوان" ص53 وعطرها عطر مميز لا يباع ولا يشترى. ص54.
سلطانة بلاثيوس هذه كانت في جمالها بلا شك، وفي زهوها واستقامة جسدها ورشاقتها، وظل جسدها سرها العظيم الذي لا يعرفه إلاّ الرجل الذي أحبته وغامرت من أجله وهجرت عائلتها، كانت مستعدة للموت والسفر في بحر لم تكن تعرف عنه الشيء الكثير، لولا أخوها الدون فريدريكو دي طوليدو، لأكلتها القفار، وخلاء المدن البعيدة" ص55.
وستتعزز هذه الصورة البهائية لسلطانة في صفحات لاحقة من الرواية، هكذا رآها الروخو في المكتبة في الأندلس: مشرقة كالقمر وممتلئة كتفاحة، وحين جاءته، لأول مرة على المكتبة "كانت ترمي شعرها إلى الوراء كالغجريات" ص93. وهي ذات ابتسامة رائعة رائقة، ص163، لأجلها كتب شعراً، وكانت تعني له الكثير، فقد منحته الحب ومنحته الحياة، ورأى أن لا قيمة للمال وأملاك الدنيا بلا سيدة الروح والمحتلة لعش القلب" وحين انفصل عنها، قبل أن يلتقي بها ثانية، اشتاق إلى صوتها، حنينها، وجها، وهذا هو ما أعطاه القدرة على الصبر والمقاومة في المنفى. ص171 ولقد ظل الروخو متعلقاً بها بعد أن افترقا بسبب التهجير، ولم يكن الدين ليفصل بينهما فلا "عاش دين يفصلني عن قلبي وعن أحاسيسي العميقة" (ص179). سلطانة هذه عنيدة وذات حاسة أنيقة وذوق فني معماري.
في الكتابة عن اليهود في الأدب العالمي، بل وفي الأدب العربي الذي أتى على حياتهم في العالم العربي في ق19، كانت هذه الصورة للمرأة اليهودية تطالعنا، وقد توقفت أمامها وأنا أكتب عن صورة اليهود في رواية عبد الرحمن منيف "أرض السواد" (1999). هكذا تبدو المرأة اليهودية: إنها تتبع هوى قلبها وتغامر من أجل حبها. وهذا النموذج وجدناه في رواية إلياس خوري "باب الشمس"، فاليهودية الألمانية في القدس أحبت فلسطينياً ولما عارض أهلها تخلت عنهم وهربت معه وأقامت في غزة. (ينظر كتابي: اليهود في الرواية العربية، جدل الذات والآخر).
هل سلطانة هي الشخصية اليهودية الوحيدة في رواية البيت الأندلسي؟
كانت الأندلس، كما قرأنا، موطناً تعايش فيه المسلمون واليهود بقدر من الحب والوئام والصفاء، وغدت رمزاً للتعايش.هل كانت رواية واسيني رواية ترمز إلى هذا، ولهذا كان هناك زواج وحب ما بين الروخو وسلطانة؟ وليست سلطانة هي الشخصية الوحيدة اليهودية في الرواية. هناك شخصية ثانية ذكورية ذات دلالات رمزية ايضاً، هي شخصية ميمون البلنسي.
كما تحضر سلطانة في أكثر من صفحة من صفحات الرواية، يحضر أيضاً ميمون، ويكون مهماً للروخو، كما كانت سلطانة مهمة له. وميمون هذا هو صانع الذهب اليهودي الذي كان الروخو يعمل معه، وكان وسيلته للاستمرار.. إنه رجل طيب، "ووضعه كان شبيهاً بوضعي جاء مع الدفعات الأولى من المارانوس الذين طردوا من الأندلس.. مارانوس وموريسكوس كنا في نفس العاصفة" ص153، واليهودي هذا صديق للروخو كان يجد معه متعة خاصة للراحة بعد تعب اليوم على ظهر السفينة أو في محل الذهب" ص154. إنه طيب، رجل أمين وصاحب حرفة" ص155، وهو يعمل كثيراً ولا يتكلم إلاّ قليلاً، ص156، ويكرر دائماً حكمة الذئب المعروفة: اللي تتكلمه اجريه يا وليدي" ص157، وهو موضع ثقة الحكام، إذ يثقون بصنعته، لأنه صناع ماهر لا يكرر، فأخطر شيء في صنعته ـ الذهب ـ هو التكرار، وفوق هذا فهو رجل حكيم: إذا أردت أن تربح جاري زبونك... أعطه ما يدهشه حتى ولو خسرت من رأسمالك في المرة الأولى. والطريف أنه لا يبخل بأسرار مهنته على صديقه الروخو، فهو يعطيه إياها، وينصحه بأن يركز على الحرفة، لا على الكتب، ص182. وميمون هو رجل عاقل تزوج مرة واحدة ثم أضرب عن النساء، فقد غادرته زوجته من أجل محارب مسيحي، وإذ يتذكر هذا يبدو حزيناً، ولكنه كان صافياً كقطرة" لأول مرة أشعر أن العمر كان قد خط علاماته على أصابعه الرشيقة. ووجهه المضاء بشعاع الأولياء، ولكن نفس الزمن القاسي لم يمسس ولا ذرة واحدة من رشاقة يديه وذاكرته الحية ونباهته القوية" ص184.
والرواية التي لا تخلو من نعت بعض التجار اليهود بالربا والتعاطي به ترسم صورة مغايرة لميمون، صورة تخرج عن التصور التقليدي لهم الذي بدا في مسرحية (شكسبير): تاجر البندقية، فميمون يساعد الآخرين ويقدم المال دون أن يسأل عن فوائد. هكذا يساعد الآخرين، وحين يتلكأ المسيحيون عن مساعدة المسيحي (سرفانتيس) يتقدم اليهودي ليساعده، على الرغم من أن المسيحيين طردوه من الأندلس، هكذا يخاطب الروخو (سرفانتيس): "أنت حر، عليك أن تشكر صبحاً ومساء هذا الرجل الذي قام بالمستحيل لإنقاذك وليس بني جلدتك" ص299.
وثمة إتيان على يهود آخرين غير سلطانة وميمون. يهوديات يشاركن في فرقة الموسيقى، ويهود ذكور تجار يشترون المخطوطات والمنازل ويبيعونها، وثمة ربط بين اليهود والسحر، بل وثمة جني يهودي يسكن البيت، كان طيباً في أثناء إقامة سلطانة فيه، فلما ماتت غدا جنياً شريراً.
كل ما تقدم كان توصيفاً للنماذج اليهودية التي ظهرت في الرواية. هكذا قدم الكاتب اليهود في روايته، قدمهم بما يتماثل مع الصورة المعروفة لهم في الذاكرة عن حياتهم والمسلمين في الأندلس، ولكن هذا لا يمنع من أن يثير المرء أسئلة عديدة هي: ما الذي يرمي إليه الكاتب من وراء هذا؟ وماذا يمكن أن تخدم هذه الصورة ومن؟ وماذا سيقول القارئ الفلسطيني إذا ما قرأ هذه الرواية، دون أن يقرأ رواية "سوناتا لأشباح القدس"؟ هل سيسيء الظن بالكاتب؟ هل سينعته، مثلاً، بأنه كاتب مطبع؟ وقد لا تروق هذه الأمثلة لمحبي الروائي، ولكنها تظل أسئلة مشروعة.

د. عادل الأسطة
الأحد 26 يناير 2014




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى