د. عادل الأسطة - اليهود في أول رواية فلسطينية

أول رواية في الأدب الفلسطيني هي رواية خليل بيدس "الوارث" (1920)، ولم تخل من شخصيات يهودية، ولربما يمكن القول إنها ولفترة طويلة في تاريخ الرواية الفلسطينية ظلت الأولى في هذا الجانب، فقبل العام 1948 صدرت روايات عديدة لم يكن للكتابة عن اليهود فيها حضور لافت، وبعد العام 1948 ظل الأمر كذلك باستثناء روايات قليلة مثل روايتي ناصر الدين النشاشيبي "حفنة رمال" و"حبّات البرتقال"، وهي روايات كتبت تحت تأثير اللحظة التاريخية وما شهدته في 50 و60 ق20.
ولفتت الكتابة عن اليهود في "الوارث" أنظار الدارسين الذين لم يطلع أكثرهم على الرواية، فظلوا عالة على الملخص الذي قدمه لها د. ناصر الدين الأسد في كتابه "خليل بيدس: رائد القصة العربية في فلسطين" (1963). وكنت أنا واحداً من هؤلاء الدارسين، فلم تكن الرواية، وأنا أكتب عن صورة اليهود فيها، بين يدي. وأظن أن فاروق وادي، قبلي، لم يطلع على النص الروائي نفسه، فاعتمد على المراجعات التي أنجزت عنه. وقد توصل وادي، وهو يكتب عن اليهود في الرواية، إلى الرأي التالي:
"فهي لم تر الحركة الصهيونية بأطماعها الاستيطانية والتوسعية: بل رأت اليهودية بنمطها التقليدي الشيلوكي ـ تتعبّد لإلهها المطماع: المال. فالشخصيات اليهودية في الرواية، جميعها، متكالبة على المال؛ انتهازية؛ جشعة؛ مبتزة؛ مستغلة، تهدد الحياة الآمنة المطمئنة لبطل الرواية العربي.."
ويتساءل وادي إن كانت الرواية قالت كل ما يجب أن يقال في تلك الحقبة التاريخية؟ ويرى "أن ما عبرت عنه لم يكن نابعاً من فهم سياسي لطبيعة الأخطار المحدقة بالوطن من جراء الوعد (بلفور) والهجرة، أو من فهم أيديولوجي لطبيعة الحركة الصهيونية وأهدافها، بل جاءت لتعبر عن موقف أخلاقي من اليهود، وعن هواجس البرجوازية ومخاوفها الطبقية".
وفي كتابه "اليهودي في الرواية الفلسطينية" (2002) يتوقف حسين أبو النجا أمام شخصية استير، ويرى فيها نموذج اليهودية اللعوب (ص 28، 29، 30) وأمام شخصية ناثان الصيرفي، ويدرسه نموذجاً لليهودي الطمّاع (ص117، 118، 119) ويتوصل إلى الرأي التالي "ومما يلفت النظر هنا، أيضاً، أن اليهود ينسقون فيما بينهم من أجل المال، فالمعشوقة يهودية، والواسطة يهودية، والتاجر يهودي، والمشتري يهودي، والسمسار يهودي، والمرابي يهودي، حتى لكأن المجتمع كله يهودي خالص، وليسوا أكثر من مجرد جماعة تعيش وسط أغلبية أخرى من غير اليهود" (ص119).
والبيئة المكانية التي تدور فيها أحداث الرواية هي مصر، والزمان الذي تجري فيه الأحداث هو الحرب العالمية الأولى، ولربما حق لقارئ الرواية أن يتساءل: لماذا لم يكتب بيدس روايته عن البيئة الفلسطينية؟ وهذا لفت أنظار فاروق وادي كما لاحظنا. لماذا لم يكتب عن يهود فلسطين القدامى الذين كانوا فيها قبل العام 1882، وعن اليهود القادمين إليها من أوروبا؟
أنا أتيت على صورة اليهود في الرواية في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 1913 و1987" (1991/1992)، واعتمدت على الملخص الذي أنجزه د. ناصر الدين الأسد في كتابه، فلم تكن الرواية متوفرة لي، الرواية التي حصلنا مؤخراً على نسخة منها، وأعادت دار النشر الرقمية طباعتها. ترى هل قراءة الرواية تضيف في هذا الجانب؛ جانب صورة اليهود فيها، إلى ما كتب عن الصورة اعتماداً على ملخص د. الأسد؟
ما أن انتهيت من قراءة الرواية حتى وجدتني أدوّن عليها ملاحظات على شكل أسئلة أهمها:
هل قدمت أية رواية فلسطينية، بعد "الوارث"، الصورة التي قدمتها لليهود؟ [لم أكن قرأت رواية عارف الحسيني" كافر سبت"].
وأنا أتابع صورة اليهود في روايات فلسطينية كثيرة كنت ألاحظ تأثّر الكتّاب بما شاع في زمنهم [تأثير الزمن كما يذهب هيوبوليت تين]، وكنت ألاحظ إسقاط أفكارهم على نصوصهم [النشاشيبي، كنفاني، أفنان القاسم، سميح القاسم]، وتأثر الكاتب، أيضاً، بموقعه الذي يكون فيه [تأثير الموقع على الموقف في النظر إلى الآخر].
وأنا أقرأ الرواية، لا الملخص الذي قدمه د. الأسد، لفت نظري في ص49 العبارة التالية: "قالت [مريم محظية الشيخ نعمان]: "عنده نجلاء تقرأ له في الكتاب المقدس. فاذهب إليه إذا أحببت لأنه ينتظرك" ورسم معشوقة الشيخ نعمان [مريم] وعبارة "تقرأ له في الكتاب المقدس" أحالتاني إلى الهُويّة الدينية لأبطال الرواية، فإذا كانت استير وناثان ورحاب وسارة يهوداً، ويشار إليهم على أنهم يهود، فلم يكن ملخص د. الأسد أفصح ـ إن لم تخني الذاكرة ـ عن ديانة الشيخ نعمان، ولعلّ دال "الشيخ" يجعلنا نظن أنه مسلم لا مسيحي. إن الشيخ نعمان في هُويّته الدينية لا يختلف عن مؤلف الرواية نفسه في هذا الجانب، وهكذا ستقرأ عن تصور المسيحيين العرب لليهود العرب في تلك الفترة، فاستير ورحاب وسارة وناثان يهود عرب، أيضاً.
وأنا أقرأ عن يهود البلدان العربية وعلاقتهم بغيرهم من أبناء الوطن العربي، في نهاية ق19، قرأت أن العداء بين الطوائف المسيحية واليهود كان أشد وأبرز من العداء بين اليهود والمسلمين.. إن وجد. ولعلّ السبب يعود إلى أمرين: قتل اليهود للمسيح،/ والتنافس التجاري بين اليهود والمسيحيين في تلك الفترة بخصوص العلاقات التجارية مع أوروبا. هل جانب فاروق وادي الصواب حين كتب: "بل جاءت لتعبر عن موقف أخلاقي من اليهود، وعن هواجس البرجوازية ومخاوفها الطبقية.."؟ ويعود الموقف الأخلاقي، في حينه، إلى انفتاح اليهود وممارستهم مهناً وفنوناً لم يكن المسلمون والمسيحيون يمارسونها: الربا والتمثيل والغناء.
تفتتح رواية "الوارث" بالأسطر التالية: "كانت استير فتاة في الربيع العشرين من العمر، وقد أفرغ عليها الشباب أجمل حلله فأصبحت أبهى طلعة من شمس الضحى وأرقّ لطفاً من نسمات السحر. وهي من الممثلات البارعات اللاتي عرفتهن مصر في العهد الأخير وكن موضوع حديث أهلها مدة طويلة من الزمان". ص1.
وتحب استير أكثر من شخص في الوقت نفسه: عزيز والكولونيل، وتطمع في مال الأول، وتبدو مخادعة كاذبة، وتظهر، أيضاً، محط إعجاب الكثيرين، فما أن تظهر بين الممثلين والممثلات حتى يدوي المكان تصفيقاً، وحين تغني وترقص ـ كما يقول السارد ـ لم يبق إلاّ من أعجب بها وسحر بحركاتها وجمال تكوينها ولين أعضائها ورخامة صوتها وبراعتها وتفنُّنها.."(ص26).
في روايته "الوارث" لا يترك بيدس سارده وحسب يعبر عن رأي في اليهود. الشيخ نعمان له رأي فيهم، فهي فاجرة، وعزيز نفسه، بعد تجربته المريرة مع استير، يراها حية رقطاء وعاهرة لعينة و.. و.. بعد أن كان معجباً بها أشد الإعجاب. وكما نقرأ وجهة نظر السارد ونعمان وعزيز في اليهود، نقرأ وجهة نظر اليهود في اليهود، أيضاً. والطريف أن استير وعمّتها راحيل لا تنظران إلى المرابين اليهود، مثل ناثان، نظرة احترام، فالمرابون يمصون الدماء.
رواية "الوارث" متوفرة الآن في الأسواق، وربما تجدر قراءتها، وقراءة رواية عارف الحسيني "كافر سبت" (2012) ليرى المرء الفارق في الصورة بين أول رواية وآخر رواية حفلتا بنماذج يهودية!!


عادل الأسطة
2013-02-10

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى