عبد الزهرة المنشداوي - الدائرة المربعة

ظل الجدار سمح برسم دائرة كاملة ،شكل محيطها: فاضل بن كاظم, وغازي بن العزبة ,وساهي بن زبون, وشقيقه غانم، وكذلك جميل ,وسبهان بن شعن ,وهليل الضعيف وآخرون من الهاربين من الخدمة العسكرية , سالم الجندي الجريح لم يكن نقطة من محيطها،انتحى جانبا شاحبا ومتيبسا مثل مومياء مصرية. كان في دور النقاهة من اصابته في المعارك التي دارت رحاها بين المتمردين الكرد من جهة وقوات الجيش العراقي مدعومة بقوات الشرطة السيارة آنذاك, كثيراً ما رأينا جثث يؤتى بها محشوة بسيارات حمل, أرجلها تتدلى سائبة خارجة من أحواض السيارات بأحذية ثقيلة بالية و متربة, عندها يتصاعد عويل النساء ، يجتمع الناس حول الجثث يتفحصوها ، وجوهم مقنعة بغم وحزن ثقيل .
. صنادلهم البلاستيكية المرتقة بشتى أنواع الاسلاك والخِرق كانت نقطة مركزها . دار الحديث عن النساء و الجنس, وفيلم السهرة لليلية الماضية ,كذلك اخبار انتشار الانضباط العسكري والطرق التي يجب أن يسلكوها تحاشيا من المطاردة. ايضا دار حديث موسع عن الشيخ المحدث الذي سيحيي عشرة شهر عاشوراء في مجلس العزاء .
كان الناس يرقبون هلال شهر محرم,وبكروا بنشر رايات بدت مثل حمام يرفرف بأجنحته فوق اسطح بيوتها بشتى الالوان, الاخضر, تلاه الاسود ثم الاحمر، ولم ينعدم الاصفر، والابيض. البعض استعد، وارتدى الثياب السود مستبقا حلوله ,ومن لم يحصل على قماش اسود صبغ ثوبه وان لم يحصل على سواد خالص.
الحديث أزعج ضارب الطبل حسن شبه الاعمى عن هذا الشهر مثلما ازعج الهاربين من الجيش حديث الانضباط العسكري ,
حسن لديه سحابتين توسطتا عينيه عند البؤبؤ إحداهما لم تتمركز كما يجب فسمحت له برؤية يمكن له تمييز الوجوه والسيرفي الطريق دون الاصطدام بالاخرين . لوى عنقه ممتعضا من الحديث عن هذا الشهر، وطأته عليه أثقل من كل حجر، يتوقف عن إحياء حفلات الزفاف لفترة قد تطول أكثر مما يجب تحملها، فلا يستطيع الحصول على سكائر ولا مائدة مجانية يمكن ان يتزود منها ويجتر عليها لأيام ، لايجد معنى لحياته بعيدا عن الطبلة التي يستمد منها زاده .جمهوره أحب اغنيته (عندي دجاجة) ولازمتها الموسيقية تكفل الجمهور بترديدها بدلاً عن كورس الغناء(خالي كسر رجليها).
بصق ومد يده نحو فاضل راسماً علامة النصر باصبعي الوسط والسبابة ، إشارة الى حاجته الى ما تبقى من عقب السيكارة بين اصبعي من يجلس أمامه فناولها له صاحبها منزعجا من (صديقا ما من جكارته بد) , وضعها بين شفتيه الغليظتين وأغمض عينيه بالكامل هذه المرة ، وراح يسحب انفاسا جعلت من العقب جمرة ملتهبة بين شفتيه.
-ستحرق فمك
نبهه من تكرم عليه
فرد :
- لم أبخل عليك بواحدة والآن ترمي لي بالجمرة!
رد الآخر ممتعضاً ومشيحاً بوجهه
-ومتى كانت لديك سيكارة؟
قال ذلك مستهزئا وأضاف:
-لم تشتر علبة سكائر طوال عمرك
-بسيطة
قال حسن متوعداً ودلق لسانه مثل أفعى كعادته
تحول الحديث نحو مناحٍ شتى تخللته طرائف فاحشة سرعان ما أبدلت بالتجديف والتعرض لمن يسكن في السماء اللازوردية وأولياءه المقربين بلا استثناء ،جعلوهم مسؤولون عن فاقتهم ،ضياعهم، مطاردة الانضباط العسكري للفارين منهم .يتعرضون لهم لا لسبب غير المناكدة وإثارة المتدينين من ذوي البسبسة ،والحوقلة مع ذلك كانوا من يدمون صدورهم عندما ينهي الشيخ حديثه عن مصيبة عاشور.
خواء جيوبهم ونكد عوائلهم ،وبطالتهم المزمنة جعلت منهم كائنات تتخبط في متاهة حياة شبيهة بالموت. لا أحد يتدخل لانقاذهم من حياة هي حمى متصلة لا تحتمل.
في كل نوبات غضبهم وهذيانهم لم يتطرقوا الى الحكومة ،الله والأولياء وحدهم مسؤولون عما هم فيه .
انفرجت دائرة الجالسين شيئاً فشيئاً بعد أكلت الشمس الوهاجة قطعة طولية من سجادة الظل التي تغطيهم، تشكل هلالاً بدلها , تحوّل الى خط مستقيم .أجبروا على الالتصاق بظهورهم الى جدار البيت الذي تعودوا الاجتماع تحت ظله الذي انحسر تماماً آخر الأمر فاضطروا الى رسم الدائرة مربعاً رغم أنف الشمس ، الظل غدر بهم كعادته .افتقدوا السكائر ورشقتهم أشعة الشمس بحرابها فكانت جراحهم الصمت والضجر.
ظهور نائب العريف جوتي عائدا من المعسكر بث في النفوس الأمل وشق الأفواه عن ابتسامات عريضة نادراً ما يجودون بها.
- السلام عليكم
ألقى التحية متباهياً, شامخاً ببدلة عسكرية نظيفة لا تعرف التجعدات ،حاسراً عن ذراعين بعضلات أشبه بنهدي فتاة ,يزين ذراعه الأيمن شريطين اسودين بالغ في طولهما وخيط مفتول ملون ينحدر من الكتف ليستقر في جيب صدر رياضي مندحق الى الأمام.
-هل معك سيكارة بغداد؟
سأله ضحايا الظل قبل أن يعلنوا نهاية يوم يتكرر في الغد وما بعده وحتى السطر الأخير من كتاب حياتهم الممل .
مد يده الى جيبه الجانبي وأخرج علبة وزع مافيها على عطاشى التبغ ولكن بمودة .بدا الارتياح على الجميع سأله أحدهم وهو يمد يده له ليأخذ منه نصيبه إن كان التطوع في الجيش ملائماً فأجاب:
- مع كل الرتبة التي أحملها اعتبر نفسي متورطاً لا تفكر في الجيش, خذها مني نصيحة ثم أدار ظهره وتركهم وفي فم كل واحد منهم سيكارة لم يكن ليحلم بها قبل مجيئه. هم بعضهم بالمغادرة وراح يضرب على مؤخرته ليزيل ما علق عليها من تراب ,ولكن مثلما للحزن والضجر جيوش تهاجم كان للفرح فرسان لايقلون عدة ولا عددا, فبانت حوافر خيول منتاز النشال لم يكن يحمل رمحاً ولاسيفاً غير زنبيل مصنوع من خوص النخيل لايفارق كتفه آلته الفاعلة في سرقة اقلام الحبر ماركة الباركر الاميركية الصنع، والغالية الثمن يصطادها من الافندية من موظفي الدوائر الحكومية الذين يحرصون على إظهارها للآخرين علامة للتميز والثقافة بمهارة وحرفية لا نظير لها ،لكنها بالنسبة له مصدراً لرزق لابديل عنه وبدا إن شبكة صيده علق فيها الكثير من الاقلام في هذا اليوم ، تبعه في المجيء بائع الأحلام والخيالات الملونة ساهي ابو الحشيشة مثبتا على دراجته الهوائية بأحكام استثنائية .
ولد دونما ساقين فاستعاض عنهما بمساعد يدفع له ودراجته الهوائية لعرض بضاعته السحرية ،عندما وصل كان منتاز النشال يسألهم عن احوالهم وعن عنوان فيلم السهرة الذي سيعرض الليلة,وقفوا أمامه يردون عليه باحترام وتقدير لا زيف فيه ،وود خالص لشخصه الكريم الذي طالما أغدق عليهم بهباته بما يحتاجون من نقود من فئات صغيرة يمكن أن تقضي حوائجهم في الحصول على قدح شاي في المقهى وحتى زجاجة بيبسي كولا أو سيكارة من بائع المفرد ولكن هذه المرة شملهم بعطف لم يخطر لهم على بال أو خاطر,نادى على ساهي وطلب منه أن يفرق عليهم بضاعته السحرية بما يساوي عشرين فلساً لكل فرد من أفراد الدائرة المربعة دونما استثناء فأخرج الآخر كيسا من قماش بحجم الكف اعتاد كبار السن وضع التبغ فيه وراح يوزع عليهم
قطع من مادة اشبه بالحناء المسحوق كأنها عجنت بماء وتيبست بنصف حجم عقدة الاصبع.
أفرغوا تبغ السكائر التي من بها عليهم جوتي ،وراح يعملون على خلطها ومن ثم إعادة الخليط الى اسطوانة السكائر الورقية .اشعلوها ولم يستغرق الأمر كثيراً حتى اطفئوا الشمس وأبدلوا ظل الجدار بليل مرصع بنجوم يتوسطه قمراً يسكب ضوءا لا سبيل لوصف فتنته وعالم بلا انضباط عسكري ولا احزان تطرأ على بال حتى ان حسن دندن مع نفسه بأنغام اغنيته(عندي دجاجة بالبيت)متناسياً أيام جدب شهر عاشوراء وحزنه، وجد نفسه وكأنه في حفلة عرس، تهتز لإيقاع طبلته كل مضارب الغجر.لقد شاء الله أن يخلق منغصات عيشهم ولكن بلطف منه خلق لهم جوتي ومنتاز وساهي الكسيح بائع الاحلام.




[SIZE=6]عبد الزهرة المنشداوي[/SIZE]
  • Like
التفاعلات: غازي سلمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى