ألف ليلة و ليلة رشيد بازي - عبد الله العروي قارئا لـ «ألف ليلة وليلة»

في كتابه «مفهوم العقل» (ص 349) يذهب عبد الله العروي إلى أنه وبحكم «تجربة الحضارة الإسلامية المؤسسة على تأويل التنزيل»، فالإنتاج الأدبي يتميز بخيال محدود بالعقل وذلك حتى لما يتضمن أحوالا غير عادية. «غرائب ألف ليلة وليلة خاضعة في الغالب لما هو عادي مألوف.» ثم يضيف قائلا: «لا يستهدف الفن الأدبي في هذه الحال المغامرة والاستكشاف، التنقيب عن الغامض والمجهول، بل حصر المعنى في عبارة لغوية بليغة قابلة للحفظ.»
زئبقية مفهوم العقل كما يرد في النص تجعل من الصعب رسم حدود ثابته له، والتعامل معه على أنه أداة إجرائية تمكن فعلا من مقاربة إشكاليات مختلفة وتغطية فضاءات معرفية متباعدة في ما بينها، كما يفعل العروي، دون اللجوء إلى عمليتَي تبسيط واختزال قاتلتين. وبما أن العروي لا يحدد مفهوم العقل، على الأقل عندما يتطرق لمسألة السرد والحكاية، فسنكون مضطرين، حتى إشعار آخر، للاستنتاج بأنه، على الأقل، يجعل من العقل مرادفا للعادي المألوف، ولأن نبسط قراءتنا ونتساءل بسذاجة – قد لا تليق بالمستوى الأكاديمي الصارم الذي يجب على كل قارئ مسؤول أن يلتزم به في تعامله مع كتابات العروي – عما إذا كان من العادي المألوف أن تتكلم الحيوانات وأن تكون الخيول مُجنحة وتطير في الهواء، وأن يتمكن شخص ما من الاختفاء عن الأنظار بمجرد وضع طاقية فوق رأسه، وكل هذا يحدث في «ألف ليلة». والنتيجة التي نجد أنفسنا مرغمين على استخلاصها هو أن الغرائب تخرج عادة عن العادي المألوف، وبأن المفارقة التي يسقط فيها العروي هو أنه يرى بأن الغرائب في «ألف ليلة» لا تخرج عن العادي المألوف.
لن نَرقَ بالنقاش إلى مستوى أكثر جدية. زئبقية مفهوم العقل تدفع بالعروي إلى الانتقال من إشكالية العقل إلى إشكالية أخرى تختلف على نحو جذري عن الأولى. عندما يتحدث العروي عن «عبارة لغوية قابلة للحفظ»، فإنه يطرح دون وعي بذلك مسألة الشفوية. الصور البلاغية، شأنها في ذلك شأن تقنيات أخرى تساعد على الحفظ كالسجع والأوزان والقافية والموسيقى، وظيفتها الأصلية كانت تقتصر على تمكين شعوب كانت، ومنها من لا يزال، تجهل أو تتجاهل الكتابة، من ترسيخ مخزونها الثقافي في ذاكرة الأفراد وحمايته من الضياع. وهذه مسألة لا دخل للعقل فيها ما عدا إذا توسلنا بطرق ملتوية وأساليب مغتصبة. وتجدر الإشارة إلى أنه بانتشار الكتابة وتجذرها في قسم كبير من الحضارات الإنسانية، أصبح بالإمكان الاستغناء عن الصور البلاغية والتقنيات الأخرى، إلا أنها بدل أن تندثر وتضمحل وتُترك جانبا، تم توظيفها لتصبح أشكالا فنية مستقلة أو ركائز ودعامات لها. وعليه، فالجمع، كما يفعل العروي، بين «الفن» الأدبي و»الحفظ» يعتبر مفارقة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها.
الإشكالية التي يجب الآن طرحها تتعلق بجوهر الأطروحة التي يقدمها العروي والمتمثلة في جعل «ألف ليلة» وليدا شرعيا للحضارة الإسلامية. إشارتان إلى ألف ليلة وهما الأقدمان على الإطلاق وترجعان إلى القرن العاشر الميلادي، وردتا عند المسعودي وابن النديم تتحدثان على نحو لا لبس فيه عن الأصل الفارسي لـ»ألف ليلة (هزار افسانه، ألف خرافة). ولا يجب أن ننسى في هذا السياق بأن وصول إنتاج سردي فارسي أو مترجم إلى الفارسية من البهلوية والسنسكريتية إلى العالم العربي بدأ منذ القرن الثامن الميلادي، وبأن أقلمة هذا الإنتاج بإعادة صياغته في قوالب عربية، بدأت واستمرت طيلة القرن التاسع الميلادي.
صحيح أن النسخة الأولى لـ»ألف ليلة» والنموذج الأصلي الفارسي ضاعا إلى الأبد، ولكن الباحثين كرسوا مجهوداتهم لتحليل حكايات ألف ليلة والتنقيب، كما يفعل علماء الأركيولوجيا، بحثا عن المصادر الأصلية للعناصر المكونة لها. فمنذ سنة 1833 قدم المستشرق الألماني غيوم فون شليغيل أطروحة تمكن الفرنسي إيمانويل كوسكان في بداية القرن الماضي من تدقيقها، وعملت أجيال من الباحثين إلى أيامنا هذه على اختبارها دون الرجوع عنها، وهي أن التقنية المُهيكلة لـ»ألف ليلة»، أي التأطير وتناسل الحكايات بعضها من بعض، مستوردة من الأدب الهندي القديم وبأن الحكاية المؤطرة للمجموعة بأكملها، حكاية شهرزاد وشهريار، تنحدر من أصول هندية، كما أنه لا يجب التعامل معها على أنها حكاية متماسكة ظهرت إلى الوجود دفعة واحدة، وذلك على اعتبار أنها مركبة من ثلاثة أجزاء ثبُت على نحو لا رجعة فيه بأنها تعتبر من التقاليد السردية المترسخة في الأدب الهندي السنسكريتي.
وبناء على هذا يصبح التعامل مع ألف ليلة على أنها كتلة سردية منسجمة يمكن ربطها مباشرة بنسق حضاري معين مجرد قراءة انطباعية تبسيطية إلى حد بعيد. فمنذ أن تركت أرضها الأصلية الهند ووصلت إلى العالم العربي، بغداد على وجه الدقة، مرورا ببلاد فارس، ثم انتشرت في الشام ومصر، وألف ليلة تخضع على أيدي النساخ والمترجمين وفي أفواه الحكواتيين لعملية تغيير وتحويل تطال نواتها الأصلية بدرجات متفاوتة. وبقي هذا ديدنها طوال قرون ومنذ بداياتها الأولى — كما يشهد على ذلك التباين الواضح الموجود بين الروايتين اللتين يقدمهما كل من المسعودي وابن النديم للحكاية -الإطار-، إلى أن بدأت تظهر الطبعات العربية الأولى في القرن التاسع عشر (كلكتا في الهند سنة 1814 وبولاق بمصر سنة 1835).
فعملية تفكيك للحكاية الواحدة قد تظهر بأنها تستقي مادتها من مكونات ومصادر سردية مختلفة تنتمي إلى حقب وحضارات متباينة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحكايات الأولى، والتي لا جدال في أنها تنتمي إلى المجموعة العربية الأصلية كما نشأت ونمت في بغداد. حكاية الصعلوك الثالث، على سبيل المثال، تنحدر من أصول هندية ومن السهل تحديد علاقة القرابة القوية التي تربط بطلها الملك عجيب بالبرهمي ساكتيديفا، البطل الهندي، إلا أن الجزء المتعلق بالكيفية التي يقتل بها الغلام الصغير عن غير قصد هي إضافة عربية نجد نسختها الأصلية عند التنوخي (الفرج بعد الشدة).
شخصية شهرزاد تتطلب التحليل ذاته حتى في ما يخص الاسم الذي تحمله. على الرغم من أصولها الهندية، فهي زُودت بدخولها إلى بلاد فارس بعنصر محلي يتمثل في الحيلة التي استعملتها للنجاة من الموت، أي الاستمرار في الحكي إلى أن تلد وتضع شهريار أمام الأمر الواقع وترغمه على الإقلاع عن فكرة قتلها. هذا الجزء من الحكاية مقتبس من حكاية أردشير، مؤسس الدولة الساسانية، مع الأميرة الأشكانية. في ما يتعلق بالاسم، فالمسعودي يتحدث عن شيرزاد وابن النديم عن شهرازاد، وكلا الاسمين هما مجرد صيغتين معربتين للاسم الفارسي چهر آزاد (حرفيا: الوجه الحر، أي المرأة النبيلة)، على اعتبار أن الحرف چ (tché) لا يوجد في العربية.
وبما أن هارون الرشيد يعتبر من الشخصيات المحورية في ألف ليلة، فمن الأهمية بمكان البحث لمعرفة في أية ظروف تم دمجه فيها. بالنسبة لأندريه ميكيل الحضور المتميز للخليفة العباسي في حكايات شهرزاد، يجد تفسيره في الزخم الذي عرفته حركة تسجيل الحكايات أيام حكمه. وبما أن أول حكاية يظهر فيها هي حكاية الصعاليك الثلاثة، وبما أن الحكاية الشعبية الفارسية القديمة عرفت هي الأخرى حكاية مماثلة، وهي حكاية الدراويش الأربعة (چهار درويش) فليس من المستبعد أن يكون هارون الرشيد قد دخل عالم ألف ليلة ليحل محل الملك الفارسي آزاد بخت. إلا أنه لا يمكن لنا بتاتا الإحاطة على نحو شامل بشخصية الخليفة العباسي في تعاملها مع الصعاليك العور، وهذا التفصيل يعتبر إضافة عربية أصيلة، إلا بطرح فرضية تطعيمها بعناصر مستقاة من النتاج السردي العربي القديم وهذا ما تؤكده لنا حكاية وردت عند ابن أبي الدنيا (كتاب الاعتبار) تتعلق بالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.
وانفتاح الحكاية الشعبية المستمر هذا على الاغتناء والتفاعل هو الذي دفع بالباحثين إلى استعمال مصطلحَي الموتيف والثيمة حتى يصبح بالإمكان تجزئة الحكايات وتحديد طبيعة العناصر المكونة لها، والارتكاز على مقاربة اشتقاقية لإرجاع هذه العناصر إلى أصولها والتعرف على سلالاتها.
والنتيجة الحتمية التي تفرض نفسها هي أنه لا يمكن لأي باحث أن يدعي، كما يؤكد على ذلك أندريه ميكيل، بأنه يملك «النص الحقيقي» لألف ليلة، فهذا النص لا وجود فعلي له. ومن ثمة يجب على الباحثين أن يُقروا بمحدودية تحليلاتهم بالإشارة دائما إلى المخطوط أو الطبعة التي يعتمدونها أو اللجوء، في أحسن الحالات، إلى فحص حكاية معينة بإدماجها في مختلف الروايات التي توجد لها. الإحالة، كما يفعل العروي، إلى «ألف ليلة» تنم عن فهم بسيط وتبسيطي لخصوصيات الحكاية الشعبية، خاصة وأنه يعطي أهمية قصوى للعبارة اللغوية وهي تختلف باختلاف المخطوطات والطبعات.
لن نكون مبالغين في شيء إذا افترضنا بأنه وبحكم السياق الذي وردت فيه أطروحة العروي، فالنسخة الأصلية لـ»ألف ليلة» لا غير هي التي ينطبق عليها ما يفترضه من تماهي الحكاية مع الحضارة الإسلامية. صحيح أن هذه النسخة لم تصل إلينا ولكننا بإمكاننا الجزم بأنها على أية حال لا ينطبق عليها ما جاء في كلام العروي عندما يتحدث عن «الفن الأدبي» و»العبارة اللغوية البليغة». فلو كانت ألف ليلة ترتقي في أعين قرائها الأوائل إلى المستوى الذي يخول لها أن تقدم نفسها كعمل أدبي، لما هُمشت وطواها النسيان ولم يكتب لها أن ترى النور بشكل واضح إلا في هيئة ترجمة فرنسية في أوائل القرن الثامن عشر، ولو كان نص ألف ليلة مصاغا في قالب لغوي بليغ لما قال فيه ابن النديم وهو الوراق المتمرس: «وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث». على عكس كتاب كليلة ودمنة مثلا، على الرغم من تطابق مساره مع مسار ألف ليلة، فهو كذلك جاء من الهند إلى بغداد مرورا ببلاد فارس. الفارق الوحيد الذي جعله يفرض نفسه كعمل أدبي متميز هو أنه ترجم من البهلوية من طرف ابن المقفع الذي عرف كيف يصبه في قالب أدبي معترف به بين مثقفي تلك المرحلة. (كتاب كليلة ودمنة الذي يسوقه العروي كنموذج ثاني، بالإضافة إلى ألف ليلة، ليؤكد تشبع الحكاية بالعقلية الإسلامية.)
وبما أن أطروحة العروي تتمحور حول الغرائب، فلنتساءل: هل يجب إدماج مغامرات السندباد في النصوص المدروسة عندما نتحدث عن ألف ليلة في حين أنه لم يتم إدراجها في المجموعة إلا في وقت لاحق، بعد 850م، تاريخ تدوين كتاب «أخبار الصين والهند» الذي تشكلت انطلاقا منه؟ فهي لا توجد مثلا في المخطوط السوري الذي اعتمده أنطوان غالان في ترجمته الفرنسية الصادرة بداية القرن الثامن عشر، والذي يعتبر من أقدم المخطوطات التي نجت من الضياع.
نفس السؤال يجب طرحه عند التطرق لحكايتين تعتبران من العناوين المغذية للصورة التي ارتسمت في مخيلة الجميع عن ألف ليلة، وهما علاء الدين والمصباح السحري وعلي بابا والأربعون لصا في حين أنهما لم تلتحقا بألف ليلة إلا أن غالان قرر إضافتهما على الرغم من غيابهما في المخطوط الذي اعتمده. كل المخطوطات التي نجت من الضياع لا تتجاوز القرن الرابع عشر، وتنتمي كلها إلى الفرع الشامي – المصري. فكان من الطبيعي أن تكون المخطوطات المصرية مثلا شاملة لحكايات محلية لا صلة لها بالنواة الأصلية للمجموعة كالحكايتين المتعلقتين بالخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وهما لا تخلوان من غرائب.
بقدر ما تتميز كتابات العروي بالفرنسية بتوفرها على كل شروط الكتابة العلمية الحديثة كالصرامة في التحليل، والالتزام بحصر الإشكاليات وتحديد الإحالات وتدقيقها، بقدر ما تتميز كتاباته الموجهة للقارئ العربي بنزعتها القوية إلى التشتت والاستطراد جريا وراء الشمولية والنسقية، وإلى التراخي والتجاهل لأدنى متطلبات البحث الأكاديمي، بحيث أنها تبدو أحيانا وكأنها مجرد مسودات لم تراجع وتصحح كما يجب. وهذه الازدواجية المنهجية تطرح أكثر من سؤال وتستحق أن تُفحص عن كثب. على أية حال، فالنسقية لا تنتج عن التراكم الكمي للأطروحات والسعي الدؤوب إلى تغطية أكبر مساحة ممكنة من الإشكاليات، خاصة وأن الأمر قد يتطلب أحيانا الإقصاء بجرة قلم لما توصلت إليه أجيال من الباحثين المتخصصين من حصيلة معرفية، ولا بالإحالة التبسيطية والاختزالية إلى مختلف العلوم ، ولكن ببلورة منهج إجرائي دقيق يمكن من تفسير ظواهر اجتماعية وثقافية قد تبدو من الوهلة الأولى متنافرة.
يخطر ببالي وأنا أكتب هذه السطور ما قالته المستشرقة الفرنسية نادا توميش لطالب جزائري، وهو يدافع عن أطروحة دكتوراه في السوربون، موضوع الأطروحة كان حول أركون والجابري، قالت بأن ما يعاب على المثقفين العرب هو رغبتهم الملحة في ملء الفراغ الثقافي الذي تعرفه مجتمعاتهم بحرق المراحل والعمل منذ البداية على ورشات ضخمة وإشكاليات عامة، في حين أنه يجب المرور بمرحلة تمهيدية تكون قاعدتها الأساسية التخصص والتفرغ لإشكاليات محددة، والاكتفاء مرحليا بالتراكم الكمي للدراسات والنتائج، وهذا التراكم الكمي سيصل إلى مستوى سيصبح فيه ممكنا للثقافة العربية القيام بقفزة نوعية ستجعل الأمور أسهل على الباحثين الراغبين في بلورة مقاربات شمولية، مبنية على أسس متينة. وتلك حكاية أخرى.

المرجع: عبد الله العروي، مفهوم العقل، بيروت/الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2001.




رشيد بازي

بتاريخ : 05/03/2021


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى