د. سيد شعبان - محروسة يا بلد!

تجوب حارتنا حكايات مالها حصر، آلاف جاءوا ثم مضوا دون أن يتركوا بصمة، في بلاد تنام من المغرب وتصحو على سياط الذل، وحدها تفرد مساحة من ذاكرتها، أسرار خفية احتفظت بها؛ يوم ضرب وباء الكوليرا الناس؛ مات كثيرون، كان الطوفان الأصفر مثل رياح الخماسين غطى سماء المحروسة، تدوي صافرات الإنذار في فزع، يتملك الناس الخوف؛ يقول عم المواوي: هتلر زحف بجيشه مثل الثعبان؛ يقترب من الإسكندرية، مصيبة كبيرة لو تقابل مع جيش الاحتلال الإنجليزي في المدينة؛ ابن أبو مندور- ربنا يقهره- فرحان؛ ولد مجنون يلف في الحارة ويتطوح وهرتل بكلام غريب؛ حافي ولو لقي فردة حذاء على الكوم وضعها على رأسه؛ ويا سلام ليلة العيد يغطس في النيل؛ ويمكن يستهبل ويخرج عريانا؛ ومن تحت عيونهن البجحة تتشوفه النسوان، هل هو الاشتهاء في زمن كان الرجال يعاقبون بالخصي؛ حتى لا يمارسوا رجولتهم في الخفاء؟
سألتها: ومن أين تأتي البشر، إذا كان الرجال مصابين بالعجز؟
محروس من العين يا ولدي، تلك كانت كلمتها التي يحلو لها أن تعطف بها حينما تناديه أو تطلب منه شيئا، وحيدها الذي انطوت عليه عمرها، حسدوها لأدبه ولوسامته، حياء العذراء، فتوة الشباب، عقل الكبار، الآن صارت وحيدة!
أين ذهب؟
لا تدري!
كثرت في عزبتنا الشائعات؛ بنت حلوة، صفراء الشعر سلبت عقله، آخرون يقولون إنه مشى في سكة الندامة، تعددت الأحاديث، لكنهم ما جاءوا بالخبر اليقين.
حتى أننا نسينا اسمه الحقيقي، يحلو لنا أن نناديه بذلك اللقب المركب؛ يا محروس من العين ،هذه عادة طريفة، ظللنا نتندر بها وقتا طويلا، حتى شاع هذا اللقب في كل وحيد أبويه، الناس في عزبتنا بسطاء، إنهم يرضون بالكفاف من كل شيء، التموين صار لديهم عهدة، الخفير المنتفخ البطن يمثل السلطة، المش الممزوج بالدود بالتاكيد طعامهم المفضل، شربة البلهارسيا منتهى الدواء، عم فرحات التومرجي والساخي مزين الحمير ومسعودة الداية"العرجا"أهم من يلجأون إليه وقت الداء.
يوم ولادته كان الحريق الكبير، زغردت النار في الناحية الشرقية جهة كومة العفريت، الناس هنا تفسر الأماكن حسب مزاجها، يكرهون ويحبون تبعا لهواهم، بلد عجيب، يدمن الرغي في الفاضي، ساعة العصر يقعدون عند " جدر الغجر" يتسلون بحكايات المطلقات، وربما يختمون حديثهم بالتندر والغمز على بعضهم البعض، الولد المحروس من العين اختفى، البنت الصفراء سلبت عقله، أصله تعلم في البندر، لعنة الله على الورقة والقلم، هكذا قالت مسعودة العرجا، يحلو لها أن تجالسهم حين لا يكتمل القمر، فالنسوان لا يلدن إلا في ليلة البدر، الرجال يحلو لهم في العتمة قربهن، تضحك مسعودة حتى يبين سقف حنكها الخالي، يقهقه فرحات مزين الصحة، يتراقص الساخي حلاق الحمير.
والقطار من بعيد يتلوى مثل ثعبان البركة، زمارته تنطلق قذيفة مدفع هاون سمعنا عنه يوم ما ضرب هتلر العلمين، حكاية رواها أبو طيفة علامة العزبة، والغريب أنه كان لا يكتب ولا يقرأ، يمسك ورقة جرنال قديم ويدور فيه، الجهل عمى والمرض هنا بالفدان، المحروس من العين لبس البالطو الأبيض نزل من محطة سنهور وعند جميزة شردح طلع له مزين الصحة وهات يا ضرب بالنبوت، ساح في دمه، أصل الحلم محال على عزبة عاشت عمرها في البؤس.
اشتغل الصوات الحزين، جرى الغلابة من الغيطان، لحقوه وهو في أخر نغس، ركبوه حمارة وهدان، عند المحطة وقف القطار، السائق يبحث عن عنزته الشاردة؛ جرت يمينا وشمالا لما أمسكوا بها كان المحروس قد ركب، ومن يومها حرمت العزبة من يد الشفاء، رتعت فيها الغربان، كان حلما كبيرا انطوى، غنى أبوطيفة ألف موال حزين، الكره يا بلد داء سرى في الشارع، روى الحزانى ماء العلقم، خباص وراء خباص اسودت العزبة وانتشر فيها النواح.
نخلة واقفة يتيمة كلما مر من تحتها ابن ليل تداريه، تحري الخفر على الصوت حتى لو كان حاملا لجريدة خضراء ومعلق فيها راية، انطلقوا وانفلت عقالهم، ساح الكفر في البله والعمى، رتعت في حجرة الناظر الفئران، ولما تكتمل الحكاية وتقترب من النهاية تبدأ من جديد، مكتوب الذل والعمى على كفر المنسي.
ضربتني في خدي، رمت بالتراب في عيني، اسكت، الخواجه وحده مسموح له بركوب الخيل في الكفر، بنات تحل من على حبل المشنقة، عرائس في طلعة الربيع، في القصر حناء وعسل وقرص خد الجميل.
أم أن النسوان يعجبهن ما يكون غريب الأطوار؟ حتى ولو كانت لأبله؛ حديث عصاري تحت شجرة التوت العاقر؛ كل شيء هنا يحمل سر فنائه، البشر والحجر بل حتى الملك نفسه حاصروه ، يلقون الجوعى عراة لأسود تسكن قرب ثكنات قصر النيل، حكاية بلد مكتوب عليه الحيرة؛ محروم من الفرح، دائما يلبس ثوب الحداد.
هل يكون فقر وقلة حيلة؛ من كرابيج الخواجات؛ وسية والكل فيها عبد؛ ومولانا الملك منشغل بالجميلات يعصرونه له عشرين زوجا من الحمام ،آخر المتمة مد نسبه الطاهر وزوج أخته فريدة من شاه إيران، خلينا في حالنا، السواقي عطشانة والنداهة كل يوم حدأة تخطف أجمل البنات.
والقلعة سجن كبير، والبلد في سكة ندامة تزحف فيها ديدان الأرض، قضبان الدلتا إلتوت وسكنتها الفئران، وجه المحروسة فيه ندوب من ليالي الخمر وطول السهر في شارع محمد علي، ألف غجرية تبيع الهوى في درب سعادة تحرسهن عساكر الدورية.
ابن أبو مندور ماشي في الكفر يهرتل؛ يقول المواوي:
يوم زواج الملك كل الكفر سيلبس حذاء جديدا، ويمكن نركب كلنا قطار الدلتا ونبارك لمولانا عند قصر عابدين.
زينة ورايات وطبل وزمر وخيل تجري في الساحة؛ ومولانا يشير إلينا من شرفة القصر، ونرجع الكفر الحزين وسط البراري والحامول نغني لمولانا؛ وجمال طلعته وعلو مقامه؛ بلد تعرف المغنى وتنام في الخرابة.
في بلادنا تأتي الحكمة من أفواه المجانين، يا عزيز يا عزيز ؛ كبة تاخد الإنجليز، يوم ما جاءوا يسننوها كتبوا إنها من مواليد هوجة عرابي، هي لا تعرف غير إن المحروسة بلد مبارك، تعبت من النداهة؛ ضحكت عليها؛ طبعا جدتي تسح حكايات؛ وأنا خليفتها؛ ماتت ولم تسر إلي بكل ما اختزنته في حجرة الفرن في ليالي الشتاء الطويلة، يبدأ العفاريت في الحركة، ينصتون إليها، على فكرة جدتي هذه كانت مؤاخية جنية، عندها كلام منسق؛ لا تعرف القراءة ولا الكتابة؛ تذكرت العلبة السوداء التي كانت تتكلم بالليل" راديو" قديم؛ صنعه الخواجة ماركوني الإيطالي؛ تظل جدتي تحكي في متواصلة لا تنقطع حتى آذان الديوك؛ تخطو أقدام مفزعة، مواء القطة السوداء عند عتبة الباب الخشبي المجوف؛ تتمايل أشجار الكافور، دوي الريح أصوات عفاريت في الظلام، من نصف عصر تغلق البيوت على من فيها؛ العسكري الأحمر، ستي قالت إن نسوان الخواجات حلوين، طول عمري وأنا أبحث عن واحدة عينها خضراء وشعرها أصفر؛ كل البنات في حارتنا سود؛ والبنت الحلوة خطفها ابن العمدة؛ حتي النسوان قسمة ونصيب في كفرنا الغلبان.
يضرب كل من يقابله، حتى الغجر الذين لا يقدر عليهم إلا رب القدرة- يصبغون الحمير؛ يلعبون بالبيضة والحجر؛ اختفوا تحت عباءة الليل المظلم، كل واحد هرب بعياله؛ سكن البيوت الرعب؛ السلطة شديدة، والتجريسة في الحارة فضيحة؛ أقوى شنب فيها لو تعاظم يلبس جلباب امرأته؛ ولا يجرؤ واحد أن يعصي الكلام،
منك لله يا جدتي، ابتليت بالحكي؛ أخذتني من أمي؛ أبي عاجز، والعيال كثيرة والفقر مد غطاءه علينا، كنا نقتسم حبات الأرز، على أية حال هرب" روميل" ويومها العمدة جمع الكفر كله؛ والخفراء جرسوا ابن أبومندور؛ سألتني صغيرتي: يعنى أيه؟
ركبوه حمار بالمقلوب: لبسوه جلابية ستوته العايقة؛ ربطوا له ضفيرة، وكانت حفلة!
ومن يومها وكبر الخوف في كفرالمنسي؛ سكن الوطواط بوابة الجامع الكبير؛ تغيرت الملامح؛ على كل الألوان تلد النسوان، حتى إن الأولاد تاهت في بعضها؛ غير معروف من لعب في الجينات؛ شرح لي الأستاذ محمود القط في حصة الأحياء أيام مدرسة ثانوية محلة أبوعلى عن تلك الشفرة الوراثية؛ يمكن واحد من أصحاب السوق الذين اعتدوا في السبت عمل خلطة سرية؛ زمان كان عريف الكتاب يخدع سيدنا، يقلده ويحكي لنا حكايات عجيبة؛ القرد ميمون أحب غزالة؛ جرى وراءها، سرق لها سباطة موز، أحضر التمر من أعلى النخلة، سرح به الخيال، نسى نفسه؛ وقع مات.
بهانة بائعة الفجل أسمت ابنتها الكبرى " ديانا" والله البنت عسل؛ يمكن يضرب معها الحظ وتعرف ولد مثل " دودي".
وجدها المواوي حكاية يضرب بها الموسم الجديد، يبدأ بمولد سيدي البدوي وتكون الجمعة اليتيمة قدام ساحة سيدنا الحسين.
وتحضر لي جدتي حمصا وفولا نابتا، وطبلا وشخاشيخ؛ وديكا يرقص، وببغاء يردد الصوت الأخير.


د. سيد شعبان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى