د. السيد إبراهيم أحمد - الإسراء والمعراج: إلهية الفعل وبشرية التفاعل..

يكمن الفعل الإلهي في معجزة الإسراء والمعراج فيما جاء به النص القرآني بأن الله عز وجل هو الذي أسرى بعبده روحًا وجسدًا، ويقظةً لا مناما، مددًا سماويًا إلهيًا لرسوله صلى الله عليه وسلم في رحلة سماوية علوية تكريمًا له من ربه، وتثبيتًا له، يسيحُ خلالها سياحةً ربانية في ملكوت الحق جل جلاله، ليجد يد الله الحانية تمسح عن جبينه وقلبه المكلوم عناء استهلال واستشراف بدايات رحلة الدعوة إلى توحيد الحق عز وجل.

لقد وردت أحداث الإسراء والمعراج إلهية الفعل بطريق يقيني؛ لأن آيات سورة الإسراء أثبتت الإسراء، وآيات سورة النجم أثبتت المعراج فصار معلومًا من الدين بالضرورة، وجاءت الأحاديث الشريفة الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما، وفيها تفصيلات تزيد عما في القرآن.

يقول القرطبي في تفسيره) :ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيًا).

جمع الإمام الذهبي أحاديث الإسراء والمعراج في جزأين، وقد جاء تعليق ابن كثير في تفسيره تعليقًا: (وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتَّفقتْ عليه من مسرى رسول الله من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرَّة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على مَنْ عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كلَّ رواية خالفت الأخرى مرَّة على حِدَة، فأثبتَ إسراءات متعدِّدة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب).

فمعجزة الإسراء والمعراج بإجماع جماهير المسلمين من أبرز معجزات النبى صلى الله عليه وسلم، رواها أبو ذر، وأنس بن مالك، ومالك بن صعصعة، وجابر بن عبد الله، وشداد بن أوس وغيرهم، في روايات صحيحة مقبولة مرضية عند أهل العلم مُخرَّجة وحوتها كتب الصحاح .

على الرغم من أن "الإسراء" و "المعراج" حدثا في نفس الليلة، فإن موضعي ورودهما في القرآن الكريم لم يترادفا، بل ذكر الإسراء أولا في سورة الإسراء، وتأخر الحديث عن المعراج إلى سورة النجم التي وضعت بعد سورة الإسراء في ترتيب سور القرآن.

وقد تكون الحكمة في هذا هى جعل "الإسراء" وهو الرحلة الأرضية مقدمة للإخبار بالمعراج، وهي الرحلة العلوية التي ذهل الناس عندما أخبروا بها، فارتد عن الإسلام وقتها ضعاف الإيمان، بينما ظل على الإيمان أقوياءه كما يرجح هذا الدكتور كارم السيد غنيم في بحثه حول معجزة الإسـراء والمعراج من منظـور علـمي.

تأتي بشرية التفاعل مع معجزة الإسراء والمعراج بما فيها من المعالم، والعبر والدلالات عندما وقعت في قلب المسلم عبر العصور موقع التصديق اليقيني ليقينية مصدرها، ولهذا تفاعل معها بالدراسة، والمعايشة، والإبداع حيث كانت لها مكانتها في الأدب الإسلامي وخاصة الشعر مما شكل وجود قصائد تتناول معجزة الإسراء والمعراج في ديوانه عبر تاريخه بقوة، سواء أكانت تأتي هذه القصائد ضمنيًا داخل المديح النبوي أو منفصلة عنه في قصائد تخصها بالذكر وحدها، تستوحيها بأحداثها، أو برمزيتها التي تُسقطها على الأحداث المعاصرة، مما يؤكد حيويتها، وتواصل الأجيال وتفاعلها معها في كل زمن.

كما تأتي بشرية التفاعل في اصطلاحها الإجرائي ـ المقصود به في هذا المقال ـ حين عانقت عقول وقلوب المبدعين من العرب وغير العرب ومن المسلمين وغير المسلمين من الذين فتنوا بها وانبهروا وانكبوا يستلهمونها حتى صاغوها عملا أدبيا ضمن الخلود والأبدية له في التناول والطرح عبر الدراسات الأكاديمية وغيرها، ومنها بل على رأسها "رسالة الغفران" التي أملاها أبو العلاء في بلدته المعرة.

لكن يرد التساؤل: لماذا رسالة المعري الأولى والأهم؟! والجواب لأن المعري كان أول من تفاعل مع معجزة الإسراء والمعراج، كما كان هو الذي حرك ترس التفاعل الذي دار ونقل الحركة إلى دانتي الليجيري وجون ملتون، لينتج الأول "الكوميديا الإلهية"، ويكتب الثاني "الفردوس المفقود"، على الرغم من تطاول الزمن بين الثلاثة بالقرون!

ولا تزال دراسات الأدب المقارن تشتعل بتأثر كل منهما ـ أي الليجيري وملتون ـ برائعة المعري مما أحدث تفاعلا بشريا من عهد النبوة حين أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن رحلتيه إسراءً ومعراجا ما بين مصدق ومكذب ومتردد، مرورًا بكل الأزمنة التي شهدت انفعالا وتفاعلا من قبل أصحاب القلم والفكر والنثر والقصيدة كما ذكرتُ هذا في مقال سابق، بعنوان: "الإسراء والمعراج: المعجزة والقصيدة"، رصدتُ من خلاله الأعلام من الشعراء الذين تفاعلوا معها ومن الشعراء الشباب في عصرنا الحاضر، وهو ما يعني أن إلهية الفعل التي سرت في بشرية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين جاوزت به حدود كوكبنا الأرضي لتنتهي به عند سدرة المنتهى وجنة المأوى مازالت سارية تفاعلا بشريا في كل من يتفاعل مع المعجزة بالإيمان واليقين والتصديق، والإبداع نثرا وشعرا وأدبا وفكرا من كل البشر على اختلاف ألسنتهم ومعتقداتهم وأزمنتهم وأماكنهم، انعكاسا من أنوار المعجزة الساري في عقول وقلوب البشر عبر الزمن إلى أن يرث الله تعالى الأرض وما ومن عليها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى