محمود سعيد - رسالة إلى وفيّة

كزهرة عبّاد شمس لكن حمراء قانية، زهرة عباد شمس من دماء تكوّنت أسفل رأسه.
في السّادسة فجراُ أبكّر، مع ذلك هناك حرّ الصّيف والرّطوبة يخلخان كياني، يشوشان وجودي، يحيلانه إلى هلام مترجرج يتأرجح بين انعدام الوزن، وفقدان الأهميّة، أحتاج إلى نصف ساعة من الجلوس البليد كي يصفو ذهني.

في المقهى على المسطبة الخشبية التّقيته اليوم، دائما كنت أوّل من يجلس عليها، النّادل الهنديّ الأعجف يضع أمامي إفطاري الدّائم.. كأس جاي بالحليب، يضعه بصمت من دون أن يسالنّي.

أمام المسطبة توقّفت شاحنة بببسي، أخذ العمال ينقلون الصّناديق، يصفونها على الرّصيف إلى يمين المقهى، حجبوا كل ّالمنظر، مزّقت ضوضاؤهم سكون الصّباح.

عندما ضربته السّيارة المسرعة ارتفع أكثر من متر في الهواء، صدمته في ركبته، ارتفع، هوى كأنه لاعب زانة متمرس قفز عالياً ليتجنّب المساس بعصاً وهميّة، انحنى في الفضاء، سقط على رأسه، فوق قمرة السّائق.

قبل دقائق عندما جئتُ، فوجئت به جالسّا ينتظرني، نهض لاستقبالي، وجهه يفيض سروراً، إشعاع بريق عينيه الجذلتين.. حركة يديه العشوائيتين ثورة عارمة.
عانقني، هتف:
- هنئني.
فجأة صفا ذهني ومن دون أن أشرب الجاي، عانقني مرةّ أخرى:
- اشتغلتُ.
نحيلاً كان، هيكل عظمي، عظام تعانقني، عظام منحتها السّعادة قوّة، لو استمرت المعانقة ثواني أخرى لأحسست بشيء من الأذى.
- أين.؟
مد يده، أشار:
- هناك..مشرفا ومحاسبا على عمائر هناك ومع سكن، سأجلب الأولاد وأمّهم.
كنت أعلم أنه أميّ، كيف إذن محاسب؟
- أستتورّط بالمحاسبة؟
- شكليّات يقتضيها العقد.
لم نر السّيّارة القادمة، لم نر العمال الواقفين يصفّون ويحصون الصّناديق، يحاسبون صاحب المقهى، شاحنة البيبسي الطّويلة حجبت الرّؤية، حتى أني لم أسمع صوت انطلاق السّيارة القادمة بالرّغم من سرعتها الفائقة.
فوق قمرة السّائق انداحت دائرة الدّم، حول الرّأس حمراء كزهرة عبّاد شمس عظمى، ثم ما لبث أن انقلب ثلاث مرات، استقرّ أمامي على الرّصيف، أمام المكان الذي كان يجلس عليه ينتظرني.

كانت لحظة فرح طاغية وهو يهتف:
- أكتب لي رسالة إلى وفيّة.
أخرج من جيبه، قرب قلبه ورقة، مظروفاً، قلماً، من رسالتّه إلى زوجته علمتُ كل ّأسرار الأنفة التي كان يحجبها عني. وجد وكيل أعمال عائلته السّابق، استقرّ هنا قبل ربع قرن، طيلة ستة أشهر وهو يبحث عنه، التّقاه البارحة عندما عاد من إحدى رحلاته الطّويلات، ابن حلال لم ينس الزّاد والملح.

تصوري عانقني ثلاث مرات، عينني مشرفا على بعض العمائر، لا بأس كبداية، بدأ الخير، سأرسل لها بوساطة الصّراف جمراني بطاقة الطّائرة ومصروفات الاستعداد للسّفر، خلال أسبوعين تصلها التّأشيرة.

أخذ يفتّش في جيب قميصه الأبيض، عن العنوان، ما أسرع ما تلوّث القميص الأبيض بالدّم، جسده النّحيل هامد أمامي في الشّارع، أنا على المسطبة يسار المقهى الصّغير، وجهه نحوي..نظرة جامدة، ترفّع، كبرياء، لامبالاة، نظرة أبن نعمة عريقة.

قبل أربع عشرة سنة كان يدعونا كل ّأسبوع إلى بيته، ناديه المفضّل، السّفينة العائمة في شط العرب، جزيرة السّندباد، حديقة داره أكثر من ألف متر مربع تظلّلها الجهنّميّات وملكة الليل والسّدر والبمبر وأشجار البرتقال ودوالي العنب وأفضل نخلات البرحي والبريم والخضراوي، فجأة فقد كل ّشيء، سُفّر وعائلته إلى إيران.

صُودر كل ّشيء، احتلّ البيت رجال مدجّجون بالسّلاح، ذوي نظرات متجهّمة زرعوا الرّعب في قلب كل ّمن تحدثّه نفسه بالاقتراب.

نظراته الشّاخصة الجامدة لم تلغ أيّ شيء، فيها تشويش بدأ منذ أن أخذ يبحث عن العنوان بخجل.
- أين العنوان يا ضياء؟
فتّش جيب قميصه.
- هه..نسيته في الفندق.

ما زلت أشعر بعناقه الأخير، يشدّني بقوّة تركت آثارها هنا في صدري، كأنّه يعانقني أوّل مرّةّ حينما التّقيته هنا غريبا مثلي قبل ستّة أشهر.

- ماذا تفعل؟
فجراً كان الوقت أيضاً، قلت: أنظر إلى تلك الكومة من الرّقي؟
- ما بها؟
- إنها لي.
- لك؟
- نعم أبيعها هناك في الحمريّة.
ضرب ركبته من الألم.
- أنت تبيع الرّقي؟
- مدير عام يبيع الـ.. يا له من زمن!
- والعائلة؟
- في البصرة.
- كيف خرجت؟
- بعت بيتي هربت ابني أنقذته من الحرب يدرس الآن في فرنسا.
- أحسنت..نعم العمل، وأمه وأخواته؟
- أرسل لهم ما يدبر أمرهم.. وأنت كيف جئت من إيران؟ ألم تكن مرتاحاً؟
- نوعاً ما..( لا شيش ولا كباب ) لكني أريد أن أجلب أهلي إلى هنا، أريد أن يعيش أولادي في بيئة عربيّة.

شلتني نظراته الشّاخصة الجامدة، رفض أن يشكو إلي متاعبه، كبرياء عزيز قوم يأبى الذّل، ميّت لا ذليل، ظلّ منتصب القامة، رفض أيّ دعوة مني، رفض حتى استكان الجاي، رفض أن يجلس قربي على المسطبة كي لا أفرض عليه أيّ شيء يشربه، كان يراقبني من حيث لا أراه، وما أن أنهض من المسطبة حتى أراه ينتصب قربي، نسير، نثرثر، نتذكّر أيام العزّ، بين الفينة والفينة يردّد: أنت تبيع الرّقي! أضحك، ثم أردد بدوري:
- مليونير ومتشرد.
يضحك من كلمة مليونير، يدقّ الأرض برجله مرحا، يصفّق، تنتابه موجة فرح كما في الأيام الخوالي، أمام شطّ العرب، حديقة الدّار، جزيرة السّندباد، بصحتك، يرشف، الله، نتبادل الأنخاب، يصفّق من جديد، رجل كامل لكنّه أميّ وميّت .

- أنتهت الرّسالة، ما العنوان؟
فوجئ، أخذ يفتّش جيوبه، ثم نظر إلي بمرح: نسيته، أعرفه، لكن للتأكد سأجلبه، لن أتأخّر عليك.
نهض، انطلق، حدث الاصطدام بسرعة البرق، خلال ثوانٍ كان كل ّشيء قد أنتهى، لم أسمع صوت السّيارة، ولا انطلاقتها، لم أرها، شاحنة البيبسي كانت تحجب الرّؤيا، فقط عندما مرقت من أمامي رأيتها تنطلق بجنون في هذا الشّارع الضيّق الخالي، لم أميّز سوى لونين، بشرة السّائق القاتمة ولون السّيّارة الأبيض، يا لغبائي! أنا المثقّف! غير الأمي، المدير العام السّابق، لم أميّز أيّ رقم، فقط كالأثول قفزت من مكاني، حدّقت، كان مات، كل ذلك حدث في لحظات، حلم أم ومضة كابوس؟ أم صفعة دهر أخرى؟ مات، لكن عينيه مفتوحتان، تشخصان نحو أفق عميق بعيد، ربما إلى وفيّة.

1986


* المصدر : موقع بيت الموصل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى