أحمد رجب شلتوت - معجزة الذاكرة الأدبية في قدرتها على المحو

الذاكرة هي من أهم أدوات الكتابة، من دونها لا يمكننا الحديث عن نص أدبي، وخاصة النص الروائي، الذي لا يمكن له التحقق من دون التذكر ولو أن الكتابة ليست ذاك التذكر المخلص بقدر ما هو تذكر قادح قد يبدأ من ذكرى حقيقية لكنه في النهاية يصنع عوالمه الخاصة والمتمردة.
“آفة حارتنا النسيان”، هكذا تحدث نجيب محفوظ الذي رأى النسيان بداية الطريق إلى العدم، فجعل من الذاكرة وسيلة لمواجهة الفناء، كذلك اعتبر الناقد السوري جمال شحيد في كتابه “الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة” أن الرواية العربية ظاهرة من ظواهر الذاكرة، إذ انصرفت إلى تذكر الماضي لا إلى تخيل عوالم لا علاقة لها بالواقع.
ليست نوستالجيا
يؤكد الروائي إبراهيم عبدالمجيد على عفوية الحضور المفاجئ للذاكرة أثناء الكتابة، ويقول “ثمة مشاهد قديمة لم تكن في بالي عند بدء الكتابة لكنها تطفر فجأة، وكثيرا ما يأخذ العمل مسارا مغايرا بسبب هذا الحضور المفاجئ، كثيرا ما أكتشف ذلك فأعيد ترتيب أوراقي، وأحيانا أكتشفه بعد الفراغ من الكتابة، والغريب أن الذاكرة أحيانا ما تتعامل مع أشخاص وأحداث أبني عليهما القصة، تتعامل معهما بطريقة مقلوبة، فقد تأخذ الشخص أو الحدث وتضعهما في مكان وزمان غير زمانها ومكانها، ودائما ما تحتفظ لي الذاكرة بالأسى والحزن مما قرأت أو شاهدت ولا تحتفظ للأسف بالفرح”.
ويقول الروائي الجزائري بشير مفتي “لا أظن الكتابة من الذاكرة أو عنها تنبع في كتابتي الروائية كحنين لزمن فات، بقدر ما تكون نوعاً من الاختراع التخييلي للماضي، لأن ما يهم ليس استرجاع الذكريات بل إعادة كتابتها من جديد، إعادة اختراعها لتصبح جزءا من خيالات وأوهام الكاتب، أظن هذه اللعبة هي المفضلة عند أغلب الكتاب، وخاصة أن الذكريات بشكل عام لا يمكنها أن تكون ثابتة ودقيقة، ما نسترجعه ونستحضره من الزمن الماضي هو صورة عن الماضي، تظل حاضرة، ولكن بشكل غير متحكم فيه”.
الكتابة ليست استرجاع الذكريات بل إعادة كتابتها من جديد وإعادة اختراعها لتصبح جزءا من خيالات وأوهام الكاتب
ويضيف “هناك ذكريات متوهمة وأخرى حدثت بالفعل، وهذا ما يجعل الكتابة محاولة لإعطاء تلك الذكريات صورة روائية متكاملة يمتزج فيها الحقيقي بالخيالي والواقع بالحلم، والصورة المادية بالصورة المثالية. وفي روايتي ‘غرفة الذكريات’ كان الهاجس هو العودة إلى فترة التسعينات التي عرفت حربا أهلية قاسية في بلادي من خلال حكاية مجموعة من الشعراء الذي يتعرف عليهم الراوي في تلك الفترة”.
ويتابع مفتي “لا تهتم الرواية بتسجيل حوادث الماضي بقدر ما كان يهمها بالأساس التوغل في كوابيسهم وأحلامهم. وهنا تصبح الذكريات المستعادة من طرف الراوي وهو يحاول عبثا العودة إلى زمن مؤلم كأنها عودة إلى أمل ضائع، فترة كوابيس جارحة، ويستخلص منها بعض شعاع الضوء من خلال الكتابة، بعض الأمل من خلال قصص الحب الباقية رغم سواد ذلك الزمن اللعين”.

ضد النسيان

أما القاص سعيد الكفراوي فيقول “الذاكرة هي السلاح الأهم في يد الكاتب لكسر التراتب الزمني السائر عبر خط مستقيم، وتحطيم السياقات التقليدية للغة المستقرة بصورة ما داخل الوعي، وذلك عبر انبثاقات الحكايات القديمة المتمثلة في أساطير يتم من خلالها تشكيل عالم جمالي جديد وفق أنساق مغايرة. الذاكرة للوهلة الأولى محصلة لما جرى في الماضي، لكن في الفن الذاكرة تعيش حاضرها، تعيش داخل المخيلة برموزها وطقوسها. فدور الذاكرة أن تستعيد الماضي بكل جماله وقبحه شريطة أن يحيا الآن وفي المستقبل”.
أما الكاتب محمود الورداني فيؤكد أن “الذاكرة هي ما يشكلنا جميعا، سواء كانت ذاكرة الكاتب أو الذاكرة الجمعية التي تحفظنا ونحفظها منذ تفتح وعينا وحتى وقت الرحيل الحتمي. أحسب أن الذاكرة هي اللوح المحفوظ، المسجل عليه مجمل آلام وأحلام البشر، وأحسب كذلك أن نصوصا كثيرة حفلت بالذاكرة واحتفلت بدورها، فثمة احتفال غني بذاكرة الراوي والشخوص، وأنا منذ وعيت الكتابة أعتمد عليها، ربما لأنها تمنحني فرصة للتأني والتقاط الأنفاس والغوص والرحيل والرجوع، وربما يرجع ذلك لارتباطها الخاص بالزمن الفني، كما قد يرجع ذلك إلى ارتباطها أيضا بكل الأشياء البعيدة التي أجدني دوما في حالة حنين لها، إن ما مضى يكتسي بغبار خفيف عبر السنين لكن يبقى شيء منه عالقا، هو الحنين”.
وترى الكاتبة انتصار عبدالمنعم أن دور الذاكرة في الإبداع يرتبط بمراوغاتها فتقول “الذاكرة، تلك المعجزة المدهشة، التي تمحو ما تشاء، وتثبت ما تشاء، وتعظم من أمر صغير، وتجعل الجبل الشاهق في حجم حبة من الفستق الحلبي إن أرادت في الوقت الذي تشاء أيضا. تلك المدهشة فريدة التكوين، العصية على الفهم، تمثل أداة هامة لنوع غير معتاد من الكتابة. فإذا كان المخيخ هو من يتحكم في حركة الذاكرة، فالأديب على الورق يأخذ دور المخيخ والجهاز
العصبي معا، ويلعب بالذاكرة، يراوغها وهي المراوغة، يكتب لها ما ينبغي أن تخزن بصورة دائمة، فيكون غير قابل للمحو، ويكتب لها ما يجب أن تنسى. وما بين النسيان والتذكر، هناك منطقة مراوغة كالأرجوحة، ينسج عليها الكاتب حكايته، فتبدو في النهاية حكاية حرة لا تتقيد بزمان أو مكان معين، وغير مطالبة بتقديم تفسيرات أو تبريرات لكل حدث أو موقف”.
وعن رأي النقد تقول الأكاديمية العراقية نادية هناوي سعدون “تمثل الذاكرة فعل استعادة لزمن ماض كوسيلة لإصلاح الحاضر والغاية فتح أبواب التعاطي مع المستقبل بوعي، وقد يكون بالعكس أي أن الروائي يهتم بالحاضر وجذوره المستمدة من الماضي لكي ينشغل بها عن التطلع إلى المستقبل”.
وتضيف “ما بين الذاكرتين السردية والقرائية يتم بناء منظومة الوعي فلا يعود للكلمة في الذاكرة معنى؛ بل هي إشارة لمعانٍ عدة تحمل القارئ على التفاعل والمشاركة والإنتاج وبذلك تغدو عملية التذكر بمثابة البوابة للانشطار الذاتي بين ماض ذاهب وحاضر راهن سواء أكانت الذاكرة معطوبة أو مسترسلة أو مستفزة يقظة، لتكون النتيجة فاعلية نفسية تجعل الذات الساردة في ديمومة حياتية. والذاكرة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو تاريخية أو أدبية وهذه الأخيرة تفترض وجود البعدين الواقعي والافتراضي لكي تؤدي وظيفتها الفنية داخل السرد وفق الوعي باللحظة الراهنة للحاضر. وهذا ما يجعل الكتابة الذاكراتية نوعا من المعركة ضد النسيان”.
https://alarab.news/%D9%85%D8%B9%D8%AC%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%88

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى